أخطأ جو بايدن حين أطلق لقب الرئيس المكسيكي على الرئيس المصري السيسي ولعله لم يخطئ، لعل ذهنه فقط قلب المواقع والموازين، لعل ذاكرته تستحضر قضية على ذكر قضية، ولعل قضايا القهر كلها لها ذات المنابع وذات صيغ الأحداث وذات أشكال البشر. اختلط الأمر على الرئيس بايدن، فالقهر بالقهر يذكر والأسى بالأسى يختلط، حتى لتبدو الأحداث وكأنها واحدة، وأشكال البشر وكأنها متطابقة كذلك. يشكل بايدن جزءاً من منظومة قاهرة تبني جداراً عازلاً بين أرضها، التي ما كانت أرضها أصلاً، فالجانب الغربي من الولايات المتحدة كان كله مكسيكياً تقريباً، تنازلت عنه المكسيك ثمناً للسلام في تبعات حرب توصف بأن الأمريكان لا يتذكرونها والمكسيكيون لا ينسونها، وبين أرض جيرانها الذين لا يزالون يحنّون لأراضيهم الأصلية، جداراً تصورنا أن زمن تشييده قد فات، تركته البشرية خلف ظهرها مع نهاية زمن الحروب العالمية.
إلا أن قهر القوي للضعيف وتعدي القادر على الأقل قدرة هما متلازمة بشرية على ما يبدو لا سبيل للخلاص منها، لا بأقوى الأدوية الأخلاقية المعاصرة، ولا أنجح اللقحات الإنسانية الحقوقية التي يتشدق العالم «المتقدم» بها. لربما كان الرئيس الأمريكي يفكر، وهو يستحضر اسم الرئيس السيسي في إشكالية معبر رفح، هذا المنفذ الوحيد حالياً بين غزة وبين بعض الهواء والطعام والدواء، هذا المنفذ العربي الهوى الذي كان يفترض أن ينقذ «أهل بيته» أصحاب الحق، هذا المنفذ الذي كان يجب أن يكون رحمة القدر بتشكله المنمنم على جانب من جوانب السجن الكبير القاهر الذي هو غزة، أقول لربما كان يفكر بايدن في جداره هو العازل العنصري الكبير، في قهره هو لأصحاب الأرض الأصليين المكسيكيين، في الامتداد الأرضي الطبيعي الذي خلقته الحياة والطبيعة والذي أتى هو، استكمالاً لسياسات أسلافه الفاحشة، ليسده ويكتمه بجدار يذكّر، ولا أقل، بجدار برلين الذي تصورنا أن بسقوطه سقطت آخر مظاهر الطغيان والقمع السياسيين العسكريين الوحشيين، لكنها البشرية، أبداً لا تتعلم.
ثم ظهر مجدداً رئيس «أعرق الديمقراطيات الحقوقية» في العالم، بعد أن أطلق الفيتو لثالث مرة على قرار وقف إطلاق النار في غزة، الفيتو الثالث كان ضد مقترح الجزائر الذي طرحته في مجلس الأمن في فبراير، متحدثاً عن توقعه لهدنة ووقف إطلاق النار بحلول نهاية الأسبوع، وهو التصريح الذي نفاه على استحياء مسؤولون أمريكيون لاحقاً. المفارقة القبيحة في الأمر أنه ظهر بتصريحه هذا وهو يأكل البوظة الراقدة بكرتها البيضاء على بسكويت ملفوف، ليبدو وكأن التصريح هو محاولة لإغاظة أطفال غزة الرازخين تحت النار، للتلويح لهم بما يتمنون، الطعام، ولتذكيرهم بالمسروق منهم كل يوم من خلال شكل هذا الطعام، الطفولة.
للوقاحة والقبح وجوه كثيرة، لكنني لم أتخيلهما قط يتمثلان في «آيس كريم»، لم أتصورهما يظهران بهذه الفجاجة على وجه أقوى قائد سياسي في العالم بتصريح نعلم كلنا كذبه وبصورة تراودنا عن صبرنا، تغوص «بآيس كريمها» في الطعنة العظيمة للإبادة الجماعية لأطفالنا تحت مرأى ومسمع العالم كله. أن يتقصد جو بايدن ذلك فتلك كارثة، وإن لم يتقصده فالكارثة أعظم، كارثة تشير إلى غياب تام للضمير أمام واقع مرئي ومسموع، وهو غياب يؤكد سريان الخطة الصهيونية الممنهجة طويلة الأمد لتحويل الفلسطينيين إلى «أشياء» أقل بشرية، إلى أعداء خارج منظومة الإنسانية، حتى تسهل إبادتهم على مرأى من حكومات العالم المؤثرة، وحتى يتمكن رئيس أقواها من أن يقف «لاحساً» بوظته أمام جثث أطفالهم.
تتبدى البشاعة السياسية الأمريكية إعلامياً، قرارياً، تصريحياً كل يوم بشكل يفترض أن يُخجل حتى أشد البشر جرأة وأكثرهم وقاحة وفجاجة، ولكن متى كانت السياسية الأمريكية على غير ذلك؟ هل كانت أقل وقاحة في العراق، في أفغانستان، في فيتنام، في سوريا، في ليبيا، في إيران إلى آخر القائمة؟ هل تبدى وجه منصف حييّ لهذه السياسية في أي موقف دخلت فيه؟ لربما المثير الحقير هذه المرة، أن أمريكا بذيلها الصهيوني في المنطقة يقفون بكل عتادهم أمام أطفال، يفجرون منازلهم ومستشفياتهم، يجوعونهم، ويهجرونهم من بيوتهم ومن أي شعور بالأمان تستحقه الطفولة. هل من موقف أحقر وأجبن وأوقح من هذا؟
ولأن البشاعة معدية للبشر، لم تجد فلسطين إنصافاً، ولم تجد غزة إنقاذاً حتى من أقرب المقربين، فالجزء العلوي يمرر ما لا يجب أن يمر، والجزء السفلي يمنع مرور ما يجب أن يمر، الجزء العلوي يفوّت النار والخضار للصهاينة، والجزء السفلي يمنع تفويت الطعام والدواء؛ الجزء العلوي يفتح فتحة للعاصفة لتهب، والجزء السفلي يغلق الفتحة التي يمكن من خلالها تقليل حدة العاصفة وآثارها المميتة. لماذا هو الحق مقهور هكذا، وبأي وجه يدلدل قاهروه ألسنتهم على «الآيس كريم» بهذه الوقاحة؟