بعد استفتاء عام 2016 وبهدف تحويل وقائعه إلى خيال فني، ظهر شكل أدبي جديد هو أدب بريكست، وتجد فيه كل آثار روايات الدايستوبيا الكلاسيكية، التي حفل بها القرن العشرون. وفي مقدمة «عالم جديد شجاع « 2012، وهي قصص دايستوبية، يقول محررها جون جوزيف آدام في المقدمة: «أثناء تصنيف أي مجتمع ما أنه دايستوبيا أو لا دايستوبيا، لا بد من أن نضع في حسباننا، أن ما يراه أحدنا دايستوبيا مرعبة، يراها الآخر عالما مقبولا أو لا دايستوبيا». واقتراع بريكست عام 2016 كان لحظة حاسمة للغاية في تاريخ بريطانيا السياسي، وقد تسببت النتيجة باليأس والحماس بمقدار واحد، اعتمادا على الشخص الذي تسأله. وبهذه الطريقة، إن بريكست فتح الباب لفضاء اليوتوبيا والدايستوبيا في الوعي الجمعي. مثلا حصلت رواية آلي سميث «الخريف» 2016 من «نيويورك تايمز» على لقب: أفضل رواية عن بريكست، فقد عبرت بشكل مثالي عن هذا الشرخ الطارئ على الأبعاد النفسية لسياسة الأمة . وبهذا المعنى كتبت سميث تقول: «على طول وعرض البلاد، شعر الشعب أن هذا اختيار خاطئ. وعلى طول وعرض البلاد، شعر الشعب أن هذا اختيار صحيح. وفي كل مكان شعر الشعب بأنه خسر شيئا، وفي كل مكان شعر الشعب بأنه حقا ربح شيئا». وعلى ضوء هذا التقاطب أصبح السؤال: كيف يجب أن نسرد هذا المخاض؟ ومن سيكتب رواية تعبر عن هذا المسار؟ من العسير أن تتخيل أي كاتب شاب بصفته متكلما باسم بريكست، مثلما كان ألكسندر سولجنتسين متحدثا باسم معتقلات الغولاغ في فترة الدولة السوفييتية. لكن روايات بريكست منحت الاستفتاء نتيجة ملونة، مع القليل من النغمة الدايستوبية.
يستعمل جوزيف آدام عدسة مكبرة يمكننا بها رؤية نصوص الدايستوبيا. ويقول:»في قصص الدايستوبيا يكون المجتمع نفسه هو العدو الطبيعي، إنه مجتمع يبذل جهده ضد أهداف البطل وضد رغباته. وينشط الكبت باستمرار بصورة حكومة توتاليتارية أو متسلطة، وتنجم عن ذلك خسارة للحريات المدنية، وتصبح ظروف الحياة لا تطاق. وتتسبب بذلك عدة ظروف، مثل زيادة كثافة السكان، القوانين التي تتحكم بحرية المرء الجنسية والمنتجة، والحياة تحت رقابة مستمرة». في «خريف» آلي سميث و»الهرب إلى الغرب» لمحسن حامد (2017)، وكلتاهما من أهم روايات ما بعد بريكست، لا توجد حكومة شمولية، ولكن القبضة الحديدية للضياع والتردد تمهد لحالة مختلفة من القمع التي يعاني منها المهاجرون والمواطنون على حد سواء. فظروف الحياة الصعبة ليس بسبب ندرة المصادر، ولكن بسبب العجز عن توفير سرديات متماسكة عن الحاضر. وفي ما كتبته راشيل أفيف في «نيويوركير» بعنوان «صدمة الخوف من الترحيل» تقدم عرضا مفصلا لظاهرة غريبة بدأت بالتوسع بين جماعات المهاجرين إلى السويد، حيث أن مئات الأطفال يفقدون وعيهم حين يتلقون نبأ إجبار عائلاتهم على العودة للوطن. إن الرضة الناجمة عن غموض السياسات المتبعة، تعطل أبدانهم عن العمل والنشاط، وتضعها في حالة سبات وغيبوبة. وتقول عن ذلك: «في نظرية أنتونوفسكي: لتكون بحالة نفسية متماسكة، يجب أن تؤمن أن الحياة مبنية بشكل منظم ومفهوم، ومتوقع. ويؤكد أنتونوفسكي، مثل سلفه فرويد، أن العلة النفسية تتفاقم نتيجة تمزق واضطراب وعينا بتسلسل الحياة، وبخروج الحياة عن مسارها الطبيعي». وهذا النوع من الاضطراب في السردية – وهو ما تنطوي عليه بريكست – ترك على أدبياته كل علامات الدايستوبيا.
«يمكنني أن أفهم كيف تسنى لبريكست أن تصنف في هذه الفئة الإشكالية. ففكرة جيل سيأتي بعدك ويواجه عالما أضيق من العالم الذي كنت تعيش فيه أنت، هو تعريف مناسب، بكل تأكيد، لمعنى اليأس».
أيضا في مقابلة مع زايدي سميث في «نيويوركير» حول قصتها القصيرة «النهر الكسول، 2017» تقول الكاتبة: «لم أفكر بها كقصة عن بريكست. ولكن فكرت بها كقصة عن اليأس والإحباط: الشخصي والسياسي والتاريخي والثقافي. ويمكنني أن أفهم كيف تسنى لبريكست أن تصنف في هذه الفئة الإشكالية. ففكرة جيل سيأتي بعدك ويواجه عالما أضيق من العالم الذي كنت تعيش فيه أنت، هو تعريف مناسب، بكل تأكيد، لمعنى اليأس». إن كلام سميث يوضح لنا أن المجالين الشخصي والسياسي متداخلان أكثر مما حصل في السابق، وهذا أيضا يفسر كيف أن الاضطراب والحيرة على المستوى الوطني يمكن أن يؤثرا في حياة الأفراد. وفي هذه الحالة، لا تكون الحرية المثمرة هي المحدودة، كما هو الوضع في الرواية الدايستوبية، ولكن هناك إحساسا متزايدا فيما يتعلق بحال الأجيال المتعاقبة ومعاناتهم المتوقعة. ولاسيما بعد الوعي بما يجري وما يترتب عليه من فظاعة تشبه فظاعات يوم الدينونة.
ماذا يمكن أن نتوقع من أدباء 2018 وما بعد؟ أعلن الناشرون عن عناوين مختلفة ستبدل بلا شك اتجاه أدب بريكست: وفي برنامج البيكادور مجموعة شعرية لشين أوبراين، وهي تساؤلات عن طرائق «تحديد شكل مستقبلنا والاختيارات التي سنتبعها لاستيعاب شخصيتنا الأوروبية». وفي البرنامج نفسه أعمال روائية مهمة منها «المديح» لراشيل كيوسك، وهي عن ضرورة أوروبا. و»كرودو» لأوليفيا لينغ، وهي تأملات عن الحب في وقت الإحباط، علما أن الأحداث تجري عام 2017 في فندق توسكاني، وضمن أجواء «الشلل» الذي يخيم على المملكة المتحدة من جراء بريكست.
لقد قدم التفكير ببريكست للأدباء إلهاما سياسيا متواصلا، وكان مصدرا لمواد متطايرة، سريعة التبخر، ومتبدلة من أسبوع لآخر، وهذا يصعّب مهمة تحويل النثري إلى سردي وإضفاء معنى عليه. وربما محاولاتنا للتحليل والتفسير لن تكون واضحة إلا بعد فترة، عندما ننظر للنتائج بعدسة مقربة، وهو ما يدعو إليه ستيغ أبيل محرر «ملحق التايمز الأدبي». يقول: «أنظروا لأفضل كتاب منذ أن اعتلى ترامب سدة الرئاسة في أمريكا. إنه رواية «1984» لجورج أورويل. لقد كتب أورويل «مزرعة الحيوان» عن الشيوعية، وأصبحت بمستوى الخرافات الشعبية القديمة، وأتوقع أن نشاهد في المستقبل تأثير بريكست بهذا المنظار، بحيث يتحكم بكل أدوات حياتنا. إن أثر بريكسيت سيترك طابعه على المستقبل حتما».
وإنه من دواعي الأمل والتفاؤل أن يعالج الأدباء هذا الموضوع في الروايات، ويعملون على مواجهة الغموض الذي يلفه. كان اقتراع بريكست اقتراعا متعدد الجوانب، ويبدأ من المشاكل الملموسة والمادية وحتى التجريدية: مثلا موضوع الهجرة، والاقتصاد، والعمل، والتجارة، والهوية، والتاريخ. وإذا وضعنا ذلك في حسباننا، لن نفلح في اكتشاف أعماقه إلا بتوظيف أشكال مختلفة تتجاوز حدود الصحافة المطبوعة. لقد شغل بريكست المجتمع، وأثار جدالا لانهاية له. وها نحن نكتوي بناره. وهذه المعاناة أفضل فضاء لتنشيط فن الرواية وتحريضه وتحريكه.
في لقاء مع جون فريمان، وهو منشور في «ليتراري هب/ المحطة الأدبية» ناقش محسن حامد أهمية النظر إلى الخلف، ولكن مع التمعن بالمستقبل، وهذه طريقة من طرق بناء فهم تراكمي. وعن ذلك يقول: إن «الحركات الشعبية هي تاريخ الأنواع، ولعلها على الأرجح، هي مستقبل الأنواع أيضا. وربما، ربما فقط، سيستمتع أحفادنا بالمستقبل أكثر مما فعل أجدادنا في الماضي. وأنا روائي، وأومن بأنه لدينا رغبة بالحكايات أكثر من رغبتنا باستعادة الذكريات. ونحن لدينا دوافع كي لا نكتفي بالنظر للخلف. يمكننا أن نتذكر أين كنا، ولكن يمكننا أيضا أن نتخيل أين يمكن للآخرين أن يصلوا بمسعاهم».
٭ محرر أدبي من جورجيا / بريطانيا
الترجمة بتصرف: صالح الرزوق