حين اكتشفت قصائد سيلان للمرة الاولى، اوائل التسعينات من القرن المنصرم، ولم اكن قد سمعت باسمه ابدا قبل ذلك التاريخ، كانت الدهشة، بمعناها الكلي، هي ردة فعلي الاولى حيال ذاك الكم الهائل من الدفق الشعري: لغة وصورة. هي دهشة التلقي البكر لما لم تنتظر ان تعثر عليه في كتاب عام حول الشعر الالماني. فكيف لك انتظار كل ذلك الشعر البهي في كتاب عام ومن شاعر لم تسمع به اصلاً؟ ليس هذا فحسب، بل لتعرف حينها بأنك أمام الاجمل وربما الاهم في كل ما تعرفه من الشعرية الالمانية برمتها .
هكذا عثرت على باول سيلان { 1920ـ 1970 }. وهكذا بدأت، منذ تلك اللحظة، بالبحث المسكون بغوايات الشعر عن التركة الفنية المميزة للشاعر الذي مات منتحرا في باريس العام 70 مثيراً، عبر طريقة رحيله الخاصة تلك، مزيداً من اسباب الاهتمام لدي به وبعوالمه. فهذا شاعر من طرازه الرفيع هو، وفي اوج تألقه يغادر بيته صباحاً باتجاه نهر السين ليلقي بجسده هناك ،وهذا شعره المشغول، حد الهوس، بأدانة الموت وما يمثله والمحتفي دائما بالحياة والحب ودوافع البقاء الادمي، حيث يصعب على المتلقي، والحال هذه، تفكيك الغاز ذاك التناقض { الخارجي } الصارخ بين الذهاب بعيدا في مديح الحياة، ثم الذهاب الطوعي الى الموت ؟
قرأت المزيد والمزيد من ارث سيلان وقرأت الكثير عن حياته وحولها وعرفت، انذاك، أن الشاعر هو سليل عائلة يهودية من اصل روماني وأن عددا من افراد تلك العائلة قد فقدوا حياتهم في معسكرات الاعتقال النازية ابان سنوات الهلوكوست، وأن اقامة سيلان في فيينا، بعد نهاية الحرب، قد اثمرت عن علاقة عشق استثنائي الجمال والتفاصيل مع الكاتبة النمساوية الشهيرة انغبورغ باخمان وأن ديوانه البديع {الخشخاش والذاكرة} هو رحلة شعرية اخاذة في سبر اغوار تلك العلاقة وتفكيك خباياها. وأن باول سيلان قد قام اواخر العام 1967، على اثر هزيمة حزيران، أو: {النصر الكوني} كما سماها، بزيارة اسرائيل واللقاء بجنودها الذين { حرروا الارض } كما يقول في مطلع قصيدته التي القاها على مسامعهم في معسكر للجيش .
صدمة لا توصف بالقليل من الكلمات هي رحلة الشاعر وقصيدته التي اكتشفت. فكيف يتورط شاعر شمولي الرؤية الانسانية وبعيدها، علاوة على انه الممثل الابرز في الشعر الالماني لمفهوم الضحية التي برع باستنطاق اوجاعها. كيف يتورط بمديح الجلاد واعتبار احتلاله لارض الغير {تحريرا} لها ؟
لم تمر زيارة سيلان لاسرائيل، عندي، مرور الكرام. أنا القارىء الذي صعد به الشاعر الى الق الشعر ونال شيئاً من روحه. كانت الحيرة التي تخلفها الصدمة هي الشعور المجلجل الذي سيطبع علاقتي، ولا يزال، بسيلان، وهي عين الحيرة {مع اختلاف الاسباب احيانا} التي سأعثر عليها مراراً في الدراسات النقدية الالمانية التي تناولت حياة سيلان وناقشت، او عملت، على تحليل اسباب تلك الزيارة {الغريبة} عبر تبريرها مرة او ادانتها مرات اخرى، اضافة، كما فعل البعض من النقاد، الى ردها بالكامل: الى الحالة النفسية المضطربة التي طبعت حياة الشاعر وقادته {دليل على عمق الاضطراب وخطورته} الى الانتحار.
حين تستعيد ذاكرتي الان سيلان : صدمة سيلان… سقطته الصارخة والعصية على التفسير: يحضر ادونيس على الفور ايضا. هكذا وبلا اتفاق داخلي على المقاربة بينهما. بلا رغبة بأسقاط الفعل الاول على الثاني، فلا شيء يجمع ادونيس، في نهاية المطاف، بسيلان غير الشعر وغير، هنا بيت القصيد: ما يثيره موقف الشاعر الذي تحب وتتابع وتمدح بلا انقطاع من حدث جلل: القضية الفلسطينية في حالة سيلان، والثورة السورية في حالة ادونيس، مع اهمية الاشارة هنا الى خطورة موقف الثاني مقارنة بالاول، اذ يدور الحديث هنا، في الحالة الاولى، عن شاعر الماني لا تمس سقطته الاخلاقية {زيارة اسرائيل} ولا تؤثر في كلية المشهد الثقافي ولا السياسي العربي، ولا تغادر قدرتها على انتاج الصدمة المشار اليها اعلاه. في حين، في حالة الثاني تحديدا، تأخذ الصدمة التي اثارها موقف الشاعر من ثورة شعبه ابعادا ثقافية وسياسية واجتماعية تمس المكونات الفكرية التي تخرج من رحمها المجتمعات العربية عموما وليس المجتمع السوري وحده. لا مبالغة كما ارجو في هذا الرأي، فأدونيس هو عضلة ثابتة ومركزية في هذه الثقافة العربية. هو ابن الحراك الفكري والنظري، الى جانب الابداعي، الذي عرفته هذه الجغرافيا على امتداد نصف القرن الاخير، بل هو فاعل اساسي في ذلك الحراك وليس مجرد شاعر مكرس وكبير، لهذا، ولاسباب عديدة اخرى، لا يمر رأيه مرور الكرام بيننا. ولا يعتبر موقفه السياسي بلا اثر او نتائج، ولعل الشاعر يدرك جيدا أثار موقعه المؤثر هذا، ويعرف جيدا بأن حجم النقد الذي تعرض ويتعرض له هو بحجم حضوره هو في هذه الثقافة وهذه المجتمعات؟؟
قيل وكتب الكثير، حول موقف ادونيس الصادم من الثورة السورية، وسيكتب ويقال الكثير بلا شك، ولا اريد هنا التكرار او اسعى اليه، ولكن ما يثير الدهشة، الصدمة، الغضب، حتى اللحظة هو امتناع ادونيس عن ادانة هذا القتل الطقسي الذي تجاوز قبحه ما يقترحه الجحيم بكثير؟ هو تمنع الشاعر عن توجيه اللوم لتلك العصابة الواقفة وحدها خلف هذا القتل: عصابة النظام الهمجي التي انتجت، عبر سلوكها ما قبل البدائي، ثلة من العصابات الهمجية الاخرى التي تسلقت جسد الثورة. في وقت لا يزال معه ادونيس بلا طاقة { تمتع بها جيدا في السابق } على قراءة البعد المدني للثورة السورية. المحرك الحداثي لها وليس البدائي. والاعتراف بمدنية اسبابها وطموحاتها وما سعت وتسعى اليه وتعمل، في هذا الظلام الدامس، على تحقيقه : دولة مدنية عصرية بلا طغاة او خلفاء أو سادة قصور، وما عدا ذلك، وكما يعرف ادونيس او لا يعرف، هو العكس تماما من الاهداف التي قامت من اجلها الثورة. هو عكس بنيتها واحلامها وعكس هذي الشوائب الفكرية والعقائدية التي عمل النظام، الى جانب الانظمة القمعية الاخرى، على انتاجها والصاقها عنوة بالثورة.
لا اقارن مرة اخرى واخيرة بين زيارة سيلان لاسرائيل وموقف ادونيس من عذابات شعبه. صحيح أن السقطة الاولى تستدعي السقطة الكارثية الثانية وتقاربها، ولكن الصحيح ايضاً، هو أن الموقف الادونيسي هذا يمسنا اكثر ويخدش الانساني الجميل فينا اكثر واكثر وهو موقف لا يتفق او يستقيم، بكل الاحوال، مع مجموع الناتج الشعري والنظري الذي خلفه الشاعر، كما لا تستقيم ابداً زيارة سيلان لاسرائيل ومديحه لجنودها مع ارثه الشعري البديع. فإذا كان لا بد للشاعر من موقف ما فهو حتماً الى جانب الضحية وضد الجلاد على العكس تماما مما فعله سيلان، وعلى النقيض تماما مما يفعله ادونيس اليوم .