أرابيسك الباليه: نعومة الخطوط وجماليات الجسد

في فن الباليه يشير مصطلح الأرابيسك إلى وضع من أهم الأوضاع الراقصة الأساسية، التي تنبثق من خلالها حركات أخرى، تمضي بالرقصة إلى حيث يريد المصمم. وبشكل عام يرتبط هذا المصطلح بالفنون العربية الإسلامية، التي انتقلت إلى أوروبا عن طريق العرب، وله وجوده القائم بمعانيه الواسعة ومدارسه المتعددة، في بعض الفنون الأخرى، كالفن التشكيلي وفنون العمارة، والموسيقى الكلاسيكية أيضاً، وفيها تعني كلمة أرابيسك الزخرفة على الطراز العربي. وفي قائمة مؤلفات بعض عظماء الموسيقى الكلاسيكية، توجد قطع تحمل عنوان أرابيسك، للموسيقار الألماني روبرت شومان، والموسيقار الفرنسي كلود ديبوسي على سبيل المثال.
والأوضاع أو الحركات والخطوات الأساسية في فن الباليه، هي كالأدوات الأوليّة التي تتوفر للمصمم، وتوجد أمامه قبل أن يبدأ عمله في تكوين الرقصات، والتشكيلات الجسدية، وخلق التعبيرات الدرامية والعاطفية المرتبطة بكل شخصية، والحالات والأحداث التي تمر بها. وأوضاع الباليه الأساسية بالنسبة للمصمم، هي كنغمات الموسيقى بالنسبة للموسيقار، والألوان للرسام، والحروف الأبجدية أو الكلمات للكاتب. يختار كل منهم من بين هذه الأدوات، ويعتمد عليها في خلق عمل فني إبداعي جديد، لم يكن موجودا من قبل في هذا الشكل أو على تلك الهيئة. ولا يتشابه مع أي عمل فني آخر، عدا في محاولات التقليد وضعف الموهبة. وعلى الرغم من أن الألوان ثابتة وشبه محدودة، وكذلك الكلمات ونغمات الموسيقى، إلا أنها تنفتح بالمبدع على عالم لانهائي ممتد الآفاق، ويستطيع كل فنان أن يتميز، وأن يحدد معالم شخصيته الفنية، عن طريق استخدامه لتلك الأدوات الأولية، وهنا تكمن المهارة، ويختبئ سر الإبداع.
الأرابيسك في فن الباليه ليس وضعاً واحداً، وإنما هو عدة أوضاع تُسمى جميعها باسم الأرابيسك، قد يمنحها البعض أرقاما للتمييز بينها، وقد تضاف إليها أسماء أخرى فرعية تعبر عن طبيعتها وخصوصيتها. ويجمع بين كل هذه الأوضاع، ارتسام خطوط القوام بنعومة واضحة، وعرض جماليات الجسد بزوايا جديدة وطرق مختلفة، من خلال تمدده بانسيابية تمتزج مع فضاء المسرح والتشكيلات الجسدية الأخرى. ومن أشكال الأرابيسك، الوقوف على الساق الداعمة، ومد الساق الأخرى ورفعها إلى الخلف، مع مد الذراع المقابل للساق الداعمة إلى الأمام، والآخر إلى الخلف بموازاة الساق المرفوعة، أو عكس وضع الذراعين، بحيث يكون الذراع الموازي للساق الداعمة، هو الممدود إلى الخلف. أو مد الذراعين إلى الأمام، ورفعهما إلى الأعلى بنعومة، مع الوقوف على الساق الداعمة بالطبع، ورفع الساق الأخرى إلى الخلف، أو امتداد الذراعين في وضع أفق، مع رفع إحدى الساقين بشكل جانبي، أو الدوران في وضع الأرابيسك، دورة كاملة أو عدة دورات متلاحقة، وكذلك الانحناء بالجسد في وضع الأرابيسك، بحيث تكاد الراقصة تلمس الأرض بإحدى يديها، بينما تكون اليد الأخرى أو الذراع الأخرى، ممدودة إلى الخلف، في أقصى ارتفاع ممكن بموازاة الساق المرفوعة أيضاً.

توجد أوضاع الأرابيسك في رقصات الرجال والنساء على السواء، وكذلك في الرقصات الفردية، والثنائية والثلاثية والرباعية، وفي رقص المجموعات الكبيرة. وقد يلاحظ البعض، أن جماليات الأرابيسك تظهر بقوة، عندما يتم توظيف أوضاعه في الرقص الجماعي، حيث تتشابك الأجساد، وتتشكل بطرق متداخلة، تعبر عن دقة وتعقيد الأرابيسك، وعن فكرته وفلسفته في ملء الفراغ، وشغل الفضاء بتفاصيله الغنية. ويمكن تتبع وضع الأرابيسك في الكثير من الباليهات الكلاسيكية العريقة بتصميماتها التقليدية، كباليه «بحيرة البجع» في رقصة الأمير الفردية، ورقصة أوديت المنفردة أيضاً. وباليه «ابنة فرعون» في الرقصة الثنائية، التي مزجت بين وضع الأرابيسك، وبعض الأوضاع الفرعونية الراقصة، الموجودة على نقوش جدران المعابد والمقابر المصرية القديمة. وباليه «كسارة البندق» في رقصته الثلاثية المشهورة.

ومن أجمل النماذج المعبرة عن جماليات الأرابيسك في فن الباليه، رقصة The Willis من باليه جيزيل، الذي يعد من أهم وأقدم العروض الكلاسيكية الخالصة.

والأرابيسك عموماً من الأوضاع أو الحركات الصعبة، التي تؤدى بدرجات متفاوتة السرعة، وتتطلب التمكن التقني والقوة الجسدية، والتوازن الدقيق وأعلى درجات التركيز. وكذلك إتقان الأداء التمثيلي المصاحب لها، والتعبير بالوجه والجسد، حتى لا يبدو الأمر ميكانيكيا يخلو من الروح، واستحضار الإحساس الداخلي للشخصية الخيالية، والاندماج مع الموسيقى والتعبير عما تنطوي عليه من مشاعر. وتقديم كل هذا بطريقة توحي بأن الجسد، ينساب بتلقائية وسلاسة مع الموسيقى، متحررا من القيود والقواعد، أو على الأقل لا يظهرها في صورتها الجافة القاسية.
ولا يقتصر استخدام وضع الأرابيسك على الباليه الكلاسيكي وحسب، بل يتم توظيفه أيضاً في الباليه الحديث، مع تطويره بالطبع، وإضافة بعض التغييرات إليه، وهو ما يوجد لدى المصمم الفرنسي موريس بيجار في رقصة «بوليرو» على سبيل المثال، التي صممها على أنغام قطعة «بوليرو» للموسيقار الفرنسي موريس رافيل، حيث جعل بيجار الراقص يقف على الساق الداعمة، ويرفع ساقه الأخرى إلى الوراء، ويمد الذراع المقابل لتلك الساق الداعمة، إلى الأمام نحو الأعلى قليلاً، بينما يمتد الذراع الآخر بموازاة الساق المرفوعة، وتمسك اليد بالقدم، وبالإضافة إلى الأرابيسك، وظف بيجار في رقصة بوليرو، بعض العناصر الشرقية، كملامسة القدم للأرض بضربات خفيفة، ودوران الجسد ارتكازا على هذه الضربات، وكذلك حركة الذراعين إلى الأعلى وتموجاتهما الناعمة، وتحريك عضلات البطن والوركين، وبعض الانحناءات والالتواءات الأخرى، وكان الراقص الأرجنتيني الراحل جورج دون من أمهر الذين أدوا هذه الرقصة بتعبير فريد في حركته ودراميته. ومن أجمل النماذج المعبرة عن جماليات الأرابيسك في فن الباليه، رقصة The Willis من باليه جيزيل، الذي يعد من أهم وأقدم العروض الكلاسيكية الخالصة. في تلك الرقصة الجماعية، استطاع المصمم أن يصنع لوحة كاملة شديدة التنميق، بالاعتماد على وضع الأرابيسك، يظهر فيها التشكيل البديع وجماليات الزخرفة البشرية، المصنوعة بواسطة أجساد رقيقة، هي في حقيقتها أرواح ضحايا الحب من الفتيات، التي تهيم راقصة في الليل.

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول قلم الرصاص:

    شكرا اختي مروة على هذه اللمحة عن حركات الارابيسك في فن الباليه تحياتي

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا لك أخي خليل. أحببت أن أكتب عن تأثير ما ولو كان من بعيد جدا لفنون العرب في فنون أوروبا. سلامي لك

    2. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا لك أخي خليل. أحببت أن أكتب عن تأثير ما ولو كان من بعيد جدا لفنون العرب في فنون أوروبا. سلامي لك.

    3. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا لك أخي خليل أحببت أن أكتب عن تأثير ما ولو كان من بعيد جدا لفنون العرب في فنون أوروبا. سلامي لك

  2. يقول هيثم:

    مقال ممتع ومفيد حول العلاقة الدقيقة بين فن الباليه و الرقص و الموسيقى مع الترميز على أوضاع الأرابيسك في فن الباليه. طبعا يبقى الرقص مثل الموسيقى و الشعر تعبيرا عن المشاعر الإنسانية و عندما يؤطر ضمن أوضاع الباليه و أشكاله يتخذ بعدا راقيا و جميلا يسر الناظرين. كم هو ملفت للانتباه ذكر الفنان الفرنسي المبدع موريس بيجار و توظيفه لموسيقى البوليرو في الباليه. شكرا لك دكتورة مروة على هذه المعلومات القيمة فما أحوجنا في المجتمعات العربية إلى ثقافة فنية تربي أذواق المواطنين.

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا أستاذ هيثم. أنا أحب بيجار جدا وكتبت عنه كثيرا هنا. وربما مل القارئ من هذا التكرار. كم هي ساحرة رقصة بوليرو بأداء جورج دون. كتبت عنها مقالا وحدها هنا 2019 . الذوق يا أستاذي العزيز يربى بكثرة التعرض للجمال ومواجهة القبح. تحياتي

    2. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا أستاذ هيثم. أنا أحب بيجار جدا وكتبت عنه كثيرا هنا. وربما مل القارئ من هذا التكرار. كم هي ساحرة رقصة بوليرو بأداء جورج دون. كتبت عنها مقالا وحدها هنا 2019 الذوق يا أستاذي العزيز يربى بكثرة التعرض للجمال ومواجهة القبح. تحياتي

    3. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا أستاذ هيثم. أنا أحب بيجار جدا وكتبت عنه كثيرا هنا. وربما مل القارئ من هذا التكرار. كم هي ساحرة رقصة بوليرو بأداء جورج دون. كتبت عنها مقالا وحدها هنا 2019 الذوق يا أستاذي العزيز يربى بكثرة التعرض للجمال ومواجهة القبح. تحياتي

  3. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    عزيزتي مروة .. أنا ما ليش دعوة … ?

  4. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    عزيزتي مروة … أنا ماليش دعوة بالباليه .. و لم افهم شيئا … ما عليش ..
    .
    لم افهم علاقة عرب قريش بحركة أرجل انثى جميلة ..
    .
    و لم اشاهد خالتي تفعل الحركة ابدا … و بصدق.

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      وأنا لم أشاهد أبدا راقصة باليه تأتي بحركة معوجة كساق مجسمة الباليه الصغيرة ?

    2. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      جوابك مبهم للقارى سيدتي الكريمة .. و تتحدثين عن مجسمة صغيرة .. و للتوضيج هي من احد اعمالي
      الفنية العضيمة .. الكبيرة .. الفخمة .. العملاقة .. في مجال التجسيم التشكيلي .. و عرضتها عليك مبتهجا ..
      لأسمع نقدا جمبلا من صديقة متخصصة .. و كانت الكارثة .. فتكسرت احلام فنان كبير .. للاسف ..
      و حُرم العالم من اعمال فنية خالدة .. و اشكرك جزيل الشكر.

  5. يقول ahmad:

    الأرابيسك موجود حتى في الغناء والموسيقى التركية.بعد ما جاء كمال اتاتورك للسلطةو تم الغاء الاحرف العربية والتقليد للاوربي في الازياء و نمط العيش الحديث و غيره لكن بعد كل ذلك نشأ عند الاتراك نوع و اسلوب وتيار جديد في الموسيقى والغناء يعرف باسم ;الأرابيسك التركية و تأثرو بعد ما سمعوا ام كلثوم و عبد الوهاب و غيرهم.فقط اخت مروة اذا بحثتي عن الاربيسك في الموسيقى التركية ستجدين معلومات اكثر.

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا جزيلا على هذه المعلومة. نبهتني إلى أنني لا أستمع أبدا إلى الموسيقى التركية. سأبحث عن الأرابيسك

  6. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    عودة وعلى ظهر الكلمات الفنية لعالم الرقص لكن بين قوسين تهنئة بمناسبة عيد لاضحى فهي لك سيدتي الكاتبة الباحثة المحترمة مروة ولمن يعيش تحت ظل خيمة مصر العربية التي دخلت عالم السينما وغيرها من الباب الواسع مرفوعة الرأس نعم رقصة الباليه تفننت فيها وجوه وهي ليست خالية من المعاني غير ممكن بل حتى النغمات النموسيقية المرافقة ولقد سبق ان قلنا أن الشاعر المتميز عن غيره له نغمات في هد ا الباب أي باب الرقص وهد ا بفضل الحس الدي يتمتع به فهو مختلف عن الناس لكنه منهم لازالت لنا كلمات أخرى فنحن نتجنب التقليد فلن يكون في عالمنا الفني شكرا لاخت مروة

  7. يقول مروة صلاح متولي:

    إلى بلي محمد من المملكلة المغربية:
    شكرا بلي محمد. كل عام وأنت بألف خير عزيزي والمغرب الحبيب دائما. بقدر الفخر بالسينما المصرية قديما، بقدر ما هو الأسف على ما آلت إليه الأمور. أتمنى أن تحدث معجزة وتدخل مصر عالم السينما وبقية الفنون “من الباب الواسع مرفوعة الرأس حسب تعبيرك” شكرا مرة أخرى ولك خالص المودة والتقدير

  8. يقول المملكة المغربية بلي محمد:

    وعلى ظهر البرق لكن كلمة ادا سمحثم شكرا ثم شكرا على الجواب الدي ان دل على شيء فأنما يدل على أن للمحب المغربي للفن لاصيل مكانة ووزن في عيون الكتاب المصريين المتميزين وأنت سيدتي شكرا مرة ثالتة

  9. يقول مروة صلاح متولي:

    إلى منتحل لقب بلي محمد من المملكة المغربية:
    نعم لكل كلمة طيبة محترمة يكتبها الأخ العزيز بلي محمد من المملكة المغربية وزنها ومكانتها في العين والقلب.

  10. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    إلى منتحل لقب بلي محمد من المملكة المغربية:
    .
    أربأ بك أخي الكريم أن لا تنتحل ألقاب معلقين مرة أخرى .. فهذا غير أخلاقي بالمرة ..
    و يمس مباشرة سمعة جريدة عرببة عالمية دات صيت ممتاز و نقي ..
    و يمس سمعة المنبر برواده أيضا ..

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية