أبو الانقلابات العراقية

مع ازدياد حرارة الصيف في تموز/يوليو من كل عام، يتصاعد الجدل والصراع بين العراقيين من المدافعين عن الملكية من جهة، والمدافعين عن الجمهورية من جهة أخرى، على خلفية ذكرى حركة الجيش في الرابع عشر من يوليو، وإطاحتها النظام الملكي في العراق. وقد أشعلت حدة النقاش منصات التواصل الاجتماعي، ووصلت به مديات غير مسبوقة، من التهجم والشتائم والسباب، والنيل من أعراض الخصوم، إذ باتت تشترك في الصراع، شرائح مختلفة من العراقيين للدفاع عن الطرف الأول، وتسمية ما حدث انقلابا عسكريا دمويا، افتتحت أولى صفحاته بمجزرة قتل العائلة المالكة. بينما يصرخ الطرف الآخر، بأنها ثورة حققت التغيير والإنجازات العظيمة في غضون بضع سنوات من عمرها القصير، ليذهب قائدها الإشكالي الجنرال عبد الكريم قاسم ضحية دولاب الدم.
الانقلابات العسكرية وتدخل الجيش في السياسة، ابتدأ مبكرا في العراق، إذ اعتمد بعض الساسة في العهد الملكي أساليب ملتوية لإطاحة خصومهم السياسيين، مثل تأليب حركات الاحتجاج القبلية في مدن العراق المختلفة، وقد استخدم هذه الحيلة ياسين الهاشمي، الذي أطاح عام 1935 حكومة خصمه السياسي جميل المدفعي، بعد أن عجزت عن مواجهة تمرد قبائل الفرات الأوسط. وعندما كلف الملك غازي ياسين الهاشمي بتشكيل الحكومة، استخدم الجنرال بكر صدقي، العسكري الذي عرف بقسوته المفرطة، في قمع التمرد الآثوري عام 1933، لقمع انتفاضة الفرات الأوسط، وتم له ذلك، إلا إن خصوم الهاشمي سقوه من الكأس نفسها، واستخدموا الجنرال بكر صدقي للقيام بانقلاب عسكري عام 1936 أطاح حكومة ياسين الهاشمي، ليتم تشكيل حكومة حكمت سليمان، وهي أول حكومة يقيمها العسكر في المنطقة.
تلا ذلك الانقلاب توتر في الوضع العراقي، تصاحب مع وفاة الملك غازي الغامضة بحادث سيارة، اتُهم الانكليز بتدبيره عام 1939، حتى وصل التوتر ذروته في ما عرف بالحرب البريطانية العراقية الثانية في أيار/مايو 1941، أو التي اسمتها السردية العراقية (ثورة مايس)، أو حركة العقداء الأربعة، والتي شكلت حكومة رشيد عالي الكيلاني، التي أسقطها الإنكليز بعد شهر، ما دفع إلى حصول أول إعدامات علنية في العراق الملكي، إذ تم شنق قادة الانقلاب وتعليق جثثهم في بوابة وزارة الدفاع في بغداد. لنصل إلى نتيجة مفادها أن حركة الجيش في 14 يوليو 1958 كانت حلقة في سلسلة سبقها حلقات وتبعها حلقات، وإذا أردنا أن نفهم عقلية الجنرال الذي يشترك في الانقلابات، أو يقودها، فليس هنالك أوضح من مثال اللواء الطيار عارف عبد الرزاق، الذي بات يعرف باسم «أبو الانقلابات العراقية» ففي تتبع سيرته متعة وفائدة، قد تقودنا لفهم ما حصل، والتعرف على منهجية تفكير جنرالات الانقلابات.
ولد عارف عبد الرزاق في عام تأسيس المملكة العراقية 1921 في قرية نائية من قرى الرمادي الغافية على نهر الفرات، وهي واحة كبيسة، وأتم تعليمه الابتدائي والمتوسط، ثم دخل الثانوية العسكرية عام 1939 ليتخرج منها برتبة ملازم عام 1943، ثم التحق بعد ذلك بالقوة الجوية، وأوفد عام 1943 لدراسة الطيران في بريطانيا، في عز الحرب العالمية الثانية، وتخرج طياراً متقدماً عام 1945. أولى مشاركاته القتالية كانت في إخماد التمرد الكردي بقيادة المُلاّ مصطفى بارزاني عامي 45 و47، كما شارك في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، ليعود بعد هذه الحرب ويصبح طيار العائلة المالكة في العراق بين عامي 1949 و1951، تفرغ بعدها لدراسة الأركان وعاد مرة أخرى في أيلول/سبتمبر عام 1953 مرافقا وطيارا شخصيا للملك فيصل الثاني، ما مكنه من الاقتراب من العائلة المالكة.
اشترك عارف عبد الرزاق بعد ذلك في كل انقلابات العراق الحديث، التي رسمت صورة البلد الدموية الناتجة عن صراعات الجنرالات على السلطة، في العقد اللاحق، وكل منهم ينادي بالأهداف السامية والمثل العليا، مع اختلاف ميولهم ومشاربهم السياسية، إذ اشترك أولا في حركة يوليو 1958، وكان قومي التوجه من دون الانتماء لتنظيم سياسي ناصري أو بعثي، لذلك سرعان ما اشترك في المحاولة الانقلابية التي قادها العقيد عبد الوهاب الشواف، ضد حكومة عبد الكريم قاسم في آذار/مارس عام 1959. بعد فشل الانقلاب سجن عارف عبد الرزاق لأشهر، ثم عفا عنه رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، وأعاده للخدمة، لكنه اشترك في انقلاب البعث الأول في شباط/فبراير 1963 الذي أطاح حكومة عبد الكريم قاسم، ثم اختلف سريعا مع البعثيين، واستقال من منصبه كقائد لقاعدة الحبانية، وسرعان ما اشترك في انقلاب تشرين الثاني/نوفمبر 1963 الذي قاده عبد السلام عارف على شركائه البعثيين، ليصبح وزيرا للزراعة في حكومة طاهر يحيى، ثم قائدا للقوة الجوية، ليتم تكليفه من عبد السلام عارف بتشكيل الحكومة، إذ أصبح رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع في الرابع من سبتمبر 1965.

الانقلابات العسكرية، ابتدأت مبكرا في العراق، إذ اعتمد بعض الساسة أساليب ملتوية لإطاحة خصومهم السياسيين

وفي غضون عشرة أيام من تشكيله الحكومة، قاد عارف عبد الرزاق انقلابه على عبد السلام عارف في 14 سبتمبر 1965، عندما كان رئيس الجمهورية خارج العراق مشاركا في القمة العربية في الدار البيضاء في المغرب. المفارقة أن الانقلاب فشل، وهرب هو ومجموعة الضباط الناصريين إلى القاهرة، وعاد عبد السلام عارف إلى بغداد ليصفي بقايا الانقلاب، وليشكل حكومة عبد الرحمن البزاز، التي تسنمها أول شخص مدني منذ يوليو 1958. بعد وفاة عبد السلام عارف في حادث سقوط المروحية المعروف، وتسنم شقيقه الأكبر عبد الرحمن عارف منصب رئيس الجمهورية، تحرك الضباط الناصريون مرة أخرى، وبدفع من الحكومة المصرية، التي سهلت دخولهم بجوازات سفر مزورة للعراق، ليقود عارف عبد الرزاق انقلابا على حكومة عبد الرحمن عارف في 29 حزيران/يونيو 1966، والذي فشل هو الآخر، وألقي القبض على ضباط الانقلاب، وبضمنهم قائد الانقلاب، وحكم عليهم بالسجن بأحكام مختلفة، لكن من دون ان يعدم أحد منهم، أفرج عنه عبد الرحمن عارف في 31 مايو عام 67، وتطوع في قيادة القوات الجوية، حيث وافق عبد الرحمن عارف على اشتراكه قائدا للقوات الجوية العراقية في جبهة الحرب العربية، التي شكلت ضد إسرائيل في حرب يونيو، وكان مقرها في الأردن، ليعود إلى العراق بعد هزيمة يونيو، وليؤسس حزباً قومياً سرياً يرتبط بالتنظيم الطليعي الناصري في مصر، غير أن انقلاب البعث الثاني في 17 يوليو 1968 أطاح بآماله وآمال القوميين العرب في الوصول للسلطة في العراق.
قبض عليه في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1968، وبعد أربعة أشهر قضاها في السجن أضرب عن الطعام، فأفرج عنه في 31 كانون الثاني/ يناير 1969 شريطة أن يغادر العراق ولا يقيم فيه، فلجأ إلى مصر عام 1969، لكنه تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في القاهرة عام 1972. وعاش بعدها لاجئا متنقلا بين مصر وبريطانيا، التي توفي فيها عام 2007 عن عمر ناهز الـ 86 عام، وحظي بتشييع كبير في العاصمة البريطانية.
من مفارقات هذه السيرة العجائبية، القصة التي يرويها الضابط والسياسي القومي صبحي عبد الحميد في مذكراته، إذ يقول إنه كان مسجونا مع مجموعة من الضباط القوميين من جماعة عارف عبد الرزاق، بعد فشل انقلابه الثاني ضد عبد الرحمن عارف، وقد زارهم في السجن المقدم إبراهيم الداود وكان حينها قائد الحرس الجمهوري، وقد حمل لهم هدية سلة برتقال، وانفرد بعارف عبد الرزاق وعرض عليه القيام بانقلاب آخر ضد عبد الرحمن عارف، تقوده مجموعة ضباط هو يعرفهم، على أن يصبح عارف عبد الرزاق رئيسًا للجمهورية، بشرط أن لا يفكر بالاشتراكية والوحدة مع مصر، فما كان من عارف عبد الرزاق إلا أن ينهره وهمّ بضربه، وقال له «أنا الآن في السجن بسبب الاشتراكية والوحدة العربية، فكيف أتخلى عنهما» وحين أراد الداود مغادرة المكان طلب عارف عبد الرزاق منه حمل سلة البرتقال التي جلبها معه. أما المفارقة الثانية فكانت في شهادة عارف عبد الرزاق عن العصر، عندما كان في الثمانينيات من عمره في لقاءات متعددة مع أحمد منصور عام 2002 في قناة «الجزيرة» إذ سأله أحمد منصور عن تفاصيل الانقلاب على حكومة عبد الرحمن عارف، فأجابه عارف عبد الرزاق؛ إن تنظيم الضباط القوميين طلبوا رجوعي للقيام بعملية ضد عبد الرحمن عارف. فسأله احمد منصور: ألم تتوبوا من العملية السابقة؟ فاجاب عبد الرزاق من دون تردد؛ لو تهيأت لي الظروف الآن لعملت انقلابا، فسأله احمد منصور مستغربا: مرة أخرى؟ فرد عبد الرزاق؛ والله وعشرين مرة إلى أن أُحقق الوحدة أو أفنى دونها.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    كان نظام الحكم بالعراق (ملكية دستورية), إنقلب عليها العسكر فأصبحت دكتاتورية عسكرية!
    حكم العسكر فاشل, لأن العسكر فاشلون بدخول الجامعات لتدني مستواهم العلمي!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول عراقي مغترب:

    وجاء عارف عبد الرزاق متوكأ على عصا في
    وفد ( معارضة ) الى واشنطن مرة واحدة قبل الغزو الامريكي للعراق عام ٢٠٠٣ وله مع تلك المجموعة صورة منشورة وهم فرحون للتصوير مع جيمس بيكر وزير الخارجيةً انذاك امام مبنى الوزارة في واشنطن ، وقيل حينذاك ان حسنى مبارك اخناره للانضمام الى ذلك الوفد ليعطي انطباعا بمشاركة ( القوميين) في الدعوة للتدخل الأمريكي في العراق وادامة الحصار الاقتصادي على العراقيين

  3. يقول محمد شهاب أحمد:

    كلَّ يوم هو في شأن
    الواضح: ١٤ تموز إنقلاب عسكري سُفكت فيه الدماء.
    “الجماهير” غوغاء ينعقون مع كل ناعق(روح القطيع).
    نعم الإصلاح كان مطلوب و كان ممكن للجيش أن يُساهم بطريقة أخرى.
    ١٤ تموز فتح بوابة الإنقلابات العسكرية .
    رحم الله عبدالكريم قاسم ، ليته كان تزوج ، و إنشغل بالبيض و البصل و الطماطة و حفّاضات الأطفال ، بدلاً من المؤامرات التي شرب فيها من نفس الكأس!
    حفظ الله الجميع

  4. يقول S.S.Abdullah:

    الكاتب (صادق الطائي) نشرت له جريدة القدس العربي مقال بعنوان (الحوثيون والاستراتيجية الإيرانية في اليمن) أظن الخلاصة من المقال (وفي آب/اغسطس 2019 زار وفد من حركة الحوثيين برئاسة القيادي في الحركة محمد عبد السلام إيران، واجتمع الوفد مع المرشد الأعلى السيد الخامنئي وسلَّموه رسالة من عبد الملك الحوثي، أعلن فيها مبايعته لمرشد الثورة وانخراط أنصار الله في محور المقاومة.)،

    هو نفسه نشر مقال في اليوم التالي بعنوان (أبو الانقلابات العراقية) والأهم هو لماذا؟!

    وعندما وصل (أحمد حسن البكر) للحكم في عام 1968، تم نفي بشكل مباشر أو غير مباشر، كل من شارك في الإنقلاب إلى خارج العراق، وعمل أول حكومة، حرص على مشاركة كل الأحزاب فيها، هذا بالنسبة إلى وادي الرافدين، وفي الجانب الآخر وادي النيل،

    يا سليم عزوز، وادي النيل واحد، الإشكالية في ثقافة الأنا أولاً، لا تعترف بوجود إلّا الأنا،

    تعليقاً على عنوان (أزمة تقرير فوزي بشرى عن سد النهضة!) وما ورد أسفله، والأهم هو لماذا؟!

    لأن الثلاثي محمد نجيب وجمال عبدالناصر وسيد قطب، عام 1952، كان مثل الثلاثي محمد مرسي ومن اختاره ليكون وزير دفاع ووزير داخلية عام 2012،

  5. يقول S.S.Abdullah:

    جمال عبدالناصر سجن (محمد نجيب) وأعدم (سيد قطب)، وقسّم وادي النيل،

    نفس الشيء عام 1989 مع إنقلاب (عمر البشير) مع (حسن الترابي) وتقسيم وادي النيل إلى تقسيمات أكثر،

    نفس الشيء (عبدالفتاح السيسي) كرّرها مع (محمد مرسي) ووزير الداخلية بعد ذلك،

    لماذا هذا الإنقلاب وخيانة الصحبة والاختيار، والتقسيم، خصوصاً، وأن أرض سد النهضة، هي أملاك لقبائل عربية تم تأميمها ظلماً وزوراً وعدواناً،

    هل هي من أجل عقلية الوظيفة (كسلاح للإيجار) أم الراتب؟!

    ثم ما الفرق بين مفهوم الضريبة وبين مفهوم الزكاة، ولماذا تثير مشكلة عند علمانيي/ملحدي تونس،

    حسب ما ورد تحت عنوان (بين مَن يعتبره مخالفا للدستور ومَن يرى أنه يساهم في دعم اقتصاد: أول صندوق للزكاة في تونس يثير انقساما كبيرا) والأهم هو لماذا؟

    أنا تركت كل أملاكي في (السعودية)، وذهبت إلى الاستثمار في (تايوان) منذ عام 1989،

    لأن شريكي من العراق وشيعي وزوج السعودية، التي كل عملنا التجاري بإسمها (دنيا الكومبيوتر)، قام برفع اسمي من حق التوقيع على الصكوك في المصارف/البنوك السعودية،

  6. يقول S.S.Abdullah:

    أي بمعنى آخر، رفع أسمي من الإثبات العملي الوحيد على أرض الواقع، في أي حق لي في المؤسسة، لأن القوانين في وقتها، لا تسمح لي، بما أن كفيلي هو جامعة الملك عبدالعزيز، بالعمل أو الشراكة، بل بالدراسة فقط،

    فحق توقيع الصكوك، هو دليل عملي على أن لي أي شيء في هذه المؤسسة قانونياً،

    فعندما وصلت من رحلة تايوان، وعرفت ذلك، قلت أنتهى رزقي في السعودية،

    فعملت خروج نهائي، على وثيقة سفري كفلسطيني/عراقي، أضطررت إلى استخدامها بدل الجواز العراقي، في الخروج من العراق بعد قيام الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، وضاعت كل حقوقي في السعودية،

    ومنها إلى بريطانيا، وأمريكا ثم إلى تايوان، نحن كنا في المؤسسة نرفض الإشتراك في أي مناقصة/مقاولة حكومية، لأنها كانت تطلب، ورقة من دائرة الزكاة،

    أي أننا دفعنا الزكاة إلى الدولة أولاً، حتى نستطيع المشاركة في أي نشاط حكومي، بعد ذلك،

    ومن هذه الزاوية فهمت، سبب حجز كل من تم حجزه في فندق الريتز، في الرياض، ومن ضمنهم (سعد الحريري) بسبب حقوق (شركة سعودي أوجيه) التي لم تدفعها للدولة، بداية من الزكاة،

  7. يقول S.S.Abdullah:

    الرئيس الفرنسي (ماكرون) استغل الشفاعة أو الواسطة والمحسوبية، من أجل إخراج (سعد الحريري)، دون تسديد حقوق الدولة، بحجة أن السعودية من دول مجلس التعاون في الخليج العربي ولديه صندوق سيادي،

    وبعد ذلك يسأل غبي، لماذا لبنان ومن حولها على وشك الإفلاس في عام 2020، بينما دول مجلس التعاون في الخليج العربي، غير ذلك.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية