في مجلة «بروسبكت» الفكرية البريطانية زاوية طريفة مفتوحة للفنانين والكتاب والمفكرين والمثقفين عامة بعنوان «لو قيض لي ان احكم العالم» يعرض فيها الضيف رؤياه لامثل السبل لمعالجة مشكلات الإنسانية المعاصرة. فمن قائل بان الحل يكمن في تمكين البنات في كل ارجاء الدنيا من الحق في طلب العلم، ومن قائل بالقضاء على الأسلحة النووية بلوغا إلى حظر جميع انواع السلاح، بل وتحريم الحروب. ومن قائل بإلغاء المؤسسات الاقتصادية الدولية، مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، إلى قائل بإلغاء البورصات والأسواق المالية أصلا لانها احلت الاقتصاد الافتراضي، اقتصاد المضاربات والمغامرات والمقامرات الذي لا يرى منه سوى الارقام والعلامات على شاشات الكومبيوترات، محل الاقتصاد الواقعي، اي اقتصاد الانتاج والسعي والكد والكفاح والالم اليومي: اقتصاد العمل والامل.
اما اخر الضيوف، الروائية البريطانية مارغريت درابل، فقد كتبت انها لو حكمت العالم لسعت إلى احقاق المساواة التامة والشاملة بين جميع البشر. ونظرًا إلى أصالة التزامها بقضية المساواة التي تقول انها دأبت على اثارتها والخوض فيها «منذ عقود ولكن دون طائل»، فانها لم تتهيب مشقة قراءة المؤلفات النظرية العميقة في هذا المبحث الفكري الخطير، حيث انها تستشهد عن دراية بكتاب «العدالة» للفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز الذي يعد المرجع الذي لا يعلى عليه في محاولة معالجة معضلة التفاوت بين البشر في مستوى المعيشة وفرص الحياة عموما، وفي محاولة تصور مجتمع لا سيادة فيه الا للقيم الإنسانية: قيم التكافؤ والتكافل والتراحم.
وبما انها روائية خصبة الخيال، فانها عمدت إلى مبدأ «حجاب الجهل»، الذي وضعه جون رولز للرمز لقضية وجوب منح جميع أفراد المجتمع فرصا متكافئة في جميع مجالات الحياة دون أدنى معرفة مسبقة بهوياتهم وسماتهم وقدراتهم، وأولت هذا المبدأ تأويلا طريفا، حيث قالت انها لو حكمت العالم لعملت على احقاق المساواة على طريقة لعبة الروليت الروسية! وذلك بتنظيم عملية اقتراع يتعين فيها على كل فرد من أفراد الإنسانية ان يختار، وهو معصوب العينين، في اي مجتمع يريد ان يولد لو لم يكن لديه اي معرفة مسبقة بمن سيكون (الهوية الوجودية) وأي درجة من درجات ذلك المجتمع سيحتل (الوضع الاجتماعي): في الأعلى او الوسط او الأسفل. وتقول مارغريت درابل «ان فكرة منح كل فرد على الكرة الارضيّة فرصة لعب لعبة روليت المساواة هذه تملاني بهجة تبلغ حد النشوة». وترى ان من المحتمل ان يعمد بعض أمراء الحرب وأصحاب الثراء الفاحش ومهووسي السلطة، دنيوية كانت ام دينية، إلى التصويت لصالح استمرار الوضع القائم وثبات العالم على احواله التي عرفوا وألفوا، لأن كل واحد منهم عاجز تمام العجز عن تصور عالم لا يكون هو شخصيا في عداد نخبته وصفوته. ولكن الروائية واثقة ان اصوات هؤلاء سوف ترجحها وتغلبها أصوات الجموع الغفيرة: جموع المساكين من الجياع والعبيد والاقنان والمرضى الذين لا قبل لهم باشتراء الدواء — المساكين ممن لا يزالون يحتطبون في الغابات ويمشون الاميال على الأقدام لملء صهاريج الماء. وتقول مارغريت درابل باستبشار يشبه الفرح الطفولي: «سوف يؤول الامر إلى الكثرة الكاثرة. الكثرة التي لا تغلب، حسب عبارة (الشاعر) برسي شلي الخالدة».
ولعل اجمل ما في هذه الرؤيا الدالة على أهمية استمرارية الحلم والطوبى في الأدب السياسي، والشأن الإنساني عموما، ان الروائية البريطانية توجزها في هذه العبارة المركزة: انها تصور للعدالة من حيث هي انصاف! هكذا يمكن «اعادة تصميم العالم المعاصر بالتوافق والتراضي. بحيث لا تقطر الثروة وترشح تدريجيا من عل: من لدن الأغنياء إلى حضيض الفقراء» (مثلما تزعم عقيدة النيوليبرالية الاقتصادية) «بل انها تتدفق من أمة حرة إلى أمة اخرى حرة وتحفظ على مدى الأجيال».
هذه هي قضية القضايا في العالم المعاصر. فقد بينت مختلف استطلاعات الرأي العام في أوروبا وأمريكا خلال الأعوام الثلاثة الماضية ان قضية اللامساواة، ممثلة في تفاقم اتساع الهوة بين الأغنياء والبقية، غالبا ما تعد في نظر معظم المواطنين هي المعضلة الاولى او الثانية على سلم أشد المعضلات العامة خطورة وإلحاحا. ولا يكاد يمر يوم الا أتت الأخبار باحصائية جديدة تعيد تاكيد حقيقة تفاقم اللامساواة: مثلا ان ثروات حفنة من الأغنياء أصبحت تفوق ما يملكه حوالي أربعة مليارات نسمة، اي ان بضعة أفراد هم أغنى من نصف البشرية! او ان نسبة الواحد بالمائة الذين يمثلون اثرى أثرياء الولايات المتحدة كانوا يملكون 7 بالمائة من الثروة الوطنية قبل ستة عقود، اما اليوم فانهم يملكون منها ما لا يقل عن 22 بالمائة.
ان هذا لهو الاعتباط الحقيقي. هذه هي روليت العشوائية الحقيقية: روليت اللامساواة!
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
شكرا على ما جمعته من معلومات تحت هذا العنوان يا مالك التريكي، والذي بيّن من الواضح أنَّ الذي لم ينتبه له المثقف بثقافة الـ أنا، إلى أنَّ مفهوم المواطن في وسط العولمة (الذي يمثل ثقافة الـ نحن) يختلف عن مفهوم المواطن في وسط البيروقراطية بجميع بناته الديمقراطية والديكتاتورية (الذي يمثل ثقافة الـ أنا)، والوقت الذي تحتاجه في عصر العولمة لتنفيذ أي مشروع يختلف عن الوقت الذي تحتاجه في عصر البيروقراطية، ولا غبار على كلام ونظريات علماء وفلاسفة أوربا فيما يخص الترجمة في كل ما يخص اللغات التي أساسها التأويل مثل اللغات الأوربية واللاتينية، ولكن هذا لا يعني أنّها تصلح للغات التي اساسها الاستقراء والاستنباط مثل العربية والصينية التقليدية، فكيف الحال بلغة القرآن والتي هي متطورة جدا إلى درجة لا يوجد مترادفات في لغتها ولا يمكن تغيير حركة أو حرف أو كلمة بدل أي شيء فيها، ولذلك ليس هناك ترجمة للغة القرآن، ولكن هناك ترجمات كثيرة لمعاني كلماته، فدعاء يمكن عمله في أي وقت ولأي دين، ولكن الصلاة يجب أن تؤديها يوميا 5 مرات لكي تكون مسلم تؤمن بالله ربُّ الأرباب.
من وجهة نظري الذي استجد على ثقافة الـ أنا، بعد تاريخ 8/8/1988 الذي في ذلك اليوم، تم وقف اطلاق النار ما بين العراق وإيران، في نظام الأمم المتحدة البيروقراطي، بكل بناته الديمقراطية والديكتاتورية، بغض النظر من كان زوجها، إن كان جمهوريا أو ملكيا أو سلطانيا أو أميرا، والذي سبّب الأزمة الحالية للنظام، هو العولمة أو ثقافة الـ نحن، بسبب طابعها التجاري، فأصبحت تشمل ثقافة الـ أنا والـ آخر وترجمة بينهما، للوصول إلى لغة مشتركة ترفع أي سوء فهم، من أجل الوصول إلى توقيع اتفاق تجاري بينهم، فهل هناك معنى آخر للمساواة والعدالة؟!
مفهوم الأولويات يوضح معنى الحكمة، أنا لا أدّع الحكمة، أنا من أنصار الحكمة ولست من أنصار الفلسفة، فالتأويل هو وسيلة الفهم عند أهل علم الكلام/الفلسفة، في حين أن لغتنا ليست لغة تأويل بل هي لغة استقراء واستنباط، فهناك فرق بين اللغات التي اساسها التأويل كاللغات الأوربية واللاتينية، وبين اللغات التي اساسها الاستقراء والاستنباط، كما هو حال اللغة العربية والصينية، في الاسلام يجب على كل مسلم أن يؤمن بأنّه لا يعلم بالنيّات إلاّ الله، ولذلك الذكي هو من يُريح نفسه ويتعامل بما هو على السطر أولا، لأننا ببساطة لا نملك الإمكانيات العقلية لمعرفة نوايا الناس كما أخبرنا الله، والمأساة الحقيقة هي من يظن أنّه يعرف مقصد ونية الله سبحانه وتعالى، وهنا مقتل أهل الفلسفة/علم الكلام أو انحراف العقيدة لديهم، في سؤال أيّهم أول الدجاجة (النخب الحاكمة) أم البيضة (الشعب).
لأنني أظن من يقبل بالسؤال الفلسفي الذي يسأل هل البيضة (الشعب) أول أم الدجاجة (النخب الحاكمة) أول، لا يؤمن بالله كخالق هذا الكون بشكل عملي، فكيف الحال في تلك الحالة مع موظف الحكومة في النظام البيروقراطي، والذي لا يستطيع بسهولة أن يترك وظيفته كما هو الحال في القطاع الخاص الذي لو انزعج من تصرفات مديره أو صاحب الشركة، فمن السهولة أن يبحث عن وظيفة أخرى، كي يُريح نفسه من مساوئ الوضع السابق، ولكن في حالة موظف الحكومة، ليس أمامه خيار إلاّ أن يعتبر حاله شريك مع الدولة بسبب الكرسي، وتزيد الطين بلّة عندما يصبح هو صاحب القول الفصل في تفسير القانون على الأقل بسبب البيروقراطيّة، وتصبح مأساة حقيقية عندما يتم استغلال ذلك في كيفية زيادة دخله، بواسطة الرشوة، وعدم الإنجاز، حتى لا يقع في الخطأ فتتوقف زيادة الراتب.
وبناءا على ذلك أنا لاحظت أكثر من يحارب اللغة الأم هم موظفي شركات الترجمة، والمؤسسات التعليمية المعنية باللغة والترجمة التابعة للدولة بشكل عام، والأنكى بحجة تقليل الجهد عليهم، مع أنّها وسيلتهم للدخل، يعني هو يحارب رزقه بيديه بسبب كسله وعجزه عن تحمّل المسؤولية، فقط لأنّه موظف في الحكومة، ولا يُريد أن يعمل في أوقات الدوام، ومع ذلك يعتبر حاله شريك للدولة في دخلها بسبب كرسي الوظيفة، وبسبب البيروقراطيّة يصبح هذا الموظف هو القانون نفسه، فهو الوحيد الذي له حق تفسير نص القانون حسب رغبته ومزاجيته، من أجل تقليل المسؤولية عليه، فلو اشتغل معنى ذلك هناك احتمال أن يُخطئ، ومن ثم يُعاقب، ومن ثم تأخير ترفيعه أو ترقيته وبالتالي دخله، فلذلك لو قلّل العمل أقل شيء ممكن معنى ذلك، سيحصل على أعلى دخل ممكن، بعدم ترجمة وتعريب العلوم
العولمة فرضت تحديات جديدة، والإداري الناجح يعرف أنَّ هناك فرق وتمييز ما بين إدارة المشاريع في الحكومة شيء والقطاع الخاص شيء آخر، فإشكالية الإشكاليات في النظام البيروقراطي، عندما يصبح موظف الدولة يظن أنّه شريك مع الدولة بسبب كرسي الوظيفة، وكأنّه يعمل في أجواء القطاع الخاص، وليس القطاع الحكومي، ومن هنا يكون مدخل الفساد في أي وسط، لتبرير وتحويل اشكالية أي مشروع في أحد أركانه الثلاثة، إن كان من ناحية زيادة التكلفة أو الوقت المتأخر أو رداءة الجودة، بتبريرات ليست صحيحة، أو تشكيك بدون اسس منطقية أو موضوعية، من أجل زيادة نسبة حصته من عائد المشروع إلى جيبه الخاص، حيث هذا كان هو السبب الرئيس في انهيار نظام الديون للمصارف/البنوك العالمي عام 2008، فمن له الرغبة في إفلاس وانقراض النظام العالمي ولغته الأم
أهل الفلسفة أو ثقافة الـ أنا بشكل عام تظن أنَّ الفكر هو من يصنع اللغة، وعلى ضوء ذلك تم بناء ثقافة الدولة، خلاصة العقل أو النخب الحاكمة يجب أن تكون فوق النقد أو القانون والدستور بواسطة “الحداثة” حتى تستطيع أن تبدع وعلى ضوء ذلك تم بناء المناهج التعليمية في الدولة ليتم انتاج “مُبرّر ومُشكّك أو مفاوض”، ويجب الانتباه أنهم استخدموا الحداثة وليس التحديث أو التطوير التي تعتمده الآن العولمة ثقافة الـ نحن، ومنهجها أساسه تجاري وليس فكري، وهي تشمل ثقافة الـ أنا والـ آخر وترجمة بينهما للوصول إلى لغة مشتركة يتفق على معنى المعاني فيها من قبل جميع الأطراف للوصول إلى اتفاق للتوقيع عليه، ولكي يكون لنا موقع قدم في العولمة والمنافسة فيها، يجب إعادة صياغة مناهجنا التعليمية لإنتاج “مُنجزي اتفاقيات” وإلّا الإفلاس.
ما رأيكم دام فضلكم؟
مارغريت داربل وجون رولز ومالك التريكي ومن على شاكلتهم هم بشارة واشتياق رسول الانسانية اللذين سيعيدون المساواة والسوية للانسانية بعد أن ألغاها الخليفة الثاني صاحب بدعة ديوان العطايا