آخر أعياد اليسار الأوروبي؟

حجم الخط
2

في سنة 1904 أطلق الاشتراكي الفرنسي جان جوريس (1859-1914) صحيفةL’Humanité («الإنسانية»)، التي أراد لها أن تكون لسان حال «أممية الشغيلة» والحركات الاشتراكية واليسارية الفرنسية على اختلاف تياراتها، فتقلبت أقدارها مراراً إلى أن استقرت كمطبوعة ناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي؛ حتى تاريخ استقلالها المالي والإداري عنه في سنة 2001، رغم بقائها وفيّة للحزب وخطّه السياسي وبرامجه. ولعلّ واحدة من المحطات الألمع في تاريخ الصحيفة كانت أعداد الملحق الأسبوعي الذي ابتدأ في الصدور منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وأشرف عليه الشاعر الفرنسي الشهير لوي أراغون.

«عيد الأومانيتيه» ليس أضخم احتفال سياسي في فرنسا المعاصرة، فحسب، بل قد يصحّ الافتراض بأنه أيضاً أحد آخر قلاع الاحتفالات الشبابية لليسار الفرنسي، وربما الأوروبي بأسره؟

في تلك الحقبة تحديداً، وبسبب الضائقة المالية التي أخذ الحزب يعاني منها (ولسوف يتضح، لاحقاً، أنّ قيادة الحزب قبلت معونات مالية من الاتحاد السوفييتي)، جرى تنظيم احتفالية باسم الصحيفة، كان غرضها الرئيسي هو جمع التبرعات. والتاريخ يشير إلى أنّ أياً من أصحاب الفكرة لم يراوده أدنى أمل في أنّ ذلك النشاط البسيط سوف ينقلب إلى عيد شعبي فرنسي، بكلّ ما تنطوي عليه صفة الشعبية من تنويعات: سياسية ونقابية وثقافية وأدبية وموسيقية ومسرحية ومعارض كتب وفنون تشكيلية وألعاب أطفال؛ فضلاً عن مئات المنصّات التي تقدّم أصناف الطعام من مختلف المناطق الفرنسية.
الخطوة النوعية التالية في تطوير فكرة الاحتفالية كانت دعوة الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية وحركات التحرّر الوطني على امتداد العالم، حيث اكتسب العيد صفة المنبر الدولي الرفيع الذي يتيح التعبير عن الرأي والتبشير بالقضايا؛ كما اتخذ صفة المؤتمر العالمي غير الرسمي الذي بات – على أكثر من نحو، خاصة بعد أن تطهّر الحزب من الهيمنة الستالينية داخل صفوفه – ينافس اجتماعات الـ»كومنترن» الرسمية الخاضعة لسيطرة موسكو. وهكذا صار «عيد الأومانيتيه» تقليداً سنوياً احتفالي الطابع في المقام الأوّل، ومنصّة شبابية قد تكون الأضخم من حيث عدد الروّاد والأنشطة والتمثيل والنطاق الجغرافي وتعدّد الحساسيات الإيديولوجية؛ وقد لا يكون من المبالغة القول إنه، أيضاً، آخر مظاهر الصلة الحيوية بين الحزب الشيوعي الفرنسي والشارع الشعبي العريض.
من الإنصاف، في السياق ذاته، التذكير بأنّ الحزب شهد عصراً ذهبياً حافلاً بكلّ عناصر الجذب والاستقطاب، انطوى على بلوغ مستويات تنظيمية وسياسية ونقابية عالية، وعلى إسهام نشط ومباشر في حركة المقاومة ضدّ الاحتلال النازي؛ وهذه، كلها، أنتجت شعبية فائقة كان تتويجها الأبرز نسبة الـ 21,27% التي حاز عليها مرشح الحزب جاك دوكلو في الانتخابات الرئاسية لسنة 1969، وكانت الأعلى على امتداد تاريخ الحزب. ولمَن تعنيه المقارنات، في رئاسيات 2007 حصلت مرشحة الحزب ماري – جورج بوفيه على نسبة 1,93% في الدورة الأولى؛ وأما في انتخابات 2017 فقد اكتفى الحزب بالانضواء تحت راية زعيم حركة «فرنسا الأبية» جان- لوك ملنشون.
مناسبة هذا الذهاب إلى صحيفة الـ»أومانيتيه» والحزب الشيوعي الفرنسي هو أنّ العيد الشعبي التقليدي، وبعد انقطاع فرضته إجراءات كوفيد – 19 في العزل والتباعد، استؤنف خلال أيام نهاية الأسبوع الماضية؛ ساعياً، كما قد يلاحظ أيّ زائر عارف ببرامج العيد وأنشطته في دورات سابقة، إلى أكثر من «نيولوك» كما يجوز القول: في الغناء والموسيقى والمسرح والمعارض أوّلاً، ثمّ في محتوى المناقشات وجلسات الحوار وتواقيع الكتب التي كانت على الدوام بصمة خاصة ميّزت العيد. ولقد توفّر للمنظمين حشد من المناسبات: أولى كبرى تحتفي بالذكرى الـ150 على انطلاق، وسحق، كومونة باريس (18 آذار/ مارس إلى 28 أيار/ مايو 1871)؛ وثانية ليست أقلّ مغزى، حتى بعد انقضاء سنة عليها، هي الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الفرنسي، خلال مؤتمر تور 1920؛ وثالثة مواتية تماماً، هي دروس انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وانتقاد الدور الفرنسي الأطلسي في مآلات ذلك البلد.
ولعلّ من المفيد، أو الطريف ربما، استعراض بعض الأرقام التي تخصّ العيد، في أنّ دورته الأولى بدأت سنة 1930 داخل منتزه ساكو وفانزيتي في بلدة بيزون، ولم يتوقف إلا خلال سنوات الاحتلال النازي وفترة كوفيد -19؛ وأنّ موقعه الحالي في منتزه لاكورنوف يشغل 70 هكتاراً، و70,000 متر مربع من المنصات، و8,000 واجهة، و550 منصّة وكشك عرض، وقرية عالمية، وقدرة على استيعاب 60,000 زائر. وإضافة إلى عدد من كبار الشخصيات الفرنسية، مثل جان جوريس وغبرييل بيري وجان مولان وأراغون وإلزا تريولي ومارسيل كاشان وماري كوري؛ تحمل شوارع الاحتفالية وجاداتها وساحاتها أسماء أمثال ياسر عرفات ونلسون مانديلا وروزا لكسمبورغ ودولوريس إيباروري وسلفادور ألليندي وأنجيلا دافيز وماميا أبو جمال… كان لافتاً مع ذلك، في يقين هذه السطور بالطبع، أنّ مناسبة بعينها غابت عن عيد هذه السنة، هي إحياء الذكرى المئوية لولادة جورج مارشيه (1920-1997)زعيم الحزب التاريخي الأشهر أغلب الظنّ، وأمينه العام بين 1972 وحتى 1994 وأحد آخر ستالينيي الأحزاب الشيوعية الأوروبية. أم يكون ذكر الرجل قد غُيّب عن سابق قصد وتصميم، مع دأب الحزب على طيّ عثرات الماضي؛ خاصة وأنّ «عيد الأومانيتيه» ليس أضخم احتفال سياسي في فرنسا المعاصرة، فحسب، بل قد يصحّ الافتراض بأنه أيضاً أحد آخر قلاع الاحتفالات الشبابية لليسار الفرنسي، وربما الأوروبي بأسره؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    شكرا للأخ صبحي حديدي على ذكر الناشط الاشتراكي، جان جوريس، كعَلَم مؤسس في تراث اليسار الفرنسي – وما كان يميز هذا العَلَم حقا هو موقفه السلمي المضاد لكل أشكال العسكرة والتسلح، وكذلك رفضه لمفهوم «ديكتاتورية البروليتاريا» الذي انطبع بالطابع الستاليني فيما بعد، وكذلك محاولته الأهم في التوفيق بين المادية والمثالية..
    وأود أن أذكر هنا عَلَما آخر سابقا، في هذا التراث اليساري الفرنسي، ألا وهو الفيلسوف الاشتراكي (الطوباوي)، شارل فورييه (1772-1837)، الذي كان مفكرا اشتراكيا مؤثرا في زمانه، بالفعل، وحتى قبل بروز الأفكار الماركسية ذاتها، والذي كان يدعو إلى فكرة «الاتحادية» من خلال التشارك الطوعي، على الرغم من عدم دعوته إلى إلغاءِ الملكية الخاصة إلغاءً كليا.. لكن أهم ما يميزه حقيقة، في هذا السياق، هو تأسيسه للاصطلاح المعروف الآن بـ«النسوية» Feminism ، ونضاله اللافت من ثم من أجل تحرير المرأة: إذ قال (كما قال ماركس ذاته)، في هذه القرينة، إن التقدم الاجتماعي نحو الحضارة الحقيقية إنما يسير تسيارا تناسبيا وتناغميا مع التقدم النسائي نحو الحرية الحقيقية.. !!
    /للكلام بقية/

    1. يقول آصال أبسال:

      /بقية الكلام/
      وشارل فورييه هو الشهير بقوله كذلك فيما يخص مفهوم «الطاغية العتي المصطنَع»، كما ورد في مقال غياث المرزوق، بما معناه على النحو التالي:
      [ولَئِنْ كَانَ الطُّغَاةُ العُتَاةُ المُصْطَنَعُونَ، أيْنَمَا كَانُوا، يُفَضِّلونَ جُلَّ بَقَائِهِمْ «صَدَاقَةَ» الكِلابِ لِأَنَّ هذِهِ الكَائِنَاتِ الحَيَوَانِيَّةَ سَوْفَ تَبْقَى لهُمْ خَادِمَةً وَفِيَّةً، وَطَائِعَةً مُثْلَى، حَتَّى لَوْ جِيرَ عَلَيْهَا أَشَدَّ الجَوْرِ، وَحَتَّى لَوْ أُذِلَّتْ أَشَدَّ الإِذْلالِ، كما يَرْتَئِي الفيلسوفُ الاشتراكيُّ الفرنسيُّ شَارل فورْيِيرْ، فإنَّ في مُجْتَمعَاتِنَا الحَزِينَةِ، حقًّا، هُنَاكَ مَنْ يَسْتَحْلُونَ الأَشَدَّ من ذلك حَتَّى. فَمَا أَكْثَرَهُمْ مَنْ هُمْ خَادِمُو رَهْطِ الطُّغَاةِ الأَوْفِيَاءُ، وَمَاسِحُو أَحْذِيَتِهِمْ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ مَنْ هُمْ طَائِعُو فَلِّ الطُّغَاةِ الأَمَاثِلُ، وَلاحِسُو أَقْفِيَتِهِم]… اهـ
      / عن مقال غياث المرزوق، «ذٰلِكَ ٱلغَبَاءُ ٱلقَهْرِيُّ ٱلتَّكْرَارِيُّ: مَاْ ٱلخَفِيَّةُ بَيْنَ ٱلطُّغَاةِ وَٱلكِلابِ؟»، منشور في عدة مصادر (19 نيسان/أبريل 2018)/..

إشترك في قائمتنا البريدية