أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من على شرفة مقرّ حزبه وأمام محازبيه، بعد خسارة له في الانتخابات المحلية بعد 22 عاما من المعارك الانتخابية التي كان يحقّق فيها النصر، أن «31 مارس 2024 ليست نهاية بالنسبة لنا، بل هي في الواقع نقطة تحوّل، بالطبع سنتحقّق من أسباب هذا التراجع على المستوى المحلي، سنحدّد جيدا أسباب كل مكان خسرنا فيه، أو انخفضنا فيه، وسنعالج الأمر بالشكل اللازم».
لم يتوقع أحد أن تحصل المعارضة على هذا القدر من الأصوات في الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرا، ولم يتوقع تحالف الحزب الحاكم فقدان هذا العدد من الأصوات. طوى أردوغان صفحة نتائج الانتخابات هذه، ولكنه فتح بالمقابل صفحة جديدة من سياسة بلاده الخارجية، حيث شكّلت خياراته الجديدة المفاجأة لحلفائه قبل خصومه.
تطور لافت، أو ما يعرف بالمفهوم الدبلوماسي «تحوّل» مفاجئ للسياسة التركية تجاه النظام في سوريا، إذ لطالما أطلق أردوغان على الرئيس السوري بشار الأسد صفة «الجزار» بحقّ شعبه، لاسيما مع بداية الثورة السورية عام 2011. إذ بعد 13 سنة من الحرب الداخلية في سوريا، انفجر الوضع في شمالها وجنوب تركيا، بين الجيش التركي والميليشيات التي تعمل بدعم ورعاية منه، والتي طالما تسبّبت حمايتها ورعايتها بالأزمات مع روسيا وإيران، واستمرار تعقيد العلاقة مع سوريا، من خلال مواصلة الرفض التركي لشرط الالتزام بالانسحاب من سوريا.
لا يريد أردوغان أن يُبقي بلاده خارج مجريات المسار التاريخي، بل يعمل على ركوب موجة التغيير، عبر تكريس حضور فعّال لتركيا في النظام العالمي المزمع إنشاؤه من قبل روسيا والصين
تبدّلت الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، خصوصا بعد السابع من أكتوبر مع دخول إسرائيل في حرب كبرى مع إيران بطريقة غير مباشرة عبر حلفائها من حركة حماس وصولا إلى الحوثيين في اليمن. لقد شهدت سياسة تركيا الخارجية حراكا مفاجئا مع النكسة التي مُني بها الرئيس أردوغان في الانتخابات الداخلية المحلية التي جرت في مارس 2024. فإن يعلن أردوغان خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الكازاخستانية أستانا الأربعاء 3 يوليو الجاري، أن بلاده مستعدة للتعاون بحلّ الأزمة في سوريا، ولاسيما في مكافحة الإرهاب، حسب بيان للرئاسة التركية، هنا تكمن المعضلة، إذ هل تغيّر مفهوم الإرهاب لديه أم تغيّر الإرهابيون؟
ووفق البيان الذي صدر عن اجتماع بوتين وأردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في أستانا الخميس 4 تموز الجاري، فإن الأخير أكّد أن تركيا «مصممة على منع إنشاء منظمات إرهابية بالقرب من حدودها، وإنها مستعدة للتعاون لإيجاد حلّ للأزمة في سوريا، نظرا لأهمية اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء عدم الاستقرار هناك، «ما يخلق أرضا خصبة للأنشطة الإرهابية». رحّب الرئيس الروسي بالموقف التركي، وقد أتى ذلك على لسان المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، عندما أعرب عن دعم بلاده لكل المبادرات ذات الصلة بالعلاقة بين سوريا وتركيا، من كل الدول المهتمة بتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، خلال لقائه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في العاصمة الأردنية عمان. أتت الخطوة متلازمة مع الأحداث والتبدلات الدولية، وعلى ضوء المناظرة الفاشلة للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي بات توجّه إليه الكثير من الدعوات المطالبة بالتنحي من السباق الرئاسي. كان هذا مع التقدّم الملموس لإيران في المنطقة من خلال انتصار المشروع، الذي عملت عليه لبسط نفوذها، وترافق أيضا مع التقدّم للجيش الروسي على محاور القتال في أوكرانيا وسط عجزٍ غربيٍ من مدّ كييف بالأسلحة المناسبة، وفي ظلّ صمود الصين وعدم انجرارها وراء الاستفزازات الأمريكية في شبه جزيرة تايوان وعلى بحر الصين الجنوبي.
لا يريد أردوغان أن يُبقي بلاده خارج مجريات المسار التاريخي، بل يعمل على ركوب موجة التغيير، عبر تكريس حضور فعّال لتركيا في النظام العالمي المزمع إنشاؤه من قبل روسيا والصين، وما قمة شنغهاي الاقتصادية وتوسع الدول المشاركة فيها، إلا دليل على أن المنافسة جديّة مع المؤسسات الدولية، التي فرضها الغرب، وإنّ ثبات الدول في مشروع إبعاد الهيمنة الأمريكية لم يزل قائما ومستمرّا. الانفتاح على سوريا بات مطلبا داخليا وخارجيا لتركيا؛ داخليا لمنع توسّع دائرة الصدام بين الأتراك والنازحين السوريين، حيث شهدت مناطق واسعة في تركيا اعتداءات على مناطق وجود السوريين. فعلى ما يبدو حدّد أردوغان أسباب فشل حزبه من تحقيق الانتصار داخليا، فعبء النزوح وتوقف الاتحاد الأوروبي عن القيام بواجباته تجاه النازحين لمنع تدفقهم إلى القارة الأوروبية، بات ينعكس سلبا على حياة المواطن التركي، ما دفع بأردوغان هذه المرة ليس إلى فتح الحدود مع أوروبا، كما حصل في السابق، بل إلى فتح صفحة جديدة مع النظام في سوريا، علّه في ذلك يضع خطط عودتهم بطريقة آمنة. أسباب التراجع الانتخابي حدّده أردوغان خارجيا أيضا، إذ ذهب بعيدا في ملاقاة روسيا وإيران في سوريا، لهذا بدّل في مفهوم الإرهاب ومدّ يد المصافحة للنظام السوري، حتى لو تطلّب هذا الانسحاب من أراضي سوريا وعدم تحقيق المنطقة العازلة التي دخل لأجل إقامتها. قرأ أردوغان الانفتاح السعودي على إيران وسوريا، الذي ترجم في تصريحات حسام زكي مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي أعلن أن الجامعة أزالت صفة الإرهاب عن حزب الله اللبناني. لهذا وجد ضرورة السير في ركب التحول بعد استمرار إسرائيل في وحشيتها تجاه غزة، فتركيا لا تستطيع أن تقف متفرّجة على الانتهاكات الإنسانية بحقّ المسلمين، وهي التي تقدّم نفسها على أنها ضمانة لهم في العالم.
تعقيدات المشهد السياسي العالمي، تزامنت مع تراجع نفوذ الولايات المتحدة وهروب كثير من حلفائها والارتماء في أحضان روسيا والصين، هذا ما أكّده الصعود القوي لليمين المتطرّف، ونجاحه في الوصول إلى السلطة في الكثير من دول أوروبا، وهذا ما سيبعد حتما فكرة الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي. لهذا اعتبر أردوغان هذا التغيير بمثابة الضوء الأخضر للسير في تبديل سريع لسياسات بلاده الخارجية، فالقراءة اليوم ترى إن العالم يسير إلى تعددية قطبية إلا إذا أثبتت الولايات المتحدة عكس ذلك. بغضّ النظر عن لعبة المحاور التي يعمل أردوغان على لعبها، إلا أن الأكيد أن تصريحاته بشأن الانسحاب من سوريا ليست إلا تطمينات قد لا تجد لها ترجمة على أرض الميدان.
كاتب لبناني