أبو تمام وسجال الغموض

حجم الخط
12

ضمن سلسلة «مكتبة الأدب العربي» التي تصدرها مطبعة جامعة نيويورك، صدرت قبل أيام الترجمة الإنكليزية لكتاب الصولي «أخبار أبي تمام»، وأنجزتها المستعربة الألمانية بياتريس غروندلر؛ التي اعتبرت أنّ العمل «يصوّر، أكثر من أي كتاب آخر، دور الشعر في المجتمع الإسلامي ما قبل الحديث»؛ و«يجمع اثنين من أبرز شخصيات التاريخ الثقافي، في واحدة من أكثر مراحل الشعر العربي حيوية». وفي مقدمة الترجمة تناقش غروندلر بعض الأسباب التي جعلت أشعار أبي تمام نادرة في الترجمات الغربية، فتسوق أولاً ما يكتنف قصيدته من صعوبات أسلوبية، لغوية ودلالية وبلاغية؛ كما تساجل بأنّ ميله إلى موضوعات المديح إجمالاً جعلته بمنأى عن المترجمين والناشرين، الذين اعتبروا أنّ هذا الغرض ليس جذاباً لدى قارئ الشعر الغربي.
أمّا الصولي، الذي كتب يعلّق على وقائع وقصائد سبقت زمنه بقرن كامل، فقد أرسى بكتابه هذا أوّل منهج نقدي معمّق لدراسة شعر أبي تمام؛ ولهذا سوف نجد معاصره، الحسن بن بشر الآمدي، ينجز كتابه «الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري»؛ وبعد قرابة نصف قرن سوف يضع المرزباني كتابه «الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء»، الذي سيعدد فيه مثالب أبي تمام، بين آخرين.
وإلى جانب ما ينقله الصولي من معلومات وفيرة حول أخبار الشعر والشعراء، خاصة في ميدان التكسب والتقرّب من السلطة، ترى غروندلر أنّ الكتاب يقدّم رؤية فريدة حول الطور التكويني في نقد الشعر خلال تلك الحقبة؛ إذْ تقع فصوله على تقاطع طرق، وتطورات ثقافية وأدبية وفكرية، متنوعة. كما يكشف مرحلتين في استقبال شعر أبي تمام: الأولى تتمثل في كتاب «الأخبار» ذاته، والثانية في جهود جمع وإعادة تصنيف أشعار أبي تمام. كلّ هذا على خلفية مركزية كبرى حكمت معادلة حضور أبي تمام في الذائقة آنذاك، أي غموض شعره وعسر استقباله لدى الخاصة مثل العامة؛ الأمر الذي لم يمنع، مع ذلك، المكانة الرفيعة التي حظي بها بين شعراء عصره.

ستيتكيفيتش توافق أنّ أبا تمام كان من أهمّ شعراء العصر العباسي، ولكنها تجزم أيضاً أنه كان الأبرز في استخدام البديع، الأمر وهذا جرّ عليه موجات من النقد حيناً والإعجاب المبطّن بالحسد حيناً آخر.

وبين روايات الصولي حول صعوبة شعر أبي تمام أنّ أعرابياً سمع قصيدته في مديح خالد بن يزيد الشيباني، التي يقول مطلعها:
طَلَلَ الجَميعِ، لقدْ عفَوْتَ حميدا/ وكفى على رزئي بذاك شهيدا
دِمَنٌ كأنَّ البَيْنَ أصبح طالباً/ دمناً لدى آرامها وحقودا
قَرَّبْتَ نَازِحة َ القلوب منَ الجوى/ وتركتَ شأوَ الدمعِ فيكَ بعيدا
خَضِلاً، إذا العبراتُ لم تَبْرَحْ لَها/ وطناً سرى قلقَ المحلِّ طريدا
فلما سُئل كيف ترى هذا الشعر، قال: فيه ما أستحسنه، وفيه ما لا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإمّا أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وإما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه! وثمة، بالطبع، تلك الواقعة الشهيرة التي ينقلها الآمدي، حين طرح أبو العميشل السؤال على أبي تمام: لماذا لا تقول ما يُفهم؟ فأجابه: وأنت لماذا لا تفهم ما يُقال!
والحديث عن أبي تمام، وكذلك المستعربة غروندلر، يقود إلى مستعربة أخرى، وناقدة أمريكية أوكرانية الأصل، هي سوزان ب. ستيتكيفيتش، في كتابها «أبو تمام وشعريات العصر العباسي»؛ الذي ــ رغم تحفظات مبدئية حول اعتماد منهجية التأصيل الأنثروبولوجي لجذور الشعر الجاهلي ــ أرى أنه العمل الكلاسيكي الأبرز عن الشاعر، ولعلّه الأعمق أيضاً، في أية لغة أوروبية. ستيتكيفيتش توافق أنّ أبا تمام كان من أهمّ شعراء العصر العباسي، ولكنها تجزم أيضاً أنه كان الأبرز في استخدام البديع، الأمر وهذا جرّ عليه موجات من النقد حيناً والإعجاب المبطّن بالحسد حيناً آخر. وهي تستفيض في مناقشة معنى البديع في شعره، وتساجل على نحو مقنع بأنه لم ينهض على الصنعة والتكلّف أو التجميل الشكلاني، وكان توظيف الكناية والاستعارة ركناً أساسياً في الطـــــراز الفكري الذي نهـــض عليه شعره، وجزءاً مكوِّناً في العمارة الوصفية التي أعطتنا بعض أعظم قصائده. كذلك يستهويها أن تستقصي المحيط الأسطوري الذي اكتنف شعر أبي تمام، ورموزه الكونية، وعناصر بيئته الطقسية ــ الروحية، فضلاً عن أغراضه التي أقامت ميزان ذهب نادراً بين المديح والرثاء.
يبقى أنّ أبا تمام، حجر بن أوس الطائي، ولد في بلدة جاسم من أعمال حوران السورية، وعنها يقول ياقوت الحموي: «قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ على يمين الطريق الأعظم إلى طبرية، انتقل إليها جاسم بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام أيام تبلبلت الألسن ببابل، فسُميتْ به». والشاعر من أصول يونانية، اتكأ عليها طه حسين ذات يوم لكي يفسّر مكانته وصعوبة شعره في آن: «لأنه يختلف عمّن تقدمه وعاصره من الشعراء في تصوره للشعر نفسه، وفي شدة أخذه نفسه بتحديد المعاني ووحدة القصيدة، وفي كلفه بوصف الطبيعة وميله إلى المعاني الفلسفية يضمنها شعره أياً كان الموضوع الذي ينظم فيه».
ويبقى، أخيراً، أنّ هذا الشاعر الكبير كان قد حرّض أولى السجالات في النقد العربي القديم حول إشكالية الغموض المقترن بالقول الشعري، وحدود الفارق بين الذي يُقال لكي يُفهم على نحو أحادي جامد؛ وذاك الذي يُقال لكي يستدعي مستويات شتى من الفهم، متعارضة أو متكاملة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ماجدة الهاشمي:

    كنت أتمنى من الكاتب صبحي حديدي أن يبدي لنا رأيه النقدي الخاص في شعر أبي تمام مع أمثلة حية من هذا الشعر داعمة لرأيه النقدي ومفيدة للقراء … بدلا من أن يعرض لنا عرضا تقريريا صحفيا ما يكتبه الأجانب عن شاعر مثل أبي تمام … دون أن يقدم الفائدة المرجوة …

  2. يقول سوري:

    شكرا عزيزي صبحي على هذا المقال الذي برأيي أنه لم ينصف أبا تمام، بل أنت تضع القاريء في حيرة من أمره، وأنا أتفق مع السيدة ماجدة الهاشمي بطلبها منك رأيك فيه وأنت ناقد أدبي كبير وخاصة وأن هذا الشاعر ” الحوراني” صاحب السيف أصدق أنباء..كالمتنبي ملأ الدنيا وشغل الناس

  3. يقول Tawfiq Abdulrahman:

    هو أَبو تَمّام حبيب بن أوس الطائيّ.
    وأتمنى؛ ما تمنته عليكَ صديقتي الهاشميّة.

  4. يقول عادل الصاري / ليبيا:

    الغموض خاصية شعرية ، فالشعر الجيد هو الذي يدهشك ويستفزك بغموض دلالاته ، ويغريك باستنطاق مفرداته وتراكيبه وهو درجات ومراتب ، وهو ضد الإبهام الذي يعد عيبا ودلالة عجز.
    إن مهمة النثر هي عرض الأفكار والحقائق وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية وبأسلوب واضح لا غموض فيه ، أما الشعر فإن مهمته هي الإشارة والترميز والإيحاء ، وقد أدرك أبو تمام حقيقة الشعر فأتى منه بما يفاجئ العقل والمخيلة السائدة في عصره ، فثار عليه لفيف من النقاد أبرزهم الآمدي الذي وصف شعره بأنه ( اجتلب المعاني الغامضة وقصد الأغراض الخفية) ، لكن الكاتب الأديب أبو إسحاق الصابئ كان أوعى منه لحقيقة الشعر ، حيث قال : ( وأفخر الشعر ما غَمُض فلم يُعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه).
    كذلك فإن أبا هلال العسكري قال : ما كان لفظه سهلا ومعناه مألوفا فهو من جملة الرديء المردود.

    1. يقول Tawfiq Abdulrahman:

      يا صَديقي الصاري!
      لا يغْربْ عنك النثرُ الفنيّ!

  5. يقول آصال أبسال:

    أوافق الأخت ماجدة الهاشمي على كل ما جاء في تعليقها..
    السيد عادل الصاري.. التعريفات التي ذكرتها للآمدي والصابئ والعسكري فيما يخص الغموض في الشعر كلها تعريفات تعميمية جارفة وغير مجدية إطلاقا.. تعريفات أدت بالكثير من الشعراء العرب وخاصة من يعتبرون أنفسهم من /الحداثيين/ منهم إلى السقوط في هاوية الغموض.. دون التمكن من الخروج إلى النور ومن ثم إلى أفهام عامة الناس العاديين.. وخير مثال على أولئك الشعراء /الساقطين في هاوية الغموض/ أدونيس في الكثير من أشعاره وخاصة (الكتاب) بأجزائه الثلاثة.. وكل من يدعون أنهم تمكنوا من قراءة وفهم هذا (الكتاب) فهم كاذبون بمن فيهم أدونيس نفسه …

  6. يقول صوت من مراكش:

    في تقديري ردا على الاخوة و الاخوات المطالبين السيد صبحي حديدي بالافصاح عن
    _
    رأيه في ابي تمام وشعره فالشطر الاخير من المقال اعلاه يقود للتعرف

    على تقييمه للتجربة الشعرية لابي تمام و قيمتها المضافة في ديوان العرب

    على كل حال كم هو جميل ان يحظى الشعر بهذا الكم الراقي من القراء

    تحياتي

  7. يقول عادل الصاري / ليبيا:

    السيدة آصال .. لقد كان الوضوح مزية الشعر الجيد في العالم القديم لكونه كان عالما بسيطا ، لذلك عُدَّ الغموض حينها عيبا وافتعالا لا مبرر له ، أما زمننا الحاضر الملتبس والمتفجر معارف وعلوما وأذواقا من المستحيل أن يستوعبه شعر يعتمد على المباشرة والأداء السطحي.
    أنا ممن يرى أن جودة الشعر تكمن في غموضه لا في وضوحه ، فليست مهمة المبدع الحديث أن يعرض حقائق وقضايا سياسية أو اجتماعية أو فلسفية أو فكرية أو دينية ، فهذه مهمة الفلاسفة والمفكرين ورجال الإعلام والدين ، ولا تنسي أن الشعر فن ، وليس للفن سوى وظيفة واحدة هي الإمتاع الفني أعني اللذة والمنفعة التي تحصل للمتلقي حين يكتشف ما يكتنزه الشعر من دلالات وإيحاءات.
    مثل هذا الشعر المختلف في بنيته اللغوية والتصويرية والإيقاعية ، لذلك يحتاج إلى قارئ مختلف يتميز بذائقة وثقافة فنية ونقدية تمكنه من التمييز بين التعبير السطحي المباشر والتعبير الفني المدهش المكتنز بالدلالات و الإشارات والاستفهامات، لذلك فإن القارئ السطحي لن يتذوق الشعر الحديث ، لأنه محدود المَلَكات يهمه أن يفهم كل كلمة في القصيدة ، والمعنى الإجمالي لكل بيت أو سطر من سطورها ، والغرض من إنشائها ومناسبتها ، ويتسلى بالبحث عما فيها من تشبيهات واستعارات وأصباغ بديعية مختلفة.

  8. يقول حي يقظان:

    بعض الملاحظات:
    أولاً، يذكر الأخ صبحي «ما ينقله الصولي من معلومات وفيرة حول أخبار الشعر والشعراء، خاصة في ميدان التكسب والتقرّب من السلطة»، مع أن الصولي نفسه كان من أكثر المتقرِّبين، وإلى حد الوصول والانتهاز بأحط معانيهما، حقيقةً – حتى أن قصص منادمته المُتباهى بها للخلفاء العباسيين الذين عاصرهم لا تخفى على أي ناقد أدبي «يساري» أو «موضوعي».
    ثانيًا، القضية ليست في كون أبي تمام «الأبرز في استخدام البديع»، حتى يستدعي النقد و/أو الحسد المُعلَن أو المُسَرَّ. القضية هي في كونه الأبرز في المزاوجة، وإلى درجة المجانسة الجمالية البارعة، بين البديع ولغة البداوة المتسمة بالخشونة اللفظية الحَرْشَاء – خاصة وأن شعراء الشام كانوا يبتعدون عن هذه الخشونة في أشعارهم ابتعادًا لافتًا.
    ثالثًا، توظيف الكناية والاستعارة ليس ملاحظة خاصة في شعر أبي تمام، لأنه ليس هناك شاعر على وجه الأرض لا يوظف هتين الصورتين البلاغيتين بالزخم المعتاد – حتى أن استقلاب الكلام العادي في أية لغة من لغات العالم، كما يساجل جاكوبسون وغيره، لا يقوم إلا على «المحور الاستئلافي» combinatorial axis وفقًا لمنطق الكناية وعلى «المحور الاستبدالي» substitutive axis وفقًا لمنطق الاستعارة، وإلاَّ لما كان هناك لغة بشرية في المقام الأول.
    [يتبع]

  9. يقول حي يقظان:

    [تتمة]
    رابعًا، (وهذا الكلام موجه إلى الصوت المراكشي الذي لا يختلف عن صوت الكاتب نفسه، من حيث الأسلوب وانتقاء المفردات)، الأخ صبحي لم يُبدِ رأيه النقدي الخاص بشعر أبي تمام إطلاقًا، كما أشارت الأخت ماجدة الهاشمي، لا في الشطر الأول ولا في الشطر الأخير من مقاله التقريري الصحفي، كما نوهتْ أيضًا. كل ما نقله الأخ صبحي لا يعدو أن يكون مقتبَسًا عن شيءٍ من الآراء النقدية القروسطية المعروفة، يتخلله شيءٌ من رأي الصولي نفسه، ومن ثمَّ عن شيء من رأي الباحثة الألمانية بياتريس غروندلر نفسها، يتخلله شيءٌ من رأي الباحثة الأمريكية-الأوكرانية سوزان ستيتكييفتش، ومن ثم عن شيء من رأي طه حسين بناء على أصول أبي تمام اليونانية (ومنهم من يقول الرومانية، حتى).
    أخيرًا، تحية شكر وتقدير خاصة إلى الأخت آصال أبسال، على ما أبدته من ملاحظات نقدية قيمة حول تعميمات القدامى الجارفة فيما يتعلق بقضية الغموض في الشعر وما آلت إليه هذه التعميمات في الشعر العربي الحديث (أدونيس، خاصةً). وإلى الأخ عادل، هناك في تعليقك خلط واضح بين «اللاغموض» في التعبير (حتى لا أقول «وضوحًا»)، من جهة، وبين السطحية والمباشرة في هذا التعبير، من جهة أخرى. فالشعر «الغامض» ليس له أن يكون، بالضرورة، شعرًا عميقًا وإيحائيًّا ولامباشرًا، وما إلى ذلك!

    1. يقول آصال أبسال:

      أبدعت شكلا ومضموما بكل معنى الكلمة.. أخي العزيز يقظان..
      سدد الله خطاك أينما حللت وأينما نزلت..

  10. يقول عادل الصاري / ليبيا:

    طوبى لشيء غامضْ
    طوبى لشيء لم يصلْ
    إن الوضوح جريمة

إشترك في قائمتنا البريدية