ناس «تحت التحت» يتدحرجون نزولاً وعشرات من أمثال ماري انطوانيت
بيروت-»القدس العربي»: يتابع الباحثون في الشأن الاقتصادي اللبناني طرح أرقامهم عن المتغيرات السريعة لعامة الناس. أبحاثهم الحديثة العهد أفادت أن 55 في المئة من الشعب اللبناني بات تحت خط الفقر. رقم مهول بنظر المحللين والعاملين في الشأن الاجتماعي. والفيديوهات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، عن مواطنين يتعاركون في السوبرماركت للفوز بسلعة غذائية مدعومة من الدولة، تتحدث عن بعض الواقع. وكذلك اقفال عشرات المؤسسات وصرف عمّالها وفي قطاعات العمل كافة. وعندما يرتفع الدولار الأمريكي من 1500 ليرة إلى حدود 15 ألف ليرة بين أيلول/سبتمبر 2019 وشباط/فبراير-آذار/مارس 2021 بالتالي سترتفع أسعار الحاجيات بما يفوق مئة في المئة على بعض السلع في بلد مبدأ الاستيراد. ويتفرد عن باقي العالم باقتصاده المدولر.
بين وباء كورونا، والأزمة السياسية، والمعضلات الاقتصادية المتروكة دون حلول، ينام اللبناني ويستيقظ ولقمة العيش همٌ أول، يليه السؤال عن الآتي وهل سيكون أعظم؟
سارة قصقص: ناس «التحت التحت» يتدحرجون نزولاً
في نيسان/ابريل عام 2018 كانت بيروت تحتفي بعروض سينمائية عربية متنوعة في إطار المهرجان السينمائي بيروت دي سي، وفي ختامه أعلنت أسماء الأفلام الوثائقية والدرامية التي يعمل المهرجان لدعمها. لفتني عنوان فيلم «تحت التحت» الوثائقي الطويل وحديث مخرجته الشابة سارة قصقص عن شخصيات فيلمها الثلاث المختارين من بيئة الناس المنسيين في لبنان. هذا الفيلم بدأ عروضه في المهرجانات عام 2019 وسيُعرض أونلاين في مهرجان بيروت دي سي هذا العام بين 5 و11 نيسان/ابريل الجاري، وقبل أيام نال جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في الدورة الأولى لمهرجان القدس للسينما العربية.
بالمناسبة سألت سارة قصقص لماذا «تحت التحت» وكيف خطرت لها الفكرة؟ ببساطة أخبرتني أنها وصلت لذروة الضيق النفسي كمواطنة تعيش في بيروت مع بلوغ أزمة النفايات سنة2015 حدودها القصوى، مترافقة بانقطاع الكهرباء والماء صيفاً، فكان لا بدّ من التعبير سينمائياً. وقالت: طال البحث لحدود السنة ومن ثمّ وجدت في ثلاث من الشخصيات التي التقيتها قدرة التعبير عن أفكاري ومشاعري وبوضوح. شخصيات تستدرجنا كي نحبها، وهم لا يضمرون حزناً على حالهم. وكانت بيروت الشخصية الرابعة، وعنها قررت التعبير بالصورة والصوت. وتحت مظلة بيروت غير المرئية تجتمع عناوين الفساد السارية في المدينة، والتي تظهر آثارها السلبية على الناس الذين يقطنونها، بعيداً عن تصنيفات الجنسيات. تتشكل شخصيات الفيلم من لاجئ فلسطيني، وسيدة لبنانية، وطفل نازح من سوريا. شخصيات من أديان، وجنسيات وأعمار مختلفة لكنهم يعيشون الأعباء ذاتها نتيجة ممارسات السلطة الحاكمة. وحين بدأت التصوير كان الطفل السوري «علي» بعمر 12 سنة، وكانت «سامية» في أواخر الأربعينيات، و»حسام» من فلسطين تخطى منتصف الخمسينيات. سيارة التاكسي التي يعمل عليها حسام نهاراً كانت بيته ليلاً. وفي غرفة صغيرة كانت تعيش سامية مع والدتها وبعض أفراد الأسرة الذين قد يبلغون 6 أفراد ليلاً. وعلي كان يأوي إلى جانب حائط قريباً من المنارة القديمة لبيروت.
من صورتهم وحياتهم في «تحت التحت» قبل سنوات ماذا سيكون مصيرهم في الواقع الدرامي الحالي؟ تقول سارة قصقص: عندما أعود لمشاهدة الفيلم ينتابني الاضطراب. أحوالنا تزداد تدهوراً بدون التمكن من فهم ما يحصل. سنوياً تزداد المعاناة، وفي الوقت عينه يزداد فيلم «تحت التحت» قوة كعينة للتعبير عن الواقع. ومن دون شك هذا «التحت التحت» يتدحرج نزولاً مع الواقع الحالي وبدون كوابح، ومعهم تزداد أهمية الفيلم كأدة تعبير عن الناس المنسيين.
ميلاد حدشيتي: المطلوب التحلّي بالمرونة النفسية
في 2/5/2020 نُشر في العدد الأسبوعي من «القدس العربي» حوار مع ميلاد حدشيتي حفزته دعوة للقاءات عامة ومفتوحة مع الأسر اللبنانية للحديث عن التضامن والتكافل الأسري. استغربنا أنه بكّر في مبادرته فيما نحن ما زلنا بخير رغم حجز المصارف لأموال المودعين. فماذا يقول ميلاد حدشيتي الأيام الضبابية الحالية؟
ميلاد حدشيتي اختصاصي في علم النفس الإيجابي التطبيقي واستاذ جامعي بعلم التواصل، يقول: ما حاولنا تقديمه للناس قبل سنة أصبح الآن بغاية الأهمية. نعم نحن نحتاج للتضامن والتكافل لأننا كشعب نعيش أزمات متتالية. وقبل سنة من الآن تحدثنا عن كيفية بناء المرونة النفسية لمواجهة الصعوبات، والآن وفي خضم الأزمة نعمل للحفاظ على مرونتنا كي لا نغرق. كل منا يعمل ليساعد نفسه ليخرج من هذه الأزمة بنتائج بنّاءة.
○ الأزمة في تصاعد وامكانات الصمود المادي تتضاءل. من أين يستمد المواطن المرونة والصمود؟ فهو يسأل وماذا بعد؟
• بداية يفترض أن نعرف محددات الأزمة وأين يمكن إحداث التغيير. صحيح أن اسئلة وجودية بدأت تفرض نفسها كمثل وماذا بعد؟ الغالبية العظمى لا ترى ضوءا ولا أملاً نتيجة التصاعد المكثّف للأزمة المتشعّبة من كورونا إلى السياسة إلى الاقتصاد. إنها ضغوط كبيرة. وليس من السهل القول أبيض أو أسود خلال هذه الأزمة، بل نسأل عن القدرات المتوافرة والمساعِدة للتعامل مع اليوميات المعيشية. عندها تتأمن امكانات الصمود لوقت أطول، بدل الغرق في الأفكار الكبيرة والمزعجة والمحقة في آن. وفي مثل هذه الظروف ليس لنا إدانة مشاعر القلق والخوف من المستقبل، بل نعطيها حقها. فمن حق المواطن أن يكون تعباً وموجوعاً. وتالياً ندرك أن الحل ليس في علم النفس، فالأزمة الاقتصادية مرتبطة بالسياسة، وبالعوامل الخارجية. وعوامل الانهيار ليست متعلقة بالفرد بل بالنظام والحكم. ما يمكن قوله للأفراد هو التحكم قدر الممكن بما لديهم من قدرات، فهذا يساعد على الصمود لزمن أطول.
○ كمختص في علم النفس الإيجابي ماذا تقول لرب عائلة عاجز عن تأمين الغذاء وعاطل عن العمل؟
• البدء يكمن بالإقرار بصعوبة الظرف الذي نعيشه. ومن خلاله العمل لتوجيه الأنظار إلى أمور يمكنها مساعدتنا حتى وإن كانت محدودة، وهي خطوات صغيرة وفعّالة تخفف من حدة الأزمة. أولها البحث عن السند المعنوي والاجتماعي. وثانياً طرح السؤال عن امكانية التحكم بالمصروف عبر الاقتصاد. وثالثاً تحديد الأمور التي يمكن للعائلة تغييرها. ورابعاً كيف يمكن صرف التفكير الدائم عن الظرف الصعب الذي نمر به، بهدف إيجاد فسحة راحة وتنفس وعدم الغرق في التفكير السلبي. فهذه الفسحة تسمح بقدرة التفكير بمنطق في كيفية مواجهة الأزمات. إذاً الحل ليس نفسياً لأن عوامل الضغط ليست نفسية. وفي الحل البعيد، للمواطنين دورهم بتغيير ممثليهم في مجلس النواب في الانتخابات المقبلة. إذاً الأزمة تستدعي تغييراً صغيراً وسريعاً قصير الأمد، وآخر متمهل وطويل الأمد.
د.جلنار واكيم: السياسيون هو المسؤولين
الأستاذة الجامعية المختصة في علم الاجتماع الدكتورة جلنار واكيم تحدثت عن حال الفئات الهشة في المجتمع اللبناني في مواجهة أزمات مركبة صحية واقتصادية وسياسية وقالت: في الواقع الذي نمر به يمكن طرح السؤال إن كانت الأزمة هي التي أثّرت على الناس أم كشفت هشاشة الدولة والأخلاق؟ كُثر الذين يقرأون في تأثير الأزمة على الفقراء والطبقة الوسطى. فهؤلاء ليست لهم قدرة الصمود. وهم لا يملكون مقوماته من حماية صحية، واحتياط مالي، وأكثرهم فقد العمل ولا دعم ماليا لهم. في الواقع أزمتنا الاقتصادية بدأت مع إقفال الشركات الصغيرة والمتوسطة منذ 2017 وليس مع أزمة المصارف. وليس لنا تحديد من هم الأكثر فقراً بعد أن زادت أعدادهم. فثمة قطاعات اختارها البعض كمهنة كونها تحميه مدى الحياة، وبشكل خاص القطاع المصرفي وقطاع التعليم. وكذلك القطاع الطبي الذي شكل مصدر تغنّي بالسياحة الطبية في لبنان، وجميعها تعرض للانهيار بحدود معينة. ويضاف إليها السياحة الجامعية التي تراجعت نتيجة الوضع الأمني، وكذلك بسبب الفساد وتفريخ الجامعات.
○ عندما تتراكم الأزمات وخاصة المعيشية كيف يمكن للفئات الهشة أن تستمر؟
• للأسف الأزمة التي نعيشها ضربت الطبقة المتوسطة مما زاد أعداد الذين يعجزون عن الصمود بوجه الغلاء. بالتأكيد تضاعف فقر الفقراء. أما الطبقة المتوسطة التي كانت موزعة مهنياً بين وظائف الدولة وقطاعات المصارف والتعليم والصحة، فقد ضربتها الأزمة في الصميم. وهنا أصيبت المرأة بشكل خاص لأنها تعمل في القطاعات الآنفة الذكر بعدد أكبر من الرجال، وفي الغالب تشكل دعامة العائلة الاقتصادية إضافة للتأمين الصحي لأنها تأخذ الأسرة على عاتقها. ولقراءة ما ينتظرنا في المقبل من الأيام يمكننا النظر إلى تجارب دول أخرى عاشت الظروف نفسها. فاليونان عانت من فوضى كبيرة، لكن المجتمع تضامن بوجه الفساد الذي أدى للانهيار. في لبنان نحن أمام سيناريو أكثر فوضى، وبعض المشاهد التي تكررت في السوبرماركت للحصول على البضاعة المدعومة صورة مصغرة. ليس للفئات الهشة أي سبيل للمواجهة. والعنف مرشح للتزايد. والتطرف الديني مرشح للنمو خاصة في المناطق الفقيرة. المخيف في الحالة اللبنانية أن مزيداً من الضغط سيولّد دماء، للأسف. وقد تكررت المشاهد التي يقرر فيها محتاج طلب علبة حليب لطفله من الصيدلية بتهديد السلاح. مع العلم أن مشكلة الفقر والفقراء ليست ناتجة عن هذه الصيدلية أو تلك.
○ وماذا سيفعل الفقير ليجد حلاً لجوعه؟
• أن يتوجه إلى مصدر الأزمة وهم السياسيون. والإصرار على محاسبتهم وفتح كافة ملفاتهم.
○ وكيف سيكون الحال الاجتماعي بعد عدة أشهر؟
• ستزداد الفوضى. من سيتأثر بالدرجة الأولى هم الفقراء وأصحاب الدخل المحدود في المدن. سكّان الريف أكثر يسراً، يزرعون أراضيهم ويتدبرون بعض حاجاتهم. وكذلك يحيون من جديد اقتصاد المبادلة. ونحن نلمس منذ أشهر كم تضاعف عدد الباحثين عن مورد رزق في النفايات. لهذا على الناس التوجه إلى المتسببين بفقرهم. ففي فرنسا ماري انطوانيت واحدة، ولويس السادس عشر واحد، بينما في لبنان لدينا الآلاف منهما وهم لا يشعرون بما يعيشه الفقراء. والخطأ الكبير أن يتواجه الناس ضد بعضهم. وهذا ما يحدث للأسف.