تعيش المنطقة العربية كما العالم على وقع جائحة كورونا الرهيبة والمدمرة للبشر والاقتصاد والتي لا يمكن التنبؤ في هذه اللحظة بمآلاتها الأخيرة مادامت في طور التوسع والانتشار. فلا يعرف أحد لحد الآن هل سيوجد لفيروسها علاج فعال أم أنه سيقضي على جزء كبير من البشر قبل التحكم فيه والقضاء عليه.
والغريب في تاريخ البشرية أن لبعض الكوارث إيجابيات تعادل سلبياتها بل وقد تُنسي الأولى مع مرور الزمن الثانية. فها هي الحرب العالمية الأولى، وهي من أفظع الحروب التي عرفتها البشرية ليس من حيث عدد القتلى فحسب ولكن بسبب الآلام التي أحدثتها بين صفوف المحاربين وغير المحاربين، قد ساهمت بشكل كبير في تحرير أكثر من نصف المجتمع في أوربا وهي القارة المعنية الأولى بهذه الحرب مع أمريكا وأغلب ساكنتها أوروبية كذلك. فمباشرة مع بروز المعالم الأولى لنهاية الحرب ونظرا للدور الكبير الذي لعبته النساء أثناءها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، بادرت النخبة الحاكمة في إنكلترا ومن ضمنها الأغلبية الساحقة من الأحزاب والمنظمات المهنية والمثقفين وكبريات الجرائد، إلى الخروج بتوافق حول حق المرأة في المشاركة السياسية. هكذا أصبح للنساء الحق الكامل في التصويت في بريطانيا العظمى. ثم تلا هذا القرار التاريخي البريطاني قرارات مماثلة في النمسا والمجر وألمانيا وأمريكا. تحرر المرأة هذا لم ينحصر في المجال السياسي بل خطت أوروبا خطوات عملاقة على طريق تحقيق المساواة بين الجنسين على الصعيد الاجتماعي والاعتباري والاقتصادي. غادرت المرأة البيت شيئا فشيئا للعمل إلى جانب الرجل منافسة إياه أو متعاونة معه في كل الميادين أكانت فكرية أو يدوية. تمظهرت قيمة مساواة النوع كذلك في لباس المرأة المتحرر وفي طريقة قصها للشعر، كما اندثر تماما مشد الخصر الأنثوي الذي كان عنوانا لدونية المرأة في القارة العجوز. شجعت الدولُ الأوروبية كذلك تمدرس الفتيات. هكذا قررت فرنسا، مثلا، بمرسوم حكومي بعد الحرب، إمكانية حصول الطالبة على البكالوريا وهو شيء كان شبه مستحيل قبل ذلك.
إذن، كان هذا التحرر النسوي نتيجة للدور الكبير الذي لعبته المرأة في تعويضها للرجل المتواجد على جبهات الحرب في المصنع والحقل وتنظيم التضامن الاجتماعي للقرية أو الحي وخصوصا مساعدة معطوبي الحرب والتكفل بالأسر التي فقدت كفيلها. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ستطالب الفئات المغلوبة على أمرها رجالا ونساء بحقها في المواطنة كاملة. وكان لسان حالها يقول: أليس نحن من خُضنا الحرب وكنا حطبها الأساس دفاعا عن الوطن فبأي حق تريدون منا العودة إلى حيث كنا قبل الحرب لتبقوا أنتم وحدكم الأسياد؟ تساوينا أثناء الحرب فلنبق متساوين والسلم قد عاد.
التزايد الهائل والمباغت للبشر خلال الألفية الثامنة والسابعة قبل الميلاد، والذي نتج عنه مجاعات ودمار وأوبئة غير مسبوقة، سيؤدي إلى أكبر ثورة عرفتها البشرية وهي الثورة الزراعية
هكذا شكلت الحرب العالمية الأولى دفعة قوية للحقوق الاجتماعية للفئات الشغيلة والمهمشة كما تقوت الحركات اليسارية سواء أكانت سياسية أو اجتماعية (نقابات، تعاضديات) أو ثقافية (نواد، جمعيات، منشورات دورية). تحقق الكثير إذن «بفضل» الحرب الكبرى (1914 1918) كما سيكون للحرب العالمية الثانية (1939 1945) أثار مماثلة على المستوى الاجتماعي والسياسي بحيث اعترفت فرنسا وإيطاليا للنساء بالمشاركة السياسية الشيء الذي لم تفعلاه بعيد الحرب الأولى لأسباب عديدة منها العمق الكاثوليكي المحافظ للبلدين. بالنسبة للفئات المستغَلة ازدادت وترسخت حقوقها الاجتماعية في البلدان الأوربية المشاركة في الحرب الثانية، كما أن الأحزاب اليسارية الجذرية، المدافعة الأولى آنذاك عن حقوق الفئات الشغيلة والمستضعفة، قد أصبحت ذات قوة بل وجبروت سياسي. هكذا مثل الشيوعيون بعد الحرب القوة البرلمانية الأولى في فرنسا وإيطاليا وبقوا على هذا الحال لمدة عقود مع كل النتائج الاجتماعية التي يمكن أن نتخيل. أما على المستوى العالمي فإن الحرب الثانية ستفتح الباب على مصراعيه لتحرر شعوب المستعمرات. هكذا ستستقل الهند وڤيتنام الشمالية وإندونيسيا وسوريا ولبنان وبلدان أخرى عدة أثناء السنوات الأخيرة للحرب أو بعدها بقليل. ولن يمضي عقد أو عقد ونصف إلا وقد تحررت الأغلبية الساحقة من شعوب الأرض الخاضعة للاستعمار.
طبعا الحروب ليست الكوارث أو الأزمات الوحيدة التي تحل بالبشرية. فالتزايد الهائل والمباغت للبشر، خصوصا في الشرق الأوسط، خلال الألفية الثامنة والسابعة قبل الميلاد والذي نتج عنه، حسب تقدير بعض المؤرخين، مجاعات ودمار وأوبئة غير مسبوقة، سيؤدي إلى أكبر ثورة عرفتها البشرية وهي الثورة الزراعية، أي أن الإنسان أصبح لأول مرة ينتج مأكله ومشربه عن سابق تقدير وحسب أجندة سنوية دقيقة مما أدى في الأخير إلى ابتكار الدولة كجهاز اجتماعي لتأمين مجتمع المنتجين وأحيانا لتنظيم الإنتاج نفسه كما في مصر القديمة.
ولنعطي مثالا كذلك من تاريخ الإسلام عن الكوارث البشرية التي تنتهي بأن تعطي نتيجة إيجابية. تقول كتب التاريخ أن جماعتي الأوس والخزرج كانتا تعيشان في يثرب في صراع دموي شبه دائم خلال القرن السادس الميلادي وبداية القرن الذي يليه. وكانت آخر حرب طاحنة وقعت بين الجماعتين هي تلك المعروفة بيوم بُعاث حوالي سنة 617 ميلادية. وحتى لا نطيل فالحيز لا يسمح، كان من نتائج هذه الحروب، التي كادت أن تقضي على نسل الإخوة الأعداء المشار إليهم، أن أصبح حكماء الجماعتين يفكرون في حل سياسي يخرجهم بشكل نهائي من ذلك الروتين الانتحاري. بعض هؤلاء الحكماء التقوا محمد نبي الإسلام، في مكة سنة 619 والسنتين اللتين تلتاها وكان مما اتفقوا عليه معه هو توحيد الأوس والخزرج بشكل يجعل منهما شعبا واحدا. وكذلك كان. والغريب أنهم أعطوا للمنظومة الجيو- سياسية الجديدة اسم المدينة وهو يقابل مفهوم بوليس الإغريقي القديم والذي يعني من بين ما يعنيه اجتماع البشر وانتظامهم بشكل يجعلهم يعيشون أفضل، فهذا هو المنحى الذي يذهب فيه مثلا أرسطو في تعريفه للمدينة.
هل ستعطي جائحة بله كارثة كورونا نتيجة إيجابية للإنسانية، بعد أن قتلت منها الآلاف وبعد أن أدخلت الهلع على قلوب كل الناس في نفس الوقت وبكل الدنيا، وهذا يحدث بهذا الشكل الشامل والمتزامن والموعي لأول مرة في تاريخ البشرية؟ لا شك في ذلك. لكن الحكومات لايهمها هذا الجانب وهي محقة في ذلك فكل جهودها يجب أن تواجه الخطر الداهم. لكن سيكون من المفيد أن يركز بعض الخبراء وعلماء المستقبليات على استجلاء ما يمكن استخلاصه من دروس هذا الوباء المعولم وكيف تحويل الهلع المدمر الذي أحدثه إلى طاقة بشرية متجددة لخلق حضارة جديدة.
كاتب مغربي