آخر كوارث تونس

في زحمة انشغالها التام والمحموم بالتحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية، لم يعرف بعد قانونها المنظم وموعدها الرسمي، ووسط ارتفاع صاروخي لافت في تكاليف الحياة، لا تجد الطبقة السياسية وكثير من التونسيين مكانا او وقتا للانتباه الى مواقف او قرارات يجري الاعلان عنها بين الحين والاخر، وليس من السهل ان تُحدث للوهلة الاولى اي اثر فوري ومباشر على واقعهم.
اخر تلك القرارات ما اعلنه وزير الثقافة، في مؤتمر صحافي عقده الجمعة الماضي بمقر الوزارة، عن الغاء دورة هذا العام لمعرض تونس الدولي للكتاب. حتى الان لا شيء يدل لا من قريب ولا من بعيد على ان قرارا بمثل تلك الاهمية يلقى استغرابا او ردة فعل او حتى مجرد بادرة محدودة للاحتجاج، فالانظار مصوبة بالكامل نحو تلك الانتخابات التي طال امد انتظارها، وعُلقت عليها الآمال، وسرت تكهنات في الايام الاخيرة من بعض السياسيين ورجال القانون حول احتمال الا تجرى هذا العام مثلما هو مقرر في الدستور الجديد، مما حدا برئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لان يطلق صافرة انذار جدي بوقوع كارثة دستورية، في حال التخلف عن موعد من المفترض الا يتعدى سقفه نهاية السنة الحالية.
الكارثة الدستورية التي تلوح الان على مرمى حجر في صورة ما، لم يسارع المجلس التأسيسي الى المصادقة على قانون الانتخابات وتحديد موعد نهائي ورسمي لها ليست الاولى او الوحيدة، فالبلد يعيش منذ الهروب الغامض والمفاجئ للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي قبل، ازيد من ثلاثة اعوام على وقع سلسلة من الكوارث التي لا تنتهي، بدءا بكارثة ارهاب يطل برأسه في اوقات، ليختفي ويذوب تماما في اخرى، وصولا الى كارثة انهيارالدينار وارتفاع الاسعار وتدحرج مؤشرات الاقتصاد التي يضطر المواطن البسيط وحده لدفع ثمنها، فضلا عن كوارث اخرى قديمة جديدة كالهجرة السرية والادمان ومخلفات انسياق بعض الشباب وراء دعوات الجهاد في سوريا وغيرها.
الغاء دورة معرض الكتاب او تأجيلها الى وقت غير معلوم وفقا للتوصيف الذي يفضله الوزير، لا يعني شيئا اذن امام كل تلك الكوارث العديدة التي باتت تطوق البلد من اقصاه الى ادناه. وقد تكون ضغــــوط الواقع وطبيعة الظــــرف الدقيق والحساس الذي تجتازه البلاد تســـمح بالتغاضي، ولو بشكل مؤقت، عما يعتبره البعض ترفا زائدا يمكن الاستغناء عنه امام الحاجة الملحة والعاجلة الى تركيز الجهد فقط على الثالوث المقدس، اي الامن والاقتصاد وتحضير الانتخابات.
لكن المصيبة الاكبر هي افتقاد رؤية بعيدة المدى يكون الكتاب والمعرفة بشكل عام واحدا من دعائمها الصلبة والاساسية، لا مجرد ديكور تجميلي ثانوي ومكمل. مثل تلك الرؤية المفقودة قد تمتد لتشمل مسائل اخرى لا تلقى الان اهتماما واسعا في تونس مثل، مسألة الموارد المائية لكنها لا تطال للاسف الشديد محور وقلب الموارد البشرية، اي العقول والضمائر التي اصيبت بتكلس ذهني حاد بفعل عقود طويلة من الاستبداد والانغلاق.
في اواخر فبراي/شباط الماضي وضمن ندوة نظمها المركز التونسي للدراسات الاستراتيجية حول ‘المنظومة المائية بالبلاد التونسية في افاق 2030′ صرح الرئيس التونسي الدكتور المنصف المرزوقي في خطاب الافتتاح، بان الامن المائي والغذائي والطاقة اضحت من اولويات الامن الوطني، وبعد ان حذر من خطر تعرض البلاد الى كارثة مائية في المستقبل، وقدم نصائح لمواطنيه لترشيد استهلاك الماء، نصحهم بضرورة ان يكون لديهم ما سماه بـ’التفكير الكوارثي’ لاستشراف الكارثة وبحث سبل التصدي لها، لكن الامر الذي غفل عنه الرئيس ويغفل عنه معظم السياسيين ان مثل ذلك التفكير لا يمكن ان يتشكل وسط حالة من الخراب المعرفي الشامل، وخواء عقول يتمدد باستمرار ولا احد يعرف متى وكيف سينتهي، وهو امر يمكن التقاطه ومعاينته بسهولة تامة ومن دون الحاجة لخبراء او اخصائيين، من خلال تأمل سلوك الاجيال الجديدة وملاحظة تصرفاتها ومواقفها. الكسب المادي السهل والسريع هو وحده من يقود هؤلاء، والمستقبل قد لا يعنــــي لهم شــيئا كثيرا امام استفحال نزعة نفعية مقيتة شعارها الوحيد هو ‘من يقبض اكبر مبلغ في اسرع وقت’ واخر اهتماماتها هو الفكر والمعرفة الانسانية. تلك النظرة الضيقة والهجينة باتت الان جزءا ثابتا في المشهد العام بتونس، وحتى تبريرات وزير الثقافة حول الغاء معرض الكتاب لم تبتعد عنها كثيرا. لقد قال الوزير بلهجة براغماتية صارمة: ‘ما الفائدة من تنظيم تظاهرة ثقافية لا تنجح؟ اموال الوزارة هي مال عام يجب الحفاظ عليه’.
ربط الثقافة او المعرفة بما تدره من عوائد مالية مجزية وسريعة هو واحد من تلك الاعراض الخطيرة التي تطفو على السطح، اما في القاع فلا تزال تختفي علل وامراض عديدة ومتنوعة المصادر، وليس هناك ما يدل على ان الاحزاب السياسية التي تلهث فقط وراء اصوات الناس سوف تهتم بها او تدرك حتى حجمها وعواقب استمرارها، مادام كل ما يحرك الناس ويدفعهم للثورة والتمرد هو خواء البطون لا العقول.
في اخر طريق تونس الشاق والصعب للخروج بصفة حاسمة ونهائية من الاستبداد، هناك كارثة فكرية وحضارية رهيبة لا ينتبه لها معظم التونسيين. تلك الكارثة قد تكون أم الكوارث، ولكن ايضا الاختبار الاهم والاكثر صعوبة لقدرة البلد على ان يكون بالفعل نموذجا فريدا واستثناء عربيا واقليميا بارزا وناجحا. *

‘ كاتب صحافي من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد كمال بن صالح- فنلدا:

    تحليل جد عقلاني ومنطقي للأحداث في تونس، تونسنا لا تستحق كل هذه الكوارث، ولكن تونس تزخر بالشرفاء،سننهض من جديد إن شاء الله.

  2. يقول نضير الجراية تونس:

    السياسيون في تونس ومن يسمنهم بالنخبة يقولون أن التونسي مثقف؟

إشترك في قائمتنا البريدية