يحفرُ في العمق، ويصعدُ عالياً في التحليق، كأنّهُ الطائر الذي يعانق سماءَهُ الأولى، لكنّهُ الشاعر بأجنحة الشعر، الذي لا يحطُّ في مكانٍ واحدٍ، إنّهُ المتعدد والمحتشدُ بالوطن القليل، أجود مجبل الشاعر العراقي القلق، لغتهُ تصرخُ في الوادي البعيد: يا أبي أيُّها الماء، إنّهُ الأرض التي تجدّدُ جريان النهر فيها، ربّما كان النهر هو الشعر، الشعر الذي ينبعُ من جرحِ الأرض. عن مسيرته كشاعر كان معه هذا الحوار.
■ من هو أجود مجبل؟ كيف يُعرّف نفسه؟
□ واحد من جيل تعهده الطغاة بحروبهم وحصاراتهم وكمائنهم، ولكنه لم يمت وخرج وهو يكتب عن المقهورين والمبطوش بهم، يكتب أشياء كثيرة يقولون عنها: إنها شعر.
■ بصفتك شاعراً ومشرفاً تربويّاً، وعضو بعض الروابط والاتحادات الثقافية في العراق، كيف تنظر إلى المشهد الشعري الراهن في العراق والعالم العربي بشكل عام؟
□ ربما أستطيع أن أرسم لك صورة تقريبية لما يحدث في العراق، خصوصاً على صعيد الشعر، فالشعر هنا في مخاضات دائمة واستدعاء مستمر للأشياء الغريبة التي تحدث خارج اللغة ومرافقتها إلى حيث براءة اللغة وفردانيتها، المشهد الشعري في العراق موّاز بكل ما هو جديد، وثمة أجيال جديدة من الشعراء تظهر وهم يكتبون كل أشكال الشعر وتوصيفاته.
■ في ظل الأزمات والحروب المتسلسلة التي عاشها العراق ماضياً وحاضراً، هل برأيك رسمت تلك المنحدرات طريقاً جديداً في القصيدة العراقية؟
□ من الأمور المستغربة في الشعر أنه يزدهر ويتوهج كلما ازداد الخراب والموت، وهذا ما حدث في العراق بالضبط، فبعد كل حرب يخرج الشعر من تحت الأنقاض وهو أكثر شباباً وأوفر جنوناً، الشعر كائن غريب الأطوار وعصي على الموت.
■ من يطلع على تجربتك الشعرية، يلحظ أنّكَ أكثرت من كتابة الشعر العمودي، وربما لم تكتب التفعيلة أو النثر أبداً، لماذا؟ هل برأيك القصيدة العمودية فرضت شكلها على الأشكال الشعرية الأخرى؟
□ في الحقيقة أنا كتبت كل الأشكال الشعرية بدء من قصيدة النثر مرورا بقصيدة التفعيلة، وانتهاء بقصيدة الشطرين، ولا أعاني من عقدة بهذا الشان، فالشعر قد يوجد في أي شكل من الأشكال السابقة الذكر، بل قد يوجد في كلام منثور او أغنية أو لوحة، وفي دواويني الأربعة المطبوعة توجد قصائد تفعيلة، إلى جانب القصائد العمودية، أما قصيدة النثر فمــــا زلت أكتــبها بين الحين والآخر، وأكثرها منشور في الصحف والمجلات منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، وعندي ديوان كله نصوص نثرية جاهز للطبع.
■ هل تعتقد أن قصيدة النثر اليوم استطاعت أن تفرض حضورها الشعري؟ وهل هي مأزق للشعرية العربية أم ابتكار لا بدّ منه؟
□ قصيدة النثر هي حاجة سايكولوجية قبل كل شيء، وهي تراود كاتبها بغموض، مستدرجة إياه إلى ممالك الشعرية العالية، التي تقنع قارئها بصرف النظر عن الوزن والقافية، لذلك تكون كتابتها شاقة ومجهدة، لأن الشاعر هنا يصنع شعرا من غير المواد الأولية المعروفة للشعر، وأنا شخصياً مؤمن بضرورة تجاور الأشكال الشعرية وليس تصادمها. أما نقطة ضعفها الوحيدة والقاتلة أحيانا فتكمن في عدم حاجتها إلى اشتراطات معينة، لذلك هجم الأميون وأنصاف الموهوبين عليها واستسهلوا كتابتها وكان الناتج هراء محضا.
النقد بالنظر إليه كنصٍ مواز أو مجاور للنص الإبداعي يكون مهماً وضرورياً لإضاءة تجربة الشاعر وتفكيكها، لرصد لحظات التوتر العالية في النصوص المنقودة، وهذا يرتبط بإمكانية الناقد وخبرته في هذا العمل
■ لمن يقرأ أجود مجبل اليوم؟ وكيف يتابع المشهد الشعري بشكلٍ عام؟
□ أنا ما زلت أقرأ كل شيء يتعلق بالشعر والقصة والرواية والمسرحية والنقد الأدبي والنقد الثقافي، أما بخصوص الشعر فما أزال أقرأ الشعر الجاهلي صعوداً إلى عصرنا هذا الذي تتنوع فيه الكتابة الشعرية، ومن لا يقرأ لا يستطيع أن يكتب.
■ هل تعتقد أن مواقع التواصل الاجتماعي وضعت الشعر في فضاءٍ أرحب؟ أم في زاويةٍ أضيق؟
□ وسائل التواصل الاجتماعي هي ثورة حقيقية في عالم الشعر والثقافة بشكل عام، وهي وضعت الجميع وجها لوجه مع كبار كتاب العالم وشعرائه، بل حدثت صداقات حقيقية وتحاور معرفي بينهم رغم المسافات الشاسعة التي تفصل بينهم، واختلاف اللغات، وسائل التواصل الاجتماعي وفرت ملايين الكتب التي يتمكن الجميع من قراءتها أو تحويلها إلى ورق ومجانا، ومنها الكتب النادرة والضخمة، التي من الصعوبة سابقا الحصول عليها أو قراءتها، وهذا يمكنني أن أسميه «نعيم إلكتروني».
■ فزت بجوائز كثيرة في العالم العربي، ماذا تعني الجائزة لك؟ هل تساهم الجوائز بصناعة شاعر برأيك؟ ما هو الإجابي، وما هو السلبي فيها؟
□ لا شك في أن الجوائز الأدبية لها تأثير كبير على مسيرة الشاعر ، سواء كان ذلك التأثير مادياً أو معنوياً أو إعلامياً، ولا أحد يستطيع أن يتجاهل ذلك، فربَّ شاعرٍ أو كاتبٍ كان مغموراً ولا أحد يلتفت له، ولكنه بعد أن يفوز بجائزة ما يصير حديث الإعلام والوسط الثقافي، وتصير الجائزة تسويقاً تجارياً لكتبه، وهذا حدث كثيراً، إضافة إلى التعضيد النفسي الذي يناله متزامناً مع المكسب المادي الذي ربما يغير حياته، هذا هو الجانب الإيجابي في الجوائز، أما الجانب السلبي فيكون عندما تُمنح الجوائز لأشخاص غير مستحقين لها وبطرق غير مشروعة وأكثر الجوائز العربية هي هكذا، خصوصاً الشعرية منها، فهم لا يمنحون الجائزة لوجه الشعر أبدا، بل عبر تواطؤات مشبوهة واتفاقات غير مشرفة، وفي النهاية الجوائز مهما كانت قيمتها فهي لا تصنع شاعراً إطلاقا.
■ كتبت عن تجربتك الشعرية الكثير من الدراسات النقدية؟ هل أنصفك النقد برأيك؟ وهل أنت راض عنه أم تقول مثلما قال درويش: يغتالني النقّاد أحيانا؟
□ النقد بالنظر إليه كنصٍ مواز أو مجاور للنص الإبداعي يكون مهماً وضرورياً لإضاءة تجربة الشاعر وتفكيكها، لرصد لحظات التوتر العالية في النصوص المنقودة، وهذا يرتبط بإمكانية الناقد وخبرته في هذا العمل، وفي ما يتعلق بي شخصياً فقد كتب عن تجربتي الشعرية الكثيرون داخل العراق وخارجه، بالإضافة إلى مجموعة من الرسائل الجامعية، وكانت هذه النقود والكتابات تتفاوت في طبيعتها وزاوية اشتغالها، بعضها توغل إلى أعماق النصوص مستكنهاً وراصداً ومؤولاً وبعضها اكتفى بالضفاف البسيطة.
■ ما هو مشروع أجود مجبل المستقبلي؟ هل هناك إصدارات جديدة؟
□ بعد صدور ديواني الرابع في بداية هذا العام، أشتغل الآن على إصدار كتابين شعريين.
ما علاقة أجود مجبل بـ:
المرأة: أمّا عن علاقتي بالمرأة ، فهي علاقة قدرية، المرأة هي المادة الخام لكل القصائد وهي وطن قائم بذاته.
الوطن: والوطن فكرة جميلة لا يمكن تحقيقها أحيانا.
الوردة: الأزهار عموماً وبضمنها الورد هي عنوانات جمال دائمة يحتاجها الزمان والمكان بشدة.
الأصدقاء: الأصدقاء هم الذين يمنحون الأشياء معناها، لا يمكن مزاولة الحياة والتعرف على مغاليقها من دونهم.
الحب: الحـــب موضوع كبير تعجز أي لغة عن الإحاطة به تماما، الحب هو مجموعة المفاتيح السرية للكائنات.
الشعراء الشباب: الشعراء الشباب تجمعني معهم صداقات وطيدة ومشتركات جمّة، كنت وما زلت أشجعهم وأضيء لهم دروب الشعر الوعرة بكل محبة، الشعراء الشباب هم أمل الشعر وحراسه الأمناء وحاملو شعلته المقدسة، أكثر الشعراء الشباب هم أصدقائي المقربون ولكن من غير أن أمارس الأبويّة تجاههم فلا أبويّة في الشعر.
أ.باسل عبدالعال
مقدمة الحوار رائعة جدا.
الجواهري الصغير/ابو تاج الحكمه
حوار جميل بلغة واعية
الشاعر الكبير اجود مجبل
هو نبض القصيّدة العراقية الحيّة
يحمل فيها وجع العراق وفرحه
فتنساب كشلال يخمد اوجاعنا
دمتم بود وسلام
تحيتي
أرى في أجود شاعراً لا يقلُّ عن محمود درويش شاعريةً لأنّ مأساةً مشتركةً تجمعُ بين الإثنين ألا وهي مأساة ضياع الوطن لأنها الكفيلة بشحذ هممهم الشعرية.