تحمس الباحثون في العالم أجمع لبروز السرديات ما بعد الكلاسيكية في بداية الألفية الجديدة، فتوزعت الاتجاهات، وتعددت المقاربات. يمكننا التمييز بين تصورين مختلفين. يتحدد أولهما في إعلانه الانطلاق من أسس السرديات الكلاسيكية بهدف تطويرها وتوسيعها. وكان هذا هو المهيمن. بينما ادعى أصحاب التصور الثاني، وهم قلة قليلة، أنهم يتجاوزونها بتصحيح منطلقاتها وتحريف مجراها. وظل على مدى عقدين من الزمن الحديث عن السرديات ما بعد الكلاسيكية جامعا لمختلف المشتغلين بالسرد أيا كان ادعاؤهم أو إعلانهم مواقفهم من السرديات الكلاسيكية.
نجد، منذ أن صار الالتفات إلى السرديات عربيا في الآونة الأخيرة، أن المنطلقات العامة لا تخرج عن بعض الآراء التي تنتشر حول السرديات ما بعد الكلاسيكية كما تتحقق عالميا، وأن الاصطفاف إلى جانب هذا الاتجاه أو ذاك لا يخرج عن الطريقة التي اشتغلنا بها مع مختلف النظريات الأدبية الغربية التي انتقلت إلينا. يجمع كل الباحثين على أن السرديات ما بعد الكلاسيكية صارت بمثابة مظلة واسعة يستظل بها كل من صار يشتغل بالسرد، أيا كان جنسه أو نوعه، أو نمطه. وأرى أن السرديات الكلاسيكية أمست بذلك ملتقى تجمعت حوله دراسات متعددة، وكل منها فتح له طريقا من الطرق التي يتيحها هذا الملتقى. فكان أن تعددت المسالك والاتجاهات. وكلما ابتعدت هذه الاتجاهات عن موئل الملتقى الجامع، تناءت المسافات، وكل منها يتخذ له مسارا غير محدد الملامح، ولا يدري إلى أين يتجه. فكانت الهجانة هي السمة المهيمنة، وقد تولدت عن عملية تطعيم السرديات الكلاسيكية بنظريات متعددة الأصول والخلفيات، فنأت بذلك الأصول السردياتية في صورتها الأولى التي انبنت عليها. وقلة قليلة جدا هي الاتجاهات التي عملت تطوير السرديات على الحفاظ على منطلقاتها وإجراءاتها الأساسية. وهؤلاء في رأيي هم من يمكن اعتبارهم مطورين للسرديات ومجددين لها. أما من انطلق من تصورات ونظريات سردية لا علاقة لها بالسرديات البنيوية، فقد اكتفوا بالتعامل معها على أنها «علبة أدوات» يستثمرون بعض مصطلحاتها مقدمينها بطريقة خاصة باجتهاداتهم وتصوراتهم.
لقد نجم عن هذا التوسيع لمظلة السرديات أن صارت هي القاسم الجامع الذي يؤلف بين مختلف الاتجاهات، وفي الوقت نفسه العامل المفرق لكل ما ينضوي تحت تلك المظلة.
لا أتخذ موقفا من أي من اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية، رغم انتقادي لها، وموقفي المعارض لبعضها. إنها محاولات للتجديد والتطوير، واجتهادات لفتح مسارات جديدة لتحليل السرد، وقد صار بصفته موضوعا ملتقى لاختصاصات متعددة.
وهذه هي المفارقة التي عرفتها السرديات في صيرورتها. لذلك لا عجب أن نجد من يتحدث عن السرديات بالمفرد، تارة، وبالجمع طورا. والكل يعتبر نفسه منخرطا في السرديات ما بعد الكلاسيكية، رغم ما بينهم من اختلافات. لم أجد في كل قراءاتي للأدبيات الجديدة حول السرديات ما بعد الكلاسيكية من يرجع الأمور إلى نصابها الطبيعي بصورة لا لبس فيها ولا إبهام، غير توم كينت الذي رأيته يعبر عن تصوري للسرديات منذ بدايات اشتغالي بها، في الوقت الذي صدر فيه كتاب جنيت 1983، وما عرفه من نقاشات.
ألخص وجهة نظر كينت في جملتين اثنتين، أما الجملة الأولى، فيعبر عنها بقوله: «كما هو معروف بشكل جيد، فإن أي مجال للدراسة في الإنسانيات عندما يصبح موضوعا يتزايد الاهتمام به، إلا وساهم ذلك في نقصان وحدته». ويضرب مثال ذلك من السرديات التي اتسع التعامل معها كثيرا إلى حد أنها فقدت وحدتها. وبعد اختزاله لمختلف الاتجاهات ما بعد الكلاسيكية في موقفين اثنين وانتقاده لهما، لأن أولهما يرمي بتوسيع السرديات إلى جعلها «نظرية تأويلية»، والثاني الذي يعمل على حصر مجالها. أما الجملة الثانية فيجعلها تحت عنوان «نحو سرديات كلاسيكية»، وجاءت بالصيغة التالية: «يجب أن نترك السرديات كما هي».
لا أتخذ موقفا من أي من اتجاهات السرديات ما بعد الكلاسيكية، رغم انتقادي لها، وموقفي المعارض لبعضها. إنها محاولات للتجديد والتطوير، واجتهادات لفتح مسارات جديدة لتحليل السرد، وقد صار بصفته موضوعا ملتقى لاختصاصات متعددة. ولا يمكن الحكم على هذه الاجتهادات لأنها لم ترسُ إلى الآن على مرفأ معين، وحتى آفاقها ما تزال مفتوحة رغم مرور أكثر من عقدين. لقد نجحت السرديات البنيوية في أن تؤسس نفسها باعتبارها مشروعا متميزا في تحليل السرد عن غيرها من كل النظريات السردية المعاصرة لها، أو السابقة عليها، خلال عقد واحد. وقد أهلها ذلك لتصبح إمبراطورية عظمى كل يدعي انتماءه إليها، وسعيه إلى الانخراط في توسيعها وتطويرها.
إن «السرديات كما هي»، كما أتصورها، وكما عبَّر عن ذلك كينت، بلا التواء ولا غموض، هي السرديات في صيغتها الأولى، وهي تتقدم مشروعا علميا لتحليل السرد. وهذا المشروع يزاوج بين المنهج الاستنباطي في البحث عن الكليات (العلم)، والاستقرائي التي يتطور بتوسيع دائرة المتون التي يشتغل بها (النقد). وفي الوقت نفسه يزاوج بين المنهج الكمي في تحليل الظواهر السردية علميا، والمنهج الكيفي في محاولة تحليل تلك الظواهر وتفسيرها.
إن اتخاذ السرديات ما بعد الكلاسيكية «شعارا» ليس في رأيي سوى صورة من صور «التخفي» وراء مجال لا حدود له، وإعلان للانتماء إليها تأكيدا لهوية بحثية. أما السرديات فهي علم أفقي (عام)، ونقد عمودي (خاص).
كاتب مغربي