آني إرنو: الكتابة التي ليست سياسية لا معنى لها!

حاورها: بيير- لوي فور/ ترجمة: عبد اللطيف الوراري
حجم الخط
0

لا يمكن أن نفصل كتابات الروائية الفرنسية آني إرنو Annie Ernaux حمولتها السياسية، باعتبار الخلفيات المرجعية التي تنحدر منها، بوصفها كاتبة نسوانية، ومعتكفة على مخدعها الشخصي، ويسارية صلبة المراس. ولهذا، يكتشف قارئها ما في كتاباتها من حذق وبراعة في اكتشاف الجذور وتحرير القيود الجماعية للذاكرة الشخصية. ثمة هذه الحركة المزدوجة التي تميز كتابتها بوصفها سكينا، التزاما، حين تقيم الذات «في حد ذاتها وخارجها»، وظهر ذلك منذ كتابها الأول «الخزائن الفارغة» (1974). داخل الكتابة التي لا تهادن، تجعل ما تكتبه يبدو في حالة غضب؛ فلا يمكن أن تفصل الملفوظ بحمولته السياسية، وهو يُلقى أو يُتلفظ به ساخنا، وأحيانا بطريقة عنيفة، عن محرك الغضب الذي يضطلع بدور أساسي في كتابتها.
يحايث فعل الكتابة وماهيتها آني إرنو (نوبل الآداب، 2022)، شرطَ التزامها السياسي كمثقفة يسارية تدافع عن خيارات الثقافة بحدةٍ في المجتمع والمدرسة والإعلام وما إلى ذلك. فالبعد الاجتماعي والسياسي يحرك معظم كتاباتها على نحو يعضد التزامها وارتباط الأدب بالسياسة، بل يُلح على إعادة تأكيد راهنية الالتزام في عصر غير أخلاقي. وليس غريبا موقفها الداعم لنضال الفلسطينيين ضد ما يتعرضون له من «استعمار استيطاني وتطهير عرقي»، وقالـت عن الحرب على غزة: «على عكس المحرقة، لا يمكن لأحد أن يقول إنه لم يكن يعلم؛ لأن الصور موجودة».
■ في كتابك الحواري «المكان الحقيقي» (2014)، الذي خصص الفصل الأول منه بالكامل لبلدتك سيرجي. هل لعبت المدينة الجديدة دورا كبيرا في هذه الحركة: «في حد ذاتها وخارجها»؟
□ منذ وصولي إلى سيرجي، طوحتْ بي المدينة الجديدة خارج ذاتي، بطريقة عنيفة. إنها حركة حدثت بالصدفة، ثم غيرت بشكل تدريجي طريقة نظري إلى العالم والكتابة. أخرجني هذا الفضاء من (إيفيتو)، في الصميم، من هذه الذاكرة الطفولية، ومن كل ما يستدعي الماضي. لم يعد ثمة شيء مألوف، عدا الأنقاض: أنقاض (إيفيتو) التي وجدتها في بناء المدينة. كان ثمة ضربٌ من التباعد الذي حدث. أعتقد أن الكتابة التباعدية في كتابي «الساحة» (1984) تدين بشيء ما لسيرجي. لو بقيت في آنسي، لما حدث هذا التباعد.
■ تقع سيرجي كذلك في صميم عملك «اُنظُرْ إلى الأضواء يا حبيبي» (2014). هذا النص المكتوب عن سوق أوشان الكبير تٌنشطه تأملات حول كراهية الأجانب والهجرة والفقر والاستغلال. ألم يكن عملا ملتزما للغاية؟
□ أعتقد ذلك. إنه أكثر التزاما من بعض أعمالي: «يوميات الخارج» (1993) و»الحياة الخارجية» (2000)، على سبيل المثال. يوجد ثمة، إذا أردنا أن نستعيد صياغة بيريك، محاولة لاستنفاد مكانٍ في سيرجي: لي تروا فونتين؛ المكان الذي أعدت نقله في جميع أنحاء المدينة وحتى في تاريخ بنائه. كان الذهاب إلى أوشان، من خلال تروا- فونتين، بمثابة انغماس في حالة حادة للغاية هنا والآن، ومختلفة تماما عن الاهتمام السطحي داخل العملين الموما إليهما. يتعلق الأمر بانغمار أكثر جذرية، وإرادة لضبط آليات الزمن داخل السوق الكبير والمركز التجاري. حتى وإن كانت المقاربة انطباعية، إلا أن النظر الذي يسندها كان نقديا ومتعاطفا على حد سواء.
■ في مقالك «الكاتب في حقل ألغام» (1985)، كنت قلقة بشأن اختفاء الالتزام السياسي للكتاب. وفي «الأدب كسلاح معركة» تذكرين أن «الكتابة هي حقا عمل سياسي». هل يبدو لك أن الكتاب المعاصرين مشاركون بما يكفي في العمل والكتابة، داخل المدينة؟
□ أؤيد مصطلح «المشاركة» الذي وضعه برونو بلانكمان للتمييز بين الالتزام والمشاركة في هذه الفترة، وهو لم يكن على الإطلاق موقفا متدنيا. أما بالنسبة للحضور- أو الغياب – الحالي للكُتاب، فيبدو لي أن ذلك لم يكن يُعزى إليهم. فوسائل الإعلام لم يعد كلامها معتبرا، أو حتى مثيرا للاهتمام، بخلاف فناني السينما الذين كانت كلمتهم ذات اعتبار، ولا تزال.. هناك عدم تسييس لمجموع الفاعلين الثقافيين على نحو واضح، وهذا لا يعني أن الأعمال ليس لها محتوى سياسي. يبدو الأمر كما لو أننا لم نعد قادرين على دعم قضية ما، أو كما لو أن هناك قدرية، وخضوع للأمر الواقع.
أعرف أنك فكرت في الكتابة عن هذه اللحظة بالذات.
أنا دائما مدفوعة بالصمت الذي يكتنف الوقائع الصمت الذي يبدو كما لو كان أمرا طبيعيا، هو ما يخلق الغضب.
■ لكن المشكلة تكمن في تحالف الأزمنة التي يصعب التوفيق بينها: الزمن الإعلامي وزمن الكتابة؟
□ أنا لست شخصا يكتب بسرعة. أحتاج إلى وقت لشحذ كلماتي، وإيجاد الحجج الدقيقة. لذلك، فإن وقت وسائل الإعلام لا يناسبني. عندما يطلب مني إبداء رأيي شفهيا، يمكنني أن أدلي به، ولكن بمزاج سيئ؛ لأن هناك دائما في الكلام أقل مما هو عليه الأمر في الكتابة. غالبا ما أقارن الكتابة بمنزل: المقال، المنبر، هو بمثابة منزل صغير. عندما نتحدث فالأمر مختلف. يجب أن يثير النص شيئا ما في القارئ (الانخراط والمشاركة، أو التمرد)، في حين أن الكلام ليس له هذا التأثير، فهو غير نشيط.
لذلك لن تكون له صيغة عمل أو تأثير حقيقي على العالم؟
يمكن أن يكون كذلك. أجرت معي رافاييل ريرول مقابلة نشرتها صحيفة «لوموند» في عام 2011، بعد أعمال الشغب في إنكلترا. كان بيننا حوار طويل للغاية، وملموس كذلك. أخذت جانبا في الموضوع كان له تأثير بالغ، إذ تلقيت رسائل من أشخاص قالوا إنهم قرأوا هذه المقابلة. وأنا أعيد قراءتها قبل نشرها، كان بوسعي تصحيح كلماتي لجعلها أكثر قوة. وقد طلبت مني الصحافية هذه المقابلة لأنها وجدت أن الكتّاب غائبون جدا عن المشهد الإعلامي، لذلك وافقت. لكن في الوقت نفسه لديّ مزاج سيئ لقبول هذا النوع من الأشياء: بالقياس إلى الالتزام التاريخي للكتّاب الذين سبقوني، أجد نفسي أكثر ليونة.
■ في الكلمة الأخيرة من كتابك «الكتابة مثل السكين» الصادر عام 2011، كنت تقيمين السنوات العشر الماضية، وتعودين إلى أسئلة الكتابة، ثم تلقين بإمعان نظرة نقدية وقلقة حول الوضع السياسي في البلاد. ماذا يعني إرساء الكلمة بهذه الدرجة من الحدة؟
□ إنه امتداد طبيعي لمثل هذا الترهين، الذي يعيدني في كل مرة إلى الكتب التي كتبتها، والطريقة التي وضعتها عليها في السنوات العشر الأخيرة. لديّ هذه الحاجة. أما في ما يخص القلق، أود أن أقول إن كتابة «السنوات» أتاحت لي الشعور بهذا الخطر المتزايد أكثر. كان الأمر مقرفا، ولكنه موجود منذ سنوات الثمانين (مع أعمال الشغب التي انطلقت شرارتها في منطقة فولكس- أون- فيلين، قبل ذلك). ها نحن بعد أربعة وثلاثين عاما، نرى إلى أي مدى وصل الأمر… أعتقد أننا دخلنا منذ سنوات في انسحاب مخيف بصدد فرنسا البيضاء المتخيلة. قالت لي إحدى المتدخلات إنني لم أستخدم أبدا كلمة «مهاجر». لم أكن أدرك ذلك. هذه الكلمة لا ترد عليّ، لأنني لا أفكر في مثل هذه المصطلحات. أنا أساسا أكتب حتى يتصرف الناس مثلي ولا يظنون أنهم مهاجرون. توجد مثل هذه الوظيفة في الأدب: أن يشرع الناس في رؤية مختلفة عن الأغلبية.
إنها رؤية ترتكز على النوع، على العلاقات الاجتماعية، على الهيمنة والفقر.
نعم، كل هذه الأسئلة هي جزء من حياتي اليومية. الشبكة التي أطرحها على العالم تدور كثيرا حول هذه الإشكاليات، سواء كانت العلاقات الإنسانية، أو العلاقات بين الرجل والمرأة، بل كذلك الطريقة التي ننظر بها إلى دستور المجتمع. إن استقبال كتبي من قبل وسائل الإعلام يعزز عندي هذا المسعى. عندما تتناهى إليّ من البرنامج الإذاعي «القناع والريشة» على سبيل المثال، ردودُ فعل لا تُصدق على ما أكتبه، أقول في نفسي إنني على حق مما أصنعه، بحيث إن نصا قصيرا عن «هايبر ماركت» بسيط يثير قدرا من ردود الفعل المتعاظمة.
■ غالبا ما تتحدثين عن «رد الاعتبار» في أعمالك، هل «رد الاعتبار» يخضع بدوره للمساءلة؟
□ هذا هو الهدف من الكتابة. إنه يفترض أشياء كثيرة، بما في ذلك الابتعاد عن الخيال، بالمعنى التقليدي. «رد الاعتبار» هو من الأخلاقيات. إنها أخلاقيات الحقيقة والبحث عن الحقيقة في آن. هذا المصطلح يمكن بالفعل أن «يرد الاعتبار» لشاعريتي! أما «رد الاعتبار»، فهو يتوقف على الكتب. رد الاعتبار للفرصة التي سنحت لي للكتابة؛ حتى أكون في موقع الواجب بالنسبة إلى العالم الذي انحدر منه، والواجب بصفتي امرأة عانت وشاركت وأدركت ما عليه الوضع المهيمن. في «رد الاعتبار»، ثمة بعد سياسي بامتياز. يمكن أن يحصل «رد الاعتبار» دون بعد سياسي.
■ في إحدى مقالاتك قدمت تعريفا لما يعنيه أن «تكون يساريا». إنه نص قصير للغاية وقوي وتعليمي. هل يمكن اعتباره نوعا من البيان/ المانيفست؟
□ هذا مجرد سؤال طرحته على نفسي! أن تكون من اليسار هو أمر منطقي بالنسبة إلي. لا أذكر أبدا أنين كنت يمينية، كما أننا في العائلة لم نكن من اليمين، حتى إن صوتْنا لصالح ديغول. ولكن هل كان ديغول يمينيا؟ هذا سؤال آخر.
■ هل يمكن ربط همك السياسي بهذه الرغبة في «الإنقاذ» التي تهيمن عندك بشكل كلي، وتشكل النشيد الرائع لعملك «السنوات» (2008)؟
□ الإنقاذ له في الحقيقة معنى متعدد أقبله على جميع مدركاته. إنه ينقذني: خلاصي الشخصي، وهو كذلك (ربما يكون أقل بالتأكيد) خلاص الآخرين، ثم هو «إنقاذ» بمعنى «حفظ» الذاكرة، وحفظ الأثر الذي كان: عبوري على الأرض، ولكن كذلك عبور جميع الناس. مكان الآخر بالغ الأهمية. وأكثر ما يجعلني أشعر باليأس هو الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم المهينة، مع العلم أن لدى المرء حياة واحدة فقط، ويعيشها على هذا النحو.. هذه حياة الآخرين، لكنها همُ حقيقي. أمس ذهبت إلى أحد البنوك في سيرجي. يوجد قليل من الناس، وكانت معي في الصف فتاة. نادى عليها الموظف. طلبت منه شيئا فإذا به يصرخ في وجهها: «لقد سبق أن جئتِ الأسبوع الماضي!» (ربما لاستشارته في حساب، وليس لاستلام النقود، حسبما فهمت). تقول: «لكنني في حاجة ماسة إليه»، وهو يجيبها بالرفض. إنها تتعرض للتنمر، فيما هي تكرر الأمر. يتم إدخالها إلى مكتب ثم تخرج صائحة بصوت عال: «شكرا لك على أي حال!». أنظر إليها، وهي حامل، تجتاز محنة. هذه المرأة، عندما غادرت البنك، ظللت أفكر فيها، مثلما فكرت كيف ذهبت بدوري إلى الصيدلية لأسأل عن المنتج الذي يُؤخذ بدافع الإجهاض. كان التقارب يستدعي نفسه بقوة. فأمور من هذا القبيل هي ما يجعلني أكتب. إذا استطعنا تغيير ذلك، فلن تكون هناك بعد الآن هذه الهيمنة لهؤلاء الرؤساء الصغار الذين يحميهم القانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية