من الصعوبة بمكان إيجاد الكلمات للتعليق أو التعقيب على ما حدث… ليس فقط لغموض الصورة (على الأقل حتى وقت الكتابة) وتضارب الأخبار عن عدد القتلى والمصابين وتفاصيل الهجوم من حيث الطرف البادئ، ووجود الأسلحة من عدمه الخ… وإنما ليقينٍ لا يطاله أدنى شك بأن هذا اليوم (الذي تحسبه الغالبية ممن كانوا يستنفرون القوات للهجوم مجرد يومٍ آخر تُستأنف الحياة طبيعيةً بعده)، سيشكل فعلاً مؤسساً ومنعطفاً فاصلاً في مستقبل مصر والعملية السياسية فيها، فالأمر هنا لا يتعلق فقط بفض اعتصامٍ آخر باستخدام العنف، وإنما بما سيؤدي له ذلك من تداعياتٍ مستقبلية على طبيعة العملية السياسية وتوازنات القوى بين الأطراف.
بدايةً، لا أخفي أنني لم أتحمس يوماً للإخوان، ولم أكن من مناصريهم، ولن أتردد في تحميل فشلهم الذريع طيلة عامٍ في السلطة، ولاحقاً عنادهم ومكابرتهم وتحديهم للإرادة الشعبية، المسؤولية المباشرة على ما وصلنا إليه، لكن ذلك لا ينفي ولا يتعارض مع كوني أجهد نفسي وأتحسس لكي أختار بعناية كل كلمة أقولها وأكتبها، إدراكاً مني أن أي كلمةٍ تصدر عن أيٍ منا اليوم تختلف عن سابقاتها، فهي شهادةٌ للتاريخ، وسوف نحاسب عليها لاحقاً.. وعليه فلا بد من محاولة استقراء بعض النتائج الأولية في سياق ذلك الحدث المتغير أمامنا.
لقد جنى الإخوان وشتى فصائل الإسلام السياسي على هذه الثورة، حين انحرفوا بها عن طريق كف بطش الدولة، ومحاربة الفقر، وإصلاح التفاوتات الطبقية العنيفة والشاسعة، بإعادة الهيكلة الاجتماعية – الاقتصادية، المطلب الأساسي الذي تقوم من أجله أي ثورة، إلى صراعات الهوية الزلقة، لذا نجد أننا بعد ما يقارب الثلاثة أعوام لم نجن مكسباً اجتماعياً واحداً على الأرض، اللهم إلا حق الاعتصام واكتساب الشعب حالةً من الحيوية غير المسبوقة طيلة الثلاثة عقودٍ أو يزيد من النعاس، ولا نعلم صراحةً إذا كان هذا أيضاً بات عرضةً للتبخر… لقد شق الإخوان المجتمع شقاً عامودياً عابراً للطبقات، ممزقاً للأسر على قضايا ليست بقضايا، على أفكارٍ وتصورات وقناعاتٍ محلها الأساسي في ضمير كلٍ منا، وأداتها في رأيي العمل الدعوي الإصلاحي والموعظة الحسنة والأسوة الطيبة، لا التفعيل القسري من أعلى عن طريق أدوات الدولة وعسفها؛ والكثيرون، بل كل مناصري الإخوان في الحقيقة وغالبية الجمهور لا يلتفتون إلا إلى القشرة الدينية الخارجية الرفيعة، ويفوتهم الالتفات إلى طبيعة الجماعة الأساسية وانحيازاتها الاجتماعية – الاقتصادية التي لا تختلف مطلقاً عن انحيازات مبارك، بل هي أكثر صفاقةً وشراسةً، بدليل كل التطمينات المبذولة لأمريكا وسعيهم البائس وراء قرض الصندوق، والشاهد أننا باختصار شديد، ومنذ 25 يناير لم نزل نعيش في ظل اقتصادٍ ريعيٍ منحازٍ إلى شريحة شديدة الضآلة، على حساب بحرٍ من البشر لم تزد أوضاعهم إلا سوءاً، والإخوان بالخصوص والببلاوي وقنديل الخ، ليسوا جميعاً إلا تنويعة على نفس النغم النشاز لعهد السادات – مبارك.
لقد أثبتت أحداث البارحة (التي ربما لم نر آخرها…) أن محاولات التفاهم وربما التعايش بين الإخوان وسائر المجتمع باتت مستحيلة، وأن الشروخ التي تمزق المجتمع تعمقت وصارت دامية، ويا له من واقعٍ بائسٍ ذلك الذي نعيشه، والذي دشنته منذ ثمانين عاماً هذه الجماعة، حيث نخوض صراعات الهوية لا على صفحات الكتب والجرائد والمناظرات والندوات، وإنما بالدم والبارود في الطرقات بين المغرر بهم الموجودين باختيارهم والمجندين الغلابة من القطاعات الأفقر والأكثر أميةً في القرى الأكثر حرماناً وعوزاً في مصر، الذين لم يختاروا هذه المعركة وراحوا ضحيتها وسيصلون في نعوشٍ إلى أهاليهم، الذين كانوا يعولون عليهم للمساعدة على المعايش بعد فترة الجندية… بؤس البؤس.
لم كل هذا؟
من ناحيةٍ أخرى، وبعد فرض حالة الطوارئ فإن بضعة تساؤلاتٍ تلح علينا: أدرك تماماً أن الإخوان هم من أوصلنا إلى تلك الحارة ـ السد باعتصامهم الفج وبنائهم الحواجز في مكانٍ مهمٍ وحيوي في القاهرة، التي تسببت في وقف الحال ومضايقة الآلاف وربما الملايين من المواطنين، خاصةً في الأماكن المحيطة باعتصامهم، وقد لا أجادل كثيراً في أنه لم تكن هناك وسيلة أخرى لفضه سوى القوة (التي تدل شواهد عديدة على أنها لم تكن غشوماً على عكس ما عهدناه من قوات الأمن في مصر…) لكن أليس لنا أن نقلق من هذه السابقة على الرغم من كونها ‘مبررة’؟ لقد منح ‘الشعب’ تفويضاً للسيسي، فإلى متى يستمر هذا التفويض وما حدوده؟ أليس لنا أن نخشى من تكريس معادلةٍ مفادها أن الاعتصامات/ التظاهرات تساوي الفوضى، وفي ضوء قناعةٍ ما تني تترسخ للأسف في ذهن قطاعاتٍ تزداد اتساعاً من الجمهور، بأن الأمور كانت أفضل في عهد مبارك العادلي، وأن الثورة لم تجلب سوى انعدام الأمن ووقف الأرزاق، وأننا شعبٌ لا يستحق أفضل من ذلك، ألا تشكل تلك السابقة زائدا ‘التفويض’ تصريحاً مطلقاً بالتعامل بكل وسيلةٍ ترتئيها الدولة من أجل إعادة ‘الحياة الطبيعية’ كي ما ‘تدور عجلة الاقتصاد والإنتاج’ أي باختصار تمهيد الطريق أمام الردة والانقلاب على الثورة من الأساس، عن طريق شيطنة الثوار مستقبلاً ومن ثم البطش بالمعارضة أو ترويعها وتحجيمها في أقل تقدير؟
لا بد في النهاية أن أعترف بأن أشد ما يدهشني ويروعني في آنٍ معاً هو ما أراه من فرحة أنصار كلا الطرفين بسقوط قتلى من الطرف الآخر، وكأنهم ليسوا مواطنين مصريين، وكأن أسرةً في مصر تخلو من متعاطفٍ أو أكثر مع الإخوان وفصائل الإسلام السياسي، ويتناسون أنهم جميعاً سواءٌ… كلهم ضحايا الفقر والجهل والتجريف السياسي والتهميش الاجتماعي والاقتصادي. في تقديري الشخصي أن الطرفين لا يدركان ولا يتصوران عواقب ما حدث على المديين القريب والبعيد.. يجوز أن الإخوان فرضوا علينا مسار الأحداث هذا، إلا أنها نتيجةٌ لا تسر، فهي على ذلك بمثابة ‘شرٌ لا بد منه’، ولا يجب أن تغيب عن أنظارنا حقائق فارقة: أن الدماء تفتح الطريق للمزيد من الدماء التي قد تلاحقنا وتتسلط على العملية السياسية لسنواتٍ مقبلة، وما هو أهم من ذلك في نظري أن العنف قد تم تكريسه ‘بتفويضٍ شعبي’، الأمر الذي أعده سابقةً أخرى ربما، وأن القوات المسلحة والدولة العميقة خرجتا أقوى الأطراف من كل الصراعات، وهذه حقيقةٌ جد مقلقة… وإني لأزعم أن الدكتور البرادعي قد أدرك كل ما سبق، مما حدا به للاستقالة مجرداً الحكومة من وجهٍ معتدلٍ ومحترم.
لقد فضت الاعتصامات، في الوقت الحالي على الأقل.. إلا أنه يومٌ أسود في تاريخ مصر، والسؤال الآن: هل هذه آخر الدماء أم آخر الثورة أم بداية المجهول؟
كاتب مصري
أكثر من600قتيل و8000 جريح ولم تكن قوه غشوم الى متى ندفن رؤوسنا في الرمال