تونس-“القدس العربي”: تضم تونس مجموعة هامة من الجزر المتوسطية الخلابة التي تسرّ الناظرين سواء قبالة سواحلها الشمالية أو الشرقية باعتبار إطلالتها على واجهتين بحريتين، يراها البعض ثلاث بالنظر إلى شبه جزيرة الوطن القبلي، التي يحيط بها البحر من ثلاث واجهات. وهذه الجزر منها ما هو غير مأهول بالسكان على غرار زمبرة، زمبريتا وقوريا وغيرها، والتي يذهب إليها ويرتادها المصطافون والسياح وهواة المغامرات، ومنها ما هو مأهول ويضم مدنا تاريخية ضاربة في القدم منها جزيرة الأحلام الأسطورية جربة، التي قذفت إليها الأمواج مراكب أوليس أو أوديسيوس الإغريقي بعد معركة طروادة، واضطر لوضع الشمع بمعية صحبه حتى لا يُفتن فيها بغناء عرائس البحر. وهناك أيضا أرخبيل قرقنة مسقط رأس الزعيم التونسي النقابي فرحات حشاد، وكذا أرخبيل جالطة في أقصى شمال البلاد الذي نفي فيه الزعيم الحبيب بورقيبة خلال المرحلة الاستعمارية.
جنة طبيعية
تبعد جزيرة جالطة والجزر المحيطة بها عن مدينة بنزرت الشمالية، قرابة 81 كيلومترا، و60 كيلومترا عن مدينة طبرقة الواقعة في الشمال الغربي للبلاد التونسية. ومن بين جزر الأرخبيل إلى جانب جالطة، جزر جاليطون والفوشال، الواقعتان على بعد ثلاثة كيلومترات جنوب غرب جالطة، وأيضا جزر الكلاب، وهي ثلاث جزر صغيرة تقع في الشمال الشرقي من الجزيرة الأم. وجالطة، التي هي أكبر جزر الأرخبيل تبلغ مساحتها 752.3 هكتار ويبلغ طول أعلى ارتفاع فيها 391 متراً عن سطح البحر، وهي تتميز بجمال استثنائي قل نظيره في جزر البحر الأبيض المتوسط في الحوضين الشرقي والغربي.
إن جزيرتا جاليطون والفوشال هما محميتان طبيعيتان منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين بمقتضى القانون، ويمنع فيهما الصيد كما في باقي الأرخبيل الشمالي حفاظا على حيوان الفقمة الذي يستوطن تلك الجنان الخلابة، وهي ظاهرة فريدة في البحر الأبيض المتوسط الذي لا يعتبر موطنا لهذه الثدييات. كما يضم الأرخبيل طيورا نادرة تبدو في حاجة إلى الثروة السمكية شأنها شأن الفقمة لتستمر ويستمر معها التوازن البيئي الذي يميز تلك الجنة التونسية غير المستغلة سياحيا كما يجب، وقد بات استثمارها ضروريا لتنويع المنتوج خلال السنوات والعقود المقبلة.
يتميز أرخبيل جالطة بتضاريسه الصعبة والقاسية وطبيعته الساحرة وكهوفه المنتشرة على امتداد جزر الأرخبيل والتي يقطن فيها حيوان الفقمة الذي يمنع صيده منعا باتا على التونسيين والزوار الأجانب. كما يمنع صيد السمك في محيط الجزر وهو ما يضطر زائرها إلى شراء حاجته من الأسماك من قوارب الصيد التي تأتي بها من الأعماق بعيدا عن الأرخبيل.
وتعيش على اليابسة في جالطة الخلابة إلى جانب الفقمة حيوانات متنوعة أهمها الماعز المتوحش الذي يستوطن قممها وارتبطت صورتها في الأذهان بهذا الحيوان الذي يتميز لحمه بمذاق لذيذ، لكن صيده ممنوع بقانون بيئي تونسي يرى في جالطة وغيرها من الجزر حراسا للبيئة ومخزونا سياحيا خفيا استراتيجيا للاستثمار في السنوات المقبلة في إطار تنويع المنتوج وتدعيم القدرة التونسية على المنافسة. كما توجد السلاحف البرية والبحرية على حد سواء ويمنع أيضا صيد الأخيرة والتي تتم تربيتها أيضا في جزيرة تونسية أخرى هي قوريا البعيدة عن جالطة والواقعة قبالة سواحل مدينة المنستير جنوب العاصمة تونس.
وتضم محمية جالطة نباتات متنوعة على غرار الزيتون البري، والتوت، والعنصل أو بصل فرعون والعرعر الفينيقي وغيرها، وفيها مخزون هام من المياه المعدنية الطبيعية التي تنفجر من عيون عذبة كما في عين الكرمة، وعين النخلة، وعين سيدي أحمد وهي مفيدة للصحة. كما يمتلئ محيط الأرخبيل بالأعشاب البحرية المفيدة للعلاج من عدد كبير من الأمراض والتي تمثل أيضا غذاء هاما لمختلف أنواع الأسماك المتوسطية إضافة إلى الشعب المرجانية المنتشرة في محيط جالطة شأنها شأن سواحل مدينة طبرقة التونسية غير البعيدة عن الأرخبيل.
وهناك خلاف مفاده هل أن جالطة هي أعلى نقطة في القارة الافريقية من جهة الشمال أم أن رأس أنجيلا التابع لولاية بنزرت التونسية هو آخر نقطة شمالية في القارة السمراء؟ فالبعض يعتبر أن العبرة هي بآخر نقطة في اليابسة التونسية من دون اعتبار الجزر، وآخر نقطة في هذه الحالة هي رأس أنجيلا من ولاية بنزرت، فيما يعتبر آخرون أن أرخبيل جالطة ينتمي إلى صفيحة افريقيا في نظرية بنية الصفائح، وهو جزء من أرض تونس المنتمية إلى القارة الافريقية وبالتالي فإن جالطة هي آخر نقطة في افريقيا من جهة الشمال يقابلها رأس أقولاس أو رأس الإبر في كيب تاون في جنوب افريقيا باعتباره آخر نقطة في القارة السمراء من جهة الجنوب.
موطن الإنسان القديم
توجد في جزيرة جالطة آثار قديمة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، كما توجد فيها آثار فينيقية وأخرى قرطاجية بونية تعود إلى زمن ما قبل ميلاد المسيح، وفيها أيضا ما يشير إلى التواجد الروماني. ويعتقد أن جالطة كانت مزدهرة في تلك العهود باعتبار أن هذه الحضارات هي حضارات بحرية وهي في حاجة باستمرار إلى المرافئ والمراسي والمنصات والمحطات البحرية، وأيضا للنقاط المتقدمة لخفر السواحل والتنبيه المبكر من اقتراب الأعداء والغزاة. وتبدو جالطة المكان المثالي لذلك بالنظر إلى موقعها الجغرافي.
لقد مرت جالطة بكل الحقب التاريخية التي مرت بها تونس وعاشت جميع الحضارات التي تعاقبت على أرض الخضراء لكنها عانت من الإهمال في كثير من المحطات إن لم تكن أغلبها. وقد استوطنها الإنسان منذ أقدم العصور ومن المؤكد أن الأمازيغ هم أول من استقر في جالطة مثلما كانوا أول من استوطن شمال افريقيا.
ولا توجد في جالطة آثار إسلامية رغم أن الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين والحفصيين وحتى المستعمرين العثمانيين اهتموا بالبحر والجزر وكانت لهم أساطيلهم البحرية الهامة. فقد ألحق الأغالبة على سبيل المثال صقلية الإيطالية بتونس التي كانت تسمى افريقية، وكانت أكبر حجما شرقا وغربا وعاصمتها القيروان. وكان القاضي القيرواني أسد بن الفرات هو من قاد تلك الحملة التي توجت بعودة الجزيرة الإيطالية إلى عرين القرطاجيين الذين افتكها منهم الرومان في العصور الغابرة.
ولعل عدم اهتمام العرب والمسلمين بجالطة هو الذي دفع بالإيطاليين إلى استيطانها في وقت ما وذلك قبل احتلال الفرنسيين لتونس والذين اهتموا بدورهم بالجزيرة بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي الهام قرب مضيق صقلية على الطريق التجارية الدولية بين المحيط الأطلسي والهندي عبر البحرين المتوسط والأحمر، ومن خلال عدد من المضائق والقنوات هي مضيق جبل طارق ومضيق صقلية بين تونس وإيطاليا وقناة السويس ومضيق باب المندب. وقد قام الفرنسيون بعد انطلاق الثورة المسلحة في تونس سنة 1952 باعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة ونفيه سنتين في جالطة حيث توجد صورة شهيرة جدا لبورقيبة وهو جالس على صخرة في الجزيرة يتوكأ على عكازه مستسلما لمصيره، وقد نحت تمثال لهذه الصورة تم وضعه في إحدى الساحات بمدينة طبرقة.
وبعد استقلال تونس بست سنوات قام الرئيس بورقيبة بتأميم الأراضي التونسية التي على ملك الأجانب وافتكها من الفرنسيين والإيطاليين والمالطيين ومنها جالطة التي غادرها الإيطاليون إلى فرنسا التي منحتهم اللجوء والجنسية. ولربما لو لم يفعل بورقيبة ذلك لكان مصير جالطة كمصير جزيرة بنت الرياح أو بنتلاريا حسب النطق الإيطالي والتي سلم فيها أحد ملوك تونس إلى الإيطاليين مقابل امرأة إيطالية عشقها هذا الملك الغريب.
جالطة اليوم
لقد كثف الجيش التونسي تواجده في الأرخبيل بعد الاستقلال وبسط عليه نفوذ الدولة وسيادتها على أراضيها خصوصا بعد معركة الجلاء التي حرر بمقتضاها هذا الجيش آخر جيوب الاستعمار الفرنسي أي مدينة بنزرت وقواعدها العسكرية غير البعيدة عن أرخبيل جالطة. وتعيش في الجزيرة الكبرى من هذا الأرخبيل عائلات تونسية نشاطها الأساسي هو صيد السمك ويقدم لها الجيش جليل الخدمات في تلك الربوع الخلابة ويسهر على حمايتها ورعايتها.
ويقصد عدد قليل من السياح جزيرة جالطة للراحة والاستجمام هربا من ضوضاء المدن وإرهاق الحياة ويقضون فيها أياما تمضي في التخييم والسباحة والغوص والتجوال بالقوارب في محيط طبيعي استثنائي يجدد طاقة البشر ويزيل التعب والإرهاق. ولكن خلافا لجزيرة جربة جنوب تونس وإلى حد ما أرخبيل جزر قرقنة في وسط البلاد، فإن باقي الجزر التونسية، ومنها أرخبيل جالطة الشمالي، غير مستغلة سياحيا رغم تأكيد خبراء السياحة بأنه لو يتم استغلالها بالشكل الأمثل ويتم الاستثمار فيها فإن تونس ستحقق قفزة عملاقة وستنافس كبرى الأمم السياحية وتتجاوز البلدان الواقعة في محيطها بسنوات ضوئية في هذا المجال، وذلك بالنظر إلى جمال هذه الجزر وما يمكن ان تقدمه من منتوج سياحي يتعلق بالغوص والاستشفاء بالمياه المعدنية والأعشاب البرية والبحرية، ناهيك عن جمال الطبيعة من جبل وغابة صالحة للتخييم والتجوال والكتابة والرسم وبحر نظيف صاف ومبهر وشواطئ صخرية ورملية عذراء وهواء نقي إضافة إلى الآثار والتاريخ.
لقد تم الشروع في سنة 2006 في تنفيذ برنامج يتعلق بتنمية جزيرة جالطة وتطويرها بتمويل من الصندوق الفرنسي للبيئة العالمية ويتعلق المشروع بالحفاظ على المحمية الطبيعية، بما تضمه من حيوانات ونباتات نادرة، وتطوير السياحة البيئية من جهة، ودعم جهود الدولة التونسية لإعمار جزر الأرخبيل من خلال تطوير البنية التحتية من طرقات ومسالك وممرات من جهة أخرى. كما يتضمن ترميم المباني التي كان يقطنها الإيطاليون خصوصا المساكن والكنيسة والمدرسة. ويتضمن أيضا ترميم باقي المباني ذات الطابع التاريخي والتراثي وحسن استغلال المياه الجوفية وتجميع مياه الأمطار باعتبار أن التساقطات هامة في تلك الربوع التي تهب عليها رياح شمالية غربية متوسطية.
فهذه المباني يمكن أن توفر طاقة إيواء هامة للزائرين من السياح وغيرهم، وتجميع المياه سيمكن من توفير مخزون هام لهم على مدار العام حيث من المتوقع أن تتزايد أعدادهم. فتطوير النشاط السياحي يقتضي تحسين البنية التحتية والزيادة في القدرة على الإيواء إضافة إلى مستلزمات الحياة من ماء وغذاء وغيره.
كما تضمن المشروع إنشاء مركز لإقامة البحارة من غير القاطنين في الجزيرة حتى تتحول جالطة إلى مقصد لهؤلاء البحارة لاسترداد الأنفاس في عرض البحر ويساهم ترددهم على الأرخبيل في خلق حركة اقتصادية ومواطن شغل جديدة للمقيمين أو للقادمين من خارجها. وأخير يتضمن المشروع ورشة لإصلاح القوارب نظرا لأهميتها في النقل البحري ولفك عزلة جزر الأرخبيل الذي تم التخطيط لتطويره وإدخاله في الحركة الاقتصادية.
لكن هذا المشروع يبدو أنه تعطل بسبب الظروف الاستثنائية التي عاشتها البلاد بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011 كما عديد المشاريع الأخرى مثل مشروع إعمار واستغلال جزيرة زمبرة الواقعة قبالة سواحل الوطن القبلي وذلك من قبل مستثمرين يابانيين. وهي مشاريع لو كتب لها أن ترى النور لغيرت الكثير في الخريطة السياحية للبلاد من خلال مساهمتها في مزيد تنويع المنتوج السياحي الذي يتضمن سياحة البحر والشواطئ والعلاج والتداوي والمخيمات في الجبال والغابات والسياحة الصحراوية والثقافية والأثرية والتاريخية وسياحة التسوق والمؤتمرات والسياحة البيئية التي كانت ستتدعم من خلال الاستثمار في الجزر.