أحمد كنجو، وهو لاجئ سوري ابن 17 سنة، وقف أمام مجموعة تتكون من 12 تركياً وتجادل معهم بحماسة. “اضطررت إلى ترك المدرسة بسبب العنصرية”، موجهاً لهم انتقاده. “لسنا عنصريين، وتركيا ليست عنصرية”، أجابته امرأة بالغة. “الدولة مليئة بالسيئين. ابني ذهب للقتال في سوريا. لماذا؟ لتعيشوا هنا بهدوء وتتحرشوا بالنساء؟”، لوحت بيدها نحو كنجو الذي لم يخف. “نبيع كل ممتلكاتنا للأثرياء الأجانب، نطعمهم ونملأ بطونهم الفارغة، وبعد ذلك يأتون لإزعاجنا”.
باللغة التركية الطليقة وبأدب كبير، رد كنجو: “تقولين بأنكم بعتم ممتلكاتكم للأجانب، الأمر الذي يعني أنكم لم تبيعوا للسوريين”. ولكنها صححت: “أقصد أجانب بشكل عام”. لم يتشوش كنجو وقال: “إذاً، لا تقولي بأنكم بعتم للسوريين. إنكم ترمون كل شيء على السوريين”. شخص تركي ابن 60، يرتدي قبعة، انضم إلى النقاش، وبلهجة قاطعة ذكر كنجو بالتاريخ: “آباؤكم تآمروا مع الفرنسيين والبريطانيين وطعنونا في الظهر، ويستمرون في ذلك”، قال. رد كنجو: “تقولون بأننا نعيش على حسابكم. أنا إنسان، أعمل وأتعلم وأدفع رسوم الدراسة من جيبي. تقولون بأننا متسولون، هل تعرفون أنهم طردوا والدي من العمل لكونه سورياً؟ تركت المدرسة رغم أنني كنت الأول على صفي، وتحققوا بالعودة إلى سجلات المدرسة”. رويداً رويداً، ازداد عدد المشاهدين، شباب وبالغون، بعضهم وجه إليه الشتائم، وآخرون بدأوا في النقاش فيما بينهم إلى أن بدأ كنجو يشعر بأنه مهدد وغادر المكان.
هذا اللقاء في الأسبوع الماضي ظهر كأحد المواجهات المنتشرة في المدن التركية. ولكن النتيجة كانت مختلفة هذه المرة. فالنقاش الصاخب الذي تم توثيقه ونشره في الشبكة لم يكن سوى عرض ترويجي لما حدث بعد ذلك. أقوال كنجو المؤثرة “أنا إنسان”، تغلغلت إلى قلوب آلاف الأتراك الذين سارعوا للرد في تويتر. كتب في تغريدة: “كيف يمكن لفتى عمره 17 سنة القول أنا إنسان في دولة معروفة بالترحيب بالأجانب؟”.
رجل الأعمال صابر توكتاش، تعهد بتغطية رسوم التعليم لكنجو حتى انتهاء دراسته. وعبر آخرون عن دعم الطالب السوري ونددوا بالعنصرية، حتى لو كان البعض منهم أوضحوا بأن الأمر يتعلق ببساطة بغضب الذين يعانون من صعوبات مالية بسبب الأزمة الشديدة التي تمر بها تركيا. “لا ذنب للاجئين، بل الحكومة هي المذنبة”، كتب في تغريدة أخرى. كاتب التغريدة حذر من أن يلقي بالذنب على الرئيس اردوغان خوفاً من استدعائه للتحقيق بتهمة المس بالرئيس وإهانته، مثلما حصل مع مئات المواطنين الأتراك.
ليلى محمد (70 سنة)، تلقت ضربة على وجهها في مدينة جزيانتيف لكونها سورية. وتم توثيق ذلك، وحظيت بردود كثيرة داعمة. الفيلم الذي ظهرت فيه وهي تحمي وجهها من المعتدي، أدى إلى نشر صور وأفلام ظهر فيها من تم تصويرهم وهم يحمون وجوههم كبادرة للتضامن معها. هي وكنجو بقيا على قيد الحياة، لكن أحداثاً أخرى انتهت بموت اللاجئين جراء الاعتداء عليهم.
في حالات عنيفة بشكل أقل تمت مهاجمة محلات لسوريين، وتدمير ممتلكاتهم أو إحراقها. اللاجئون في تركيا يقولون إنهم يخافون الخروج من البيوت أو التحدث باللغة العربية فيما بينهم، لأن التحدث بها يؤدي إلى ردود شديدة: الشتائم وحتى الضرب. يجد المصابون صعوبة في إبلاغ الشرطة. كثيرون ووجهوا بردود معادية من قبل رجال الشرطة، أو لم يتمكنوا من رواية قصتهم لأنهم لا يتقنون اللغة التركية.
أنشأت الحكومة موقعاً خاصاً لتقديم الشكاوى ضد الموظفين العامين بسبب مظاهر عنصرية من كل الأنواع. مظاهر العنصرية، والتحرش الجنسي، والاستهزاء من الإعاقة أو حتى على خلفية الأصل ولون الجلد، هي أمور ممنوعة في تركيا. ولكن من يتوجهون إلى الموقع مطلوب منهم ملء استمارة مفصلة باللغة التركية. وكثيرون يتجنبون ذلك ولا يكشفون عن شخصيتهم بصورة كاملة، سواء لأنهم لا يقرأون اللغة التركية أو خوفاً من الانتقام.
تسعى الحكومة التركية إلى استئصال خطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين. على سبيل المثال، التقى وزير الداخلية سليمان سويلو، في مكتبه، 21 طالباً سورياً متميزاً، وأغدق عليهم الثناء بسبب نجاحهم الأكاديمي، وحتى أنه أطلق عليهم “أخوة المواطنين الأتراك”.
لكن بادرات حسن نية كهذه تتضاءل إزاء شعارات مثل الشعار الذي أطلقه عضو البرلمان، اوميت اوزدا، الذي دعا إلى نشر الغام على طول الحدود مع سوريا لمنع دخول اللاجئين؛ وتصريح رئيس حزب المعارضة الكبير “سي.اتش.بي”، كمال كليتشدارولو، الذي دعا فيه إلى طرد مليون لاجئ إلى سوريا.
تخفيف الحركة وتقييدها
قدمت وزارة الداخلية دعوى ضد اوزدا وكليتشدارولو، التي خففت ولو قليلاً النغمة ضد اللاجئين، لكن خطاب الكراهية لم يخفت، بل وجد التشجيع من نية اردوغان نفسه، وهي إعادة نحو مليون لاجئ إلى سوريا، وأيضاً من الأنظمة الجديدة التي استهدفت تقييد حركتهم. هذه الأنظمة قلصت حصة اللاجئين في كل محافظات تركيا من 25 في المئة من إجمالي عدد السكان إلى 20 في المئة. إلى جانب ذلك، تقرر أنه يجب على سائقي السيارات والحافلات فحص تصاريح الركاب الذين يحملون جنسية أجنبية، وحظر على اللاجئين الانتقال من محافظة إلى أخرى في الدولة.
هذه القيود تحاول تخفيف تركيز اللاجئين في المدن الكبيرة مثل إسطنبول، لتخفيف حجم الغضب والمعارضة المحلية على مكوثهم. هذه هي نفس المدن ونفس المحافظات التي يستطيع فيها اللاجئون إيجاد عمل أو الدراسة. إبعادهم يعني فقدان مصدر الرزق أو قطع التعليم. تعتبر تركيا من أعلى الدول استيعاباً للاجئين، أربعة ملايين لاجئ سوري وحوالي مليون هارب من العراق وأفغانستان وإيران وفلسطين.
حتى أن الحكومة التركية نجحت في إقامة بنية تحتية جيدة من الخدمات العامة للاجئين، ودمج عدد كبير من الطلاب في المدارس داخل مخيمات اللاجئين وفي المدن أيضاً. وهي تمول من أجلهم حصص غذاء ومساعدة طبية. وقد أصدرت تصاريح عمل لمئات اللاجئين. أكثر من 200 ألف لاجئ سوري حصلوا على المواطنة التركية. منذ بداية الحرب في سوريا في 2011 كان استيعاب اللاجئين ومساعدتهم هو الراية التي رفعها اردوغان بصورة استفزازية تجاه بشار الأسد ونظامه.
لكن الرئيس التركي عرف كيف يستغل بادرة حسن النية الإنسانية كوسيلة ضغط على الاتحاد الأوروبي. ففي العام 2016 وقعت أنقرة على اتفاق مع بروكسل بحسبه ستمنع تركيا موجات اللاجئين الهاربين من سوريا من إغراق دول الاتحاد مقابل 6 مليارات يورو، والإعفاء من تأشيرات الدخول لمواطنيها. كلما اندلع نزاع سياسي بين اردوغان والاتحاد، عاد وهدد ولوح بالاتفاق. قضية التأشيرات لم تحل بعد، وحتى أن تركيا تدعي بأنها لم تحصل على كل المبلغ الذي وعدت به. رغم ذلك، تواصل أنقرة وفاءها بالاتفاق.
لكن الحديث يدور عن سيف ذي حدين؛ فبعد سنتين على توقيع الاتفاق بدأت الأزمة الاقتصادية الشديدة في تركيا، التي بلغت الذروة في هذه السنة عند وصول التضخم إلى 70 في المئة تقريباً، ونسبة بطالة عميقة، وهبوط شديد في سعر الليرة التركية. اللاجئون السوريون الذين منحوا اردوغان أداة ضغط على أوروبا تحولوا إلى عبء وتهديد سياسي داخلي. حتى هذه السنة تحدث الرئيس عن نية إقامة منطقة أمنية في عمق الأراضي السورية على طول الحدود من أجل “تطهير أوكار الإرهاب الكردية التي تمس بأمن تركيا”، لكن مؤخراً أكد الحاجة إلى إعادة اللاجئين إلى بلادهم.
سياسة خارجية مزدوجة
إلى جانب مخططات الغزو، التي ووجهت بمعارضة شديدة من قبل الولايات المتحدة وإيران وروسيا والدول الأوروبية، فإن تركيا تبني البيوت لاستيعاب اللاجئين في الأراضي السورية. أمس، تم التوقيع على اتفاق بين تركيا وقطر لبناء ألف وحدة سكنية بحيث تستطيع أن تؤوي نحو خمسة آلاف شخص. يبدو أن “تخفيف” عدد اللاجئين آخذ في الاستقرار على رأس سلم أولويات اردوغان كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية المخطط لها في السنة القادمة. طرده للاجئين قد يعطيه مكسباً سياسياً وطنياً، ويساعد أيضاً، ولو جزئياً، على تخفيف العبء الاقتصادي الذي يفرضه دعم اللاجئين على خزينة الدولة.
يدير اردوغان سياسة خارجية مزدوجة. فمن جهة، يسعى إلى ترميم العلاقات مع الدول العربية، وحتى أنه نجح في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات والسعودية. بعد ذلك، يتوقع أن يقوم، في تشرين الأول، بتعيين سفير في إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يدير شبكة علاقات متوترة مع الولايات المتحدة وأوروبا، ويعرض نفسه أنه الزعيم الوحيد الذي يمكنه التوسط بين روسيا والغرب. اتفاق القمح الذي نجح في توقيعه مؤخراً مع الأمم المتحدة لم يطبق في الواقع، لكن تم إقامة غرفة عمليات مشتركة، وإذا لم تحدث مفاجآت لأسبوع، فسيتم استئناف تصدير القمح من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وإفريقيا عبر البحر الأسود.
في الأسبوع القادم، يتوقع أن يلتقي اردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة الاستجمام سوتشي. وسيحاول هناك رسم خطة عمل سياسية مشتركة للحرب في أوكرانيا. إذا نجح في ذلك، فسيكون هذا إنجازاً مهماً على المستوى الدولي. ولكن، مثلما يعرف كثير من زعماء العالم، فإن النجاح والإنجازات في السياسة الخارجية تترجم أحياناً إلى نجاح في الساحة السياسية الداخلية.
المواطنون في تركيا يجدون صعوبة في إنهاء الشهر، ولا يتمتعون بأمان التشغيل، فيما قوة الشراء تقلصت بعشرات النسب المئوية. هؤلاء هم الذين سيقررون بعد سنة حجم القوة السياسية التي سيمتلكها اردوغان إذا تم انتخابه. ولن يتأثروا من نجاحه كـ “زعيم من مستوى آخر” في خارج تركيا إذا لم يوقف التدهور الاقتصادي في تركيا.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 29/7/2022