خمس أساطير يسعى جيس نورمان إلى تبديدها في كتابه «آدم سميث، أبُ الاقتصاد» (نيويورك، 2018). هي أساطير يعتبرها انتشرت في القرنين الماضيين ولا يزال يردّدها أكاديميّون واقتصاديّون وسياسيّون كأنّها مسلّمات. أوّلها أنّ هناك انفصاما بين آدم سميث في كتابه «نظرية الشعور الأخلاقي» (1759) وبين سميث في كتابه الأشهر «مباحث في سمات وأسباب ثروة الأمم» (1776). الأوّل تبعاً لهذا المزعم مصنّف في امتداح الأنانية والجشع، والثاني منافحة عن الطبيعة الخيّرة والغيريّة للإنسان. في الأوّل، يشدّد على «الإنسان الجوّاني» الموجود في كل واحد منا، القادر على أن يعتزل أهواءه ومصالحه ما يمنحه القدرة على استشعار أوضاع الآخرين، وفي الثاني تتقدّم المصلحة الأنانية لكل واحد وتستثمر قدرة الانسان على الاستشعار بأوضاع الآخرين في السعي من أجل الكسب بالسوق.
يشرح نورمان كم من وقت استغرق بلا طائل من أجل تفسير أحجية «السميثين» المختلفين، لا سيّما وأنّ الاقتصاديّ والفيلسوف الاسكتلندي أعاد اصدار كتابيه الأوّل والثاني من دون أن يتعامل معهما للحظة على أنهّما يتناقضان، بل أنّهما يكمّلان بعضهما البعض، وأنّ الفكرة الأساسية التي يبسطها في كل منهما هي جذرية التبادل في حياة البشر، التبادل التخاطبي عبر اللغة، تبادل الاحترام في الأخلاق، والتبادل السلعي في الاقتصاد السياسي. لا يعني ذلك، بالنسبة الى نورمان، أن فكر سميث لم يتطوّر، ولا ينفي الاختلاف في موضوعهما، لكنه سميث لم يفّكر يوماً بأنّ القيم الأخلاقية تنحصر في العلاقات غير الاقتصادية بين البشر وتفقد كل قيمة في حياة السوق. بالعكس، السوق عنده تخضع لرزمة من القواعد الاخلاقية، لأنّه كان يعتقد بالفعل أنّه في عملية التبادل التجاري يمكن أن يكون البائع والشاري مستفيدين في ذات الوقت. ما يقوله نورمان أن «سميث لم يكن كوزموبوليتياً في الأخلاق لكنه ما كان يعتقد بأنّ العالم التجاري هو من تلقاء ذاته عالم لا أخلاقي، ولا هو اعتقد بأنّ الاقتصاد السياسي علم خال من القيم. بالعكس تماماً».
الأسطورة الثانية هي أنّ سميث داعية الأنا وتقديم المصلحة الشخصية على كلّ مصلحة، ومن الذين سوّقوا هذه النظرة الخاطئة جوزيف ستيغليتز. ما يتوصل اليه نورمان في سياق استعادة لسيرة سميث وأعماله، أنّ الأخير، الذي هو بالأساس فيلسوف في كل أعماله، تكلّم بالفعل عن أهمية حبّ الذات سواء في نظرته الى الأخلاق أو في نظرته إلى التجارة، وأنّه عمل بالتأكيد على تسويغ مشروعية التجارة ومراكمة الرأسمال، لكن «حبّ الذات» في فكره تتواشج مع «التعاطف» والشعور بالغير والتنبيه على غريزة المقايضة لدى البشر، وأنّ رغبة في محاكاة نيوتن كنموذج أعلى لرجل العلم كانت تدفع لبناء منظومته على أساس عدد من الأفكار الأساسية المتمايزة عن بعضها البعض، بدلاً من بنائها كمنظومة تتمحور حول فكرة واحدة، وأنّه في نفس الوقت ما كان يعتقد بأنّ هناك شيئاً ثابتاً يمكن دعوته «الطبيعة الإنسانية»، ولو أنّه أخذ عدداً مما اعتبره غرائز ورغبات متأصلة في البشر كأساسية وأدرك أنّه يمكن أن تكون لكل نفر أكثر من هوية. للبشر عند سميث سمات مشتركات، لكنهم يتشكلون تبعاً لخيارات يأخذونها وظروف يعايشونها. من هنا، فكرة «حب الذات» الأساسية في فلسفة سميث تختلف تماماً عن «المصلحة الأنانية».
يجب أن تكون هناك ضوابط تشريعية للأسواق تمنع الغش والاحتكار
يستعيد نورمان الجملة الشهيرة لسميث «لا ننتظر طعام العشاء من الجزار والخبّاز لأنهما طيبّان، بل لأنهما يسعيان وراء مصلحتهما الخاصة، ونحن نركن ليس لروحيتهما الإنسانية وإنّما لحبّ الذات عند كل منهما، ولا نتحدث اليهما انطلاقاً من ضروراتنا، بل انطلاقاً من مزاياهما». هذه الجملة كثيراً ما جرى تفسيرها بشكل اختزالي، كما لو أنّها تتداعى إلى نشر فكرة الإنسان الأناني الذي ينبغي أن يعامل الآخرين على أنّهم هم أيضاً أناس أنانيّون، في حين أنّها تفيد العكس، وتبني على أنّ التبادل مسوّغ بين البشر بالضبط لأن كل واحد يسعى وراء «حب الذات». حب الذات مختلف تماماً، بالنسبة الى نورمان عن «المصلحة الأنانية»، وهو حبّ لحريّة الآخرين في الوقت نفسه، وتشديد على أنّه ليس هناك آخر يمكنه أن يحبّك أكثر من نفسك، وأنّ الناس في موقع أخلاقي يتيح لها أن تقيس مصالحها بشكل أفضل مما يمكن أن يقيسه له الحكام.
لا يقبل نورمان اتهام سميث بأنّ كان نصير الأثرياء، ويبرز فصول «ثروة الأمم» التي تندّد بمؤسسات وتقاليد تأبيد الفقر، وبخاصة قوانين التوريث في عصره. ويتطرّف نورمان بعض الشيء هنا، اذ يدرج سميث في سياق «المساواتيين» وأنّه عندما تتعارض مصالح الأغنياء والفقراء ينحاز سميث دوماً الى مصلحة الفقراء، لأنّ الفقراء وليس الأثرياء هم الذين كانوا يعانون الأمرين في عصره بسبب من التقييد على حركتهم.
الأسطورة الرابعة التي يبدّدها نورمان هي أن سميث صاحب مقولة «دعه يعمل دعه يمرّ». بكل بساطة يكشف الكاتب أنّ سميث لم يقل يوماً مثل هذا، وأنّ العبارة للاقتصادي الفرنسي كيناي، بل أن سميث لم يستخدمها، وأنّه كان على العكس من ذلك مقتنعاً بوجوب أن تكون هناك ضوابط تشريعية للأسواق تمنع الغش والاحتكار وأنّه ما كان يسلّم بأن السوق يضمن نفسه بنفسه. كان سميث مدركاً تماماً لأن الأسواق يمكن أن تسوء حالتها، ولا بدّ من التدخّل حينها لإنقاذ الأسس الضامنة للتبادل الحرّ.
ولعلّ أهمّ ما يساهم كتاب نورمان في مراجعته هو الصورة النمطية عن سميث كمفكر اقتصادي، وهذه هي «الأسطورة الخامسة». صحيح أنه أب الاقتصاد الحديث، لكنه هو نفسه لم يكن اقتصادياً في المقام الأول، وأنّه طرح نفسه أساساً ودائماً كفيلسوف، وأنّه حتى في الجانب الاقتصادي من فلسفته اولى عناية بفهم السمات والأسباب، وليس استصدار توقّعات استشرافية على ما سيؤول اليه المفكرون الاقتصاديون في الزمن الحداثي. كفيلسوف، لم يرسم سميث حداً فاصلاً بين ما هو اقتصاد وما هو سياسة، فليس ثمة سوق اقتصادية بحت عنده ولا حكومة سياسية صرف.
يحثّك كتاب نورمان على إعادة اكتشاف سميث من خلال كتبه، التي غالباً ما تذكر عناوينها، ويعاد طباعتها، ونادراً ما تقرأ، وقد سبق له أن قام بالشيء نفسه من خلال اعادة سرده لسيرة ادموند بيورك «المحافظ الأوّل»، وهو يقارن بين هذين المفكرين، من حيث انهما طوّراً، كلّ في وجهة مختلفة عن الآخر، فهماً للفاعل السياسي على أنّه «فيلسوف ممارِس». ثقة سميث الزائدة عن اللزوم بالتجانس بين الأشياء، والرهاب الذي طبع بيورك من رؤية نظام الأشياء ينهار مع الثورة الفرنسية، ينتميان مع ذلك الى منطلقين ايديولوجيين مختلفين. سميث يبقى ابن الأنوار، وبيورك من آباء الأنوار المضادة، لكن ليس بتفصيل أنّ كلا منهما كانت له مواقف مندّدة بـ«شركة الهند الشرقية» البريطانية ونهبها لثروات الهند. يبقى أنّ فكرة السياسي كفيلسوف ممارس، هي أكثر ما يسوّغ العودة لاكتشاف آدم سميث وادموند بيورك.
٭ كاتب لبناني