تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول وضع حقوق الإنسان في تركيا والذي نشر هذا الأسبوع، لم يأت بكثير من الأمور الجديدة. في 93 صفحة تكررت التقارير التي تثير القشعريرة عن عشرات آلاف السجناء السياسيين والتنكيل بالصحافيين وتعذيب وقمع متواصلين لحرية التعبير. يستعرض التقرير أيضاً مخالفات للقانون ولي عنق مفهوم الديمقراطية حسب التفسير التركي، واستخدام العنف ضد أقليات مثل المثليين والمتحولين جنسياً والنساء. مضمون التقرير معروف لكل من يتابع التقارير المتواصلة في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية في تركيا، وتركيزها في مجلد واحد هو الذي يصنع الفرق، لكن لفترة قصيرة.
لم ترد تركيا حتى الآن رسمياً على هذه الاتهامات. ويتوقع كالعادة أن تدعي بأن التقرير يستهدف ضعضعة شرعية النظام وتشويه سمعة تركيا ورئيسها رجب طيب اردوغان، وأن التقرير مشجع للإرهاب. هكذا ردت تركيا أيضاً على تقارير واتهامات مشابهة عرضها عليها الاتحاد الأوروبي، وهكذا قد ترد على واشنطن. ولكن عندما سئل المتحدث بلسان وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، من قبل مراسلين: كيف ترى الإدارة الأمريكية قرار تركيا عدم الانضمام للعقوبات ضد روسيا؟ أجاب “الأتراك لعبوا دوراً دبلوماسياً مهماً جداً في السعي لرؤية هل يمكن أن نجد أي تقدم دبلوماسي (من أجل حل الأزمة – الكاتب)”.
التمييز بين غضب أمريكا بسبب سلوك أنقرة في موضوع حقوق الإنسان والمس بالديمقراطية، وبين دول تركيا كوسيطة بين روسيا وأوكرانيا ومكانتها السياسية في المنطقة، يحطم رواية سمو حقوق الإنسان التي يسوقها الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو تميز لا تقتصر نظرته تجاه تركيا فقط. بايدن الذي لم يجر محادثة مباشرة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حتى الآن، أرسل إليه مبعوثين رفيعي المستوى لإقناعه بزيادة إنتاج النفط لخفض سعره ومساعدة أوروبا بذلك. للحظة، تم إهمال الحقيقة التي توضح أن السعودية تقف على رأس قائمة الدول التي تخرق حقوق الإنسان، ففي الشهر الماضي وحده، أعدمت 81 شخصاً، وهو العدد الأعلى الذي تم دفعة واحدة.
تركيا لا تنفذ الإعدام منذ 1984، وفي العام 2004 ألغت قانون الإعدام. ولكن منذ العام 2016، وهي السنة التي كانت فيها محاولة الانقلاب العسكري ضد النظام، استثمرت حوالي 1.5 مليار دولار في بناء سجون جديدة. عدد هذه السجون يبلغ الآن 384 سجناً، وفيها 315 ألف سجين. بهذا، تحولت إلى الدولة الثانية من حيث حجمها في أوروبا، بعد روسيا، بعدد السجناء فيها.
من غير اللطيف الحديث عن هذه المظالم في الوقت الذي تقترب فيه تركيا من استئناف علاقاتها مع إسرائيل، ففي نهاية المطاف ليس كل ما هو مسموح للرئيس بايدن يكون مسموحاً للرئيس إسحق هرتسوغ. في زيارته التاريخية والمهمة إلى تركيا في آذار، لم تسمع أي كلمة عن وضع حقوق الإنسان في تركيا. في نهاية المطاف، من يعيش في بيت زجاجي لا يلقي الحجارة على الناس. هرتسوغ الذي استقبل بحفاوة غير عادية، بما في ذلك إطلاق 21 قذيفة مدفعية، حصل على هدية فاخرة من الجالية اليهودية في تركيا عندما زار كنيس “نفيه شالوم” في إسطنبول، نسخة من أمر السلطان عبد العزيز لرئيس جهاز القضاء لديه، الذي يأمر فيه بحماية اليهود من الفرية. وتعد حماية اليهود منذ استيعاب المطرودين من إسبانيا وحتى منح ملجأ للمضطهدين والهاربين من الحكم النازي، أساساً ثابتاً في الخطاب التركي الذي تستخدمه لنفي الادعاء القائل بأن معارضتها وانتقادها الصارخ لسياسة حكومات إسرائيل ليست معاداة للسامية.
هذا الخطاب هو الركيزة الرئيسية في مقال مراد مرجان، الذي نشر في “توركيسكوب”، الذي يصدره معهد ديان. مرجان ليس محللاً أو باحثاً رغم أن لديه شهادة دكتوراه في هندسة العلوم من جامعة ميامي. مرجان سفير تركيا في واشنطن، وهو المنصب الذي عُين فيه بشكل مفاجئ قبل سنة كتعيين سياسي للمرة الأولى لسفير تركي في الولايات المتحدة. معظم المقال يكرسه لتاريخ العلاقة بين اليهود والإمبراطورية العثمانية، وبعد ذلك بينهم وبين حكومات تركيا. “لم تطرح “المسألة اليهودية” في أي فترة من التاريخ التركي. اللاسامية أو التعصب الديني ضد اليهود لم تضرب جذورها في تركيا”. وذكر أيضاً بأن تركيا اعترفت بإسرائيل في 1949. مرجان هو من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وعمل طوال سنوات في الحقل الدبلوماسي وفي تقديم الاستشارة السياسية لاردوغان. في 2003 عندما عُين اردوغان رئيساً للحكومة، تملك إسرائيل خوف من تغيير دفة السياسة التركية، حينئذ سارع مرجان إلى التهدئة. في مقابلة مع “هآرتس”، أوضح في حينه وقال: “لا ننوي الانحراف عن سياسة تركيا الخارجية التقليدية تجاه إسرائيل حتى ولا شبر واحد. كنا دائماً أصدقاء، وتركيا دافعت دائما عن اليهود، حتى في الفترة التي طردوا فيها من إسبانيا. خريطة الطريق مقبولة علينا مثلما هي عليكم (خريطة الطرق لحل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين)، وعلاقتنا مع دول عربية مثل سوريا أو مع الفلسطينيين لا يجب أن تقلقكم. فهي لن تكون في أي حال من الأحوال على حسابكم. أي أننا لسنا نحن الذين اخترنا جيراننا. هل ستواصل تركيا حزب العدالة والتنمية علاقاتها الجيدة مع إسرائيل؟ هل تشك في ذلك؟”.
بعد مرور خمس سنوات على ذلك، عندما زار إسرائيل، كلف نفسه عناء الذهاب إلى “سدروت” كي يرى عن قرب أضرار إطلاق حماس على بلدات الغلاف، وقال في مقابلة مع “هآرتس”: “زرت سدروت وشاهدت الهجمات على مواطنيها، لكني أعرف جيداً أيضاً مأساة غزة وحزنها. أوصي حماس بالكف عن مهاجمة المدنيين، وأقترح على إسرائيل رفع العقوبات عن غزة”.
بعد عشر سنوات على ذلك، عندما تفجرت قضية الأسطول القادم من تركيا، خيم شك على الأجواء. هل يمكن أن تواصل تركيا وإسرائيل يمكنهما تحالفهما، أو على الأقل صداقتهما؛ حيث لا يوجد لحماس، مثلما تقول إسرائيل، صديق مقرب أكثر من تركيا. وقد شارك في هذا الرأي أيضاً السعودية والامارات التي سفيرها في واشنطن، يوسف العتيبة، اعتبرها قبل بضع سنوات “التهديد الأكبر على الشرق الأوسط، حتى أكثر من إيران”. ومنذ ذلك الحين تحولت هذه الأمور إلى مياه تحت الجسر.
في تشرين الثاني، زار حاكم الإمارات محمد بن زايد، تركيا. نفس تركيا التي هددت بقطع العلاقات مع أبو ظبي بسبب توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل، وتعهد باستثمار 10 مليار دولار فيها. في شباط، هبط اردوغان في أبو ظبي ووقع على 13 اتفاق تعاون. وبين تركيا ومصر، التي هي العدوة اللدودة الأخرى، ثمة مفاوضات تتقدم لاستئناف العلاقات الدبلوماسية التي قطعت في 2013، وحسب تقارير، هناك مرشح لمنصب سفير تركيا في القاهرة. في هذا الشهر، يتوقع أن يستضاف اردوغان للمرة الأولى منذ القطيعة على مأدبة محمد بن سلمان لوجبة إفطار. وفي الشهر القادم، سيصل إلى إسرائيل مبعوثون من كبار رجال النظام في تركيا للاتفاق على تعيين سفراء وتحسين العلاقات، وهما وزير الخارجية مولود جاوش أوغلو ووزير الدفاع خلوصي أكار.
إذا سار كل شيء على ما يرام، فيتوقع بعد بضعة أسابيع أن يعزف النشيد الوطني التركي في القدس على شرف زيارة اردوغان.
إذا كانت زيارة جاوش أوغلو مفهومة ضمناً ومرغوبة عندما تتم مناقشة استئناف العلاقات الدبلوماسية، فإن انضمام وزير الدفاع أكار أمر استثنائي ويثير الاهتمام الكبير. تفسيره هو أن تركيا لا تطمح فقط إلى استئناف التعاون العسكري في المجال التكتيكي وفي المشتريات العسكرية المتبادلة، بل تطمح أيضاً إلى تنسيق استراتيجي، إقليمي ودولي. “الواقع في الشرق الأوسط وخارجه يلزم دول المنطقة بالتعاون وبناء كتلة مهمة ذات تأثير وقوة”، قال للصحيفة مصدر رفيع في وزارة الخارجية التركية. “شراكة تركية إسرائيلية وعربية، هي عملية حيوية للوقوف أمام هذه التحديات”.
هذه الأمور تجد تعبيرها المباشر أيضاً في مقال مرجان الذي كتب فيه: “تفاعل إسرائيلي – تركي يعرض أكثر من شراكة تقليدية أمام لاعبين وتوجهات تدميرية… الشراكة التقليدية لها تاريخ لانتهاء الصلاحية. تركيا وإسرائيل في المقابل، تتقاسمان جواراً مشتركاً وتراثاً، ومستقبلاً مشتركاً أيضاً… إضافة إلى ذلك، يجب عدم تجاهل المكاسب الممكنة التي يمكن لشراكة إسرائيلية – تركية أن تنتجها خارج الشرق الأوسط، مثلاً في القوقاز ووسط آسيا وإفريقيا”. هذه الشراكة سبق التعبير عنها في المساعدة التي قدمتها إسرائيل وتركيا لأذربيجان في الحرب على ناغورنو قره باغ، وفي التعاون الاستخباري الذي لم يتوقف أيضاً في فترة الأزمة.
وزير الخارجية التركي الذي يتولى هذا المنصب منذ 2015 رجل استراتيجية الانعطافة السياسية التي يقوم بها اردوغان في علاقاته مع دول المنطقة. وصديقه أكار الذي كان قائد القوات البرية ورئيس الأركان قبل تعيينه في المنصب الحالي في 2018، هو مهندس زيادة قوة تركيا العسكرية ونظرية أمنها التي مطلوب منها الآن أن تواجه حرباً في سوريا، والتداعيات العسكرية والاقتصادية للحرب في أوكرانيا، وعلى رأسها نوايا دول أوروبا للتحرر من الاعتماد على النفط والغاز الروسيين.
لقد تشوشت الآن حسابات تركيا التي تقول بأنها ستتحول إلى مركز لتزويد موارد الطاقة من روسيا إلى دول أوروبا، وهي بحاجة إلى مزودين جدد كي يضخوا النفط والغاز في الأنبوب التركي، ويحافظوا بذلك على مكانتها كمركز إقليمي مهم، التي يتوقع أن تعطيها مكاسب عظيمة. مصر وإسرائيل يمكن أن تكونا شريكتين استراتيجيتين، وكذا السعودية ودول الخليج. وأمام هذه هي الاعتبارات، لا مكان لنقاشات معمقة حول حقوق الإنسان، وسيكون على الإخوان المسلمين وحماس أن يبحثوا لأنفسهم عن ملاذ بديل.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 15/4/2022