«آلام ذئب الجنوب».. شجرةٌ ميتاروائية ونصٌّ حيوي

إسماعيل إبراهيم عبد
حجم الخط
3

في ميتاروائيته «آلام ذئب الجنوب» يحتاط محمد المطرود باللغة الوسيطة ما بين اللفظ وتجريد المعنى. هذا العمل الذي بين يدي للكاتب، في ظني، قد احتوى على قدر كبير من النجاح والتفرد فهو أشبه بشجرة لميتاروائية مورقة، ولعل المقاربة بين الشجرة الحقيقية وشجرة الميتاروائية تحدث للمرة الأولى عند كُتاب الرواية العربية. ونحن هنا نضع الشجرتين مجسّاً حياتياً على النحو الآتي: 1ـ تتألف الشجرة من جذور وجذع وسيقان وأوراق، والفضاء الوجودي لها هو التربة والماء والريح، وطوارئ الموجودات المزيدة للحيوية، والطوارئ المؤذية. 2ـ شجرة الميتاروائية تتألف من/(الجذور= المصادر= المجتمع والخيال)، (الجذع = الراوي والبطل)، (السيقان = النساء)، (الأوراق = الأفعال = الأحداث)، (الفضاء = الزمان والمكان، والظرف والبيئة، حركة المقاومة السلطات). 3ـ الإجراءات: (في الطبيعة يكون الإجراء هو استثمار الوجود الحقيقي للأشجار، كونها نِعَماً ممنوحة للبشر. ومنح النِعَم رمز يمثل جغرافية المكان الروائي المؤلم): «في يوم الثلاثاء ولدتُ أنا وشجرة في الحديقة، وصرنا توأمين، هي تحمي العصافير وأنا آكلها، هي تشيع الخضرة وأنا أشيع الفأس… تحاور العاشقين وأنا أنصب الكمائن لهم، هي الثلاثاء الأُنثى، وأنا الثلاثاء الذكر، ملك موهوم ولا أرض لي».
يبين المقطع الدمج الكلي بين ولادتين بفارق الانحياز لنعمة النبات. وفي التخيل تصير البادية والمدينة وديار الهجرة محطات لرحيل دائم يشكل عدم استقرار جسدي ونفسي لصائغي الميتاروائية: «قالت لي: الينابيع هنا كثيرة والأشجار تتكلم، وإذا كنتَ حاذقاً وذرباً أيها الراعي سيتبعكَ العشبُ… إحملْ عصاكَ، والعصا الطويلة تنوش الملائكة.. لم أك أعرف تونس الخضراء، تعوم على النبيذ، حتى ضممت يد فتاتها الخضراء المائلة كسطر في الأحلام… حملت بعض زبيبها الذي هطل عليّ واغتسلت به حتى صار جسدي شجرة عنب، والشجرة نبعاً». يمكننا ببساطة أن نبصر البادية في حديث البدوي العاشق، ونقدر طبيعة المدينة في مدينة تونس، وإن تونس ليست وطن الميلاد، وإنها تمثل مكان الهجرة، وكل هجرة هي موار دائم. كل الذي يدخل إلى الطبيعة من خير له مصدران فقط ، المرأة والسماء: «(روكا) تضيء في فصل الصيف بلا زيت أو شمس.. ما أجملك! فلتهب أشجارك عليّ، كل شجرة عطر، وكل شجرة مكان لاسمين، وكل شجرة كنز، وكل شجرة ستر… الفتى أخرج رغبتها إلى العلن، حتى صارت كوكباً من الحليب البارد، يرضع أطفالاً عشاقاً جوعى». فـ(روكا وتونس) مؤنثتان كلاهما طبيعة للخير والجمال. كلاهما هبة سماوية للموهوب بهما كل الذي يحدث من بطولات صنعها الكاتب لتخليد الموتى الأحياء برواية رؤيا: «ذئب جائع.. نَم صديقي، ثمة حكاية أخرى أكثر حزناً واقرب إلى العجائب». المقطع يصرّح بأنه سيسرد يوماً ما حكاية عجيبة، ونظنها ليست عجيبة كونها ستكون عن فجائع العالِم بالمجهول، المدون للأسى القتل والفتنة والتهجير.

بكل نرجسية، يشكل الراوي المالك المتحكم، أخبار الناس وأفعالهم بعد أن يمسح الأفعال والأخبار التي لا يراها مهمة، أليس هو المَلك المالك للعالم كله؟

أحداث المروية تتصيّر أخباراً يرويها (الكاتب)، الوحيد الذي يحق له تثبيت الأفعال وإلغاؤها بحسب قوانينه التقنية والجمالية والقيمية. لنقرأ: «سأملك العالم والقطار الذي ستدور عجلته بي… سيجر الأسبوع من أذنه نحو غدي.. رجل محظوظ مثلي… يحيا ليكون آخر الملوك يوم الأحد… رجل عظيم يتدلى من سماء الأحلام، يوشم بالنار خرائط الماء، لينجو بالغرق من القلق، ويشيّد من الأنهار الجافة هذه الرواية الطويلة لأناس عاشوا ثم ماتوا ثم عاشوا يتامى».
بكل نرجسية، يشكل الراوي المالك المتحكم، أخبار الناس وأفعالهم بعد أن يمسح الأفعال والأخبار التي لا يراها مهمة، أليس هو المَلك المالك للعالم كله؟ القضايا الأساسية في ميتاروائية المطرود هي: المرأة الأُم الحبيبة: «كانت امرأة واحدة تتكرر… هبوب جمعت (البدو) تحت خيمتها… قالت السورية من أصل مغاربي: يمم وجهكَ أنىّ شئتَ فثمَّ قلب وجهة وسرير لك…قيل النساء نسّاءات للخطيئة وحُمَّلٌ بالذي يطيب للحبيب…وجدتُ سرداباً يفضي إلى التهلكة، فاطمة وغزالة وهبوب الأنثى حبيبة وهي جمع أمّهات». المرأة هنا امرأة الحب ومتعة النور، فتنة البدو، وأُمهم كلهم، والفتيات الأخريات نساء مسامحات حبيبات وأمهات. البطولة للعقل لا للسلاح: «كنتُ الملك الزوجُ وكانتْ الملكةُ، وكنتُ أُضاعف جهدي، وأحرث بها، لأنجب فلاحين وعمالا ومهرة وأصحاب صنعة، يعمرون المكان، ويبعثون فيه الحياة. هكذا عندما تطأ روحي أرض تونس، وتحضن أخضرها، بكل بساطة، وبلا حروب ومحاربين قرطاجيين أشداء، أكون قد احتللت العالم». القول دعوة عقلانية لجعل حياة العالم متعة وثراء وحرية وبناء للأرض والعمل، ورفضاً للحروب، العالم هو الخير غير المعرض للنفاد، هو صورة المدن الحرة، بلا حروب واحتلت حب العالم كله. النزوح جرح عميق في تاريخ الإنسانية، ووجد لتوق انتظار: «يا حلّابة ويا ندّابة ويا رهج الذهب، ماذا تقولين وقد جاء الماء من كل حدب وصوب وحكاية، واختفى البابلي الذي قال سأعدُّ الفلك فتنجو، ثم أي الجبال نيمّم حلمنا فلا نغرق ولا يهرق دمنا على صخرة النزوح الكبير. مرة أخرى حين يحقّ وعد الهجرة، سأبتر ذراعي، كي لا ألوّح. التلويحة / دلالة الخذلان، والحنين الذي شرب دمي ولم يرتوِ».
«آلام ذئب الجنوب»، من الواضح أن المشهد يصرخ ويصرّح بالجرح الغائر في النفس جراء فقدان البلاد بمن فيها، (ممطرات الحليب، حاملات الذهب، الماء، الجبال)، يصل نزف الجرح حداً أصعب من بتر الذراع ساعة التوديع. الجمال للجماد والحيوان والنبات والماء والهواء: «يقال همى مطر على فخذ ملكة الجان وغار في الآبار فأنجب امرأة شجرية… الذين لم يلمسوكِ ولم يشربوا من فمكِ ماء الحياة ماتوا عطشى، والذين رأوكِ عالية عالية، تسلقوا درج الموسيقى، وحين لم يدركوا نهدكِ تحت غفوة الساتان وسجدة الشيطان عليه، بنوا بيوتاً على جزر معلقة في غاز النيون الخفيف. لم يعيشوا سعداء أبداً، لكنهم أنجبوا حكايات الآلام والأوهام، وانتهوا طيوراً فصلية تسبتُ في الشتاء وتهاجرُ في الربيع إلى بلادي». المقطع يوحي ويتصرّف بالبهاء والجلال لجمال السرد. أرى التوضيح يخرب اللذة والمبغى. أنسنة الجمال أن نحفظ الجسد الإنساني من الأذى ليتفرغ للحب والإبداع: «قال البحر يا رب تلطف بها: صغيرة وشفافة وأكاد ألمح في صعودها المبكر روحي الواسعة ونداء عاشقها وقد خبر طيات إبطيها وثنياتهما، حتى ألمَّ بصوت غير صوتها وراقه الموج العالي فيه، سيجد بعضه يسبقه إلى رمل شاطئها الذهبي ممداً كطفل بكنزة حمراء صيفية وحذاء صغير كنوتة الموسيقى»، ربما يشير المقطع إلى الأطفال الذين غرقوا في البحر وماتوا على شواطئ اليونان، وهذا التوصيف يجعل الجمال جسداً قدرياً مستباحاً، وبالمقارنة فالواجب فعله أن نصون الجسد ليصير موسيقى.
الرواية بتفاصيلها ملحمة إنسانية تمزج الحدث السياسي بالفعل الانفعالي لتأصيل جدوى زج القضايا التقنية والقيمية بالأُسلوبية المزدوجة لتحقيق متعة الكاتب عندما يبث قضايا كثيرة بمساحة عرض صغيرة، ومتعة القارئ بالحصول على أحداث وقضايا وقيمة مفتوحة على حرية الفهم والاختيار.

هامش: «آلام ذئب الجنوب» صدرت عام 2019 عن دار ميسلون/ إسطنبول، الدوحة.

* ناقد وقاص عراقي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اسماعيل ابراهيم عبد:

    شكرا لجريدة القدس العربي لكادرها الأوفياء..

  2. يقول كامل الزهيري:

    قراءة مائزة لنصوص استحقت القراءة ولم ينقصها التميز والجمال … تحياتنا ودوام الابداع والعطاء

  3. يقول د سعد التميمي:

    قراءة موفقة وتوجيه جميل لبناء الرواية

إشترك في قائمتنا البريدية