باريس ـ «القدس العربي»: بعد أن أنزلهم الروس إلى مرتبة مراقب لما يحدث في قارتهم مفضلين الحوار المباشر مع الأمريكيين، يحاول الأوروبيون فرض أنفسهم كفاعل رئيسي في الملف الأوكراني، لا سيما بعد فشل الاجتماعات والمناقشات العديدة بين الروس والأمريكيين فيما يخص هذه الأزمة. في هذا الإطار، أتت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – الرئيس الدوري الحالي للاتحاد الأوروبي – بداية هذا الأسبوع إلى موسكو ثم كييف.
فرغم أن المسعى الذي أطلقه الرئيس الفرنسي لم يسفر عن قرارات واضحة بشأن خفض التوتر، إلا أن قصر الإليزيه أكد أنّ جولة إيمانويل ماكرون على موسكو وكييف وبرلين «حقّقت هدفها» وأن جهود هذا الأخير «فتحت آفاقا» بإتاحة «المضيّ قدماً» نحو خفض حدّة التوتر بين روسيا وأوكرانيا، مشدداً في الوقت نفسه على وجوب عدم انتظار «مكاسب فورية» منها.
ويبدو أن أولى ثمار زيارة ماكرون سرعان ما ظهرت مع حديث الروس والأوكرانيين عن «مؤشرات إيجابية» إذ قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا إن هناك «فرصاً حقيقية» لخفض حدّة التوتر على حدود بلاده مع روسيا، حيث حشدت موسكو أكثر من مئة ألف عسكري في خطوة يخشى الغرب أن تكون تحضيراً لغزو عسكري للجارة الموالية للغرب. من ناحيته، أكد المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف أنه «برزت مؤشرات إيجابية على أنّ الحلّ لأوكرانيا يمكن أن يستند فقط الى الالتزام باتفاقيات مينسك» الموقّعة في 2015 بين كييف والانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.
عودة أوروبا إلى اللعبة
وزير خارجية الاتّحاد الأوروبي جوزيب بوريل، قال إنّ زيارة ماكرون إلى روسيا واجتماعه ببوتين شكّلا «إشارة إيجابية» و«مبادرة جيدة» مضيفاً أنه «يعتقد أنّها تشكّل عنصر انفراج». وتعليقاً على زيارة ماكرون إلى موسكو وكييف، قالت صحيفة «لوموند» الفرنسية في افتتاحية لها نشرتها يوم الثلاثاء الماضي إن هذه الزيارة «تعيد أوروبا إلى لعبة استبعدها بوتين منها تلقائياً».
المستشار الألماني أولاف شولتس، من جانبه، وبعد الانتقادات التي وجّهت إليه في الأسابيع الأخيرة على أنه يساير بوتين وينأى بنفسه عن الأزمة، كثف هذا الأسبوع جهوده الدبلوماسية على خط الأزمة الأوكرانية. فبعد الزيارة التي قام بها إلى واشنطن بداية الأسبوع لطمأنه الأمريكيين بشأن موضوع خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» الذي أنجز بناؤه لكنه لم يحز التراخيص النهائية ولم يدخل الخدمة بعد، استقبل شولتس الزعيمين الفرنسي إيمانويل ماكرون والبولندي أندريه دودا في برلين. وشدّد الإليزيه على أنّ «التفاهم متين للغاية» بين ماكرون وشولتس.
وفي اليوم الموالي، التقى أولاف شولتس في برلين برئيسة الحكومة الدنماركية ميتي فريدريكسن، حيث أشاد بـ «التقدّم» الذي تم تحقيقه باتجاه خفض التصعيد في أزمة أوكرانيا. قبل استقباله يوم الخميس قادة دول البلطيق القلقين بشدّة من تصرفات روسيا المجاورة لبلدانهم. فالخطاب الفرنسي حول القلق «المشروع» لروسيا من جهة والروابط الوثيقة في مجال الطاقة بين ألمانيا وروسيا من جهة أخرى هي أمور تجعل دولا مثل بولندا ودول البلطيق مرتابة حيال دبلوماسية القوى الكبرى.
تحذير ألماني وخيبة أمل روسية
لطمأنة هذه الدول زاد المستشار الألماني من حدة النبرة تجاه فلاديمير بوتين، محذرا روسيا من أنه يجب ألا تستخف بـ «وحدة» و «تصميم» الأوروبيين، قائلا؟ «في هذا الوضع الحرج بالنسبة لنا جميعًا، لا ينبغي لروسيا أن تقلل من شأن وحدتنا وتصميمنا كشركاء داخل الاتحاد الأوروبي وحلفاء داخل الناتو». وأضاف أنه يأخذ مخاوف زعماء دول البلطيق الثلاث «بجدية بالغة» مشددا على أن القناة الدبلوماسية تظل الأولوية بالنسبة له من أجل «تهدئة» التوترات حول أوكرانيا.
وكانت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس آخر المسؤولين الغربيين الذين توجهوا إلى موسكو يوم الخميس، حيث صرحت عقب لقاء نظيرها الروسي سيرغي لافروف في موسكو قائلة: «أبلغني الوزير لافروف اليوم بأن روسيا لا تخطط لغزو أوكرانيا. لكن هذه الأقوال يجب أن تقترن بأفعال». لا فروف، من جانبه، وصف المحادثات بـ«المخيبة». جاء ذلك تزامناً مع بدء الجيش الروسي ونظيره البيلاروسي مناورات عسكرية مشتركة تستمر عشرة أيام في بيلاروسيا، في خطوة قالت باريس إنها تعد مؤشر «عنف» بينما وصفتها كييف بانها وسيلة «ضغط نفسي».
ومن المقرر أن يسافر المستشار الألماني إلى موسكو يوم الثلاثاء المقبل (15 شباط/فبرايرالجاري) للقاء فلاديمير بوتين بعد زيارة كييف يوم الإثنين. واستبق ذلك بالتحذير من مغبة أن «أي عدوان عسكري روسي جديد ضد أوكرانيا ستكون له عواقب سياسية واقتصادية واستراتيجية خطيرة للغاية بالنسبة لروسيا». ويأتي ذلك، بعد أن أعلنت روسيا وأوكرانيا عن الإخفاق في تحقيق أي انفراجة بعد المحادثات مساء الخميس في برلين مع مسؤولين من ألمانيا وفرنسا.
تحديات تعيق الجهود الأوروبية
في خضم ذلك، أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن مساء الجمعة اتصالا شارك فيه كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل وآخرين. وقد اتفق الزعماء على بذل جهود منسقة لردع العدوان الروسي على أوكرانيا، تشمل الاستعداد لفرض «تبعات ضخمة وتكاليف اقتصادية باهظة» على روسيا إذا اختارت التصعيد العسكري، وفق ما أفاد البيت الأبيض.
أتى هذا الاتصال وسط تحذير البيت الأبيض من مغبة غزو روسي وشيك لأوكرانيا في الأيام المقبلة، ودعوة واشنطن ولندن الأمريكيين والبريطانيين إلى مغادرة أوكرانيا، والتي حذا الاتحاد الأوروبي حذوها، حيث أوصى موظفيه غير الأساسيين بمغادرة أوكرانيا، رغم المساعي الدبلوماسية المكثفة من الأوروبيين هذا الأسبوع، لاسيما الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إلى موسكو. هذا الأخير، بدا مصمماً على مواصلة جهوده، حيث أجرى اتصالا هذا السبت بنظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي استقبله الاثنين الماضي في الكرملين لأكثر من خمس ساعات.
وعلاوة على ذلك، فإن العديد من المراقبين يرون أن هذا الحراك الدبلوماسي الأوروبي لنزع فتيل الأزمة الأوكرانية يواجه عدة تحديات في معالجة الأزمة، لعل أبرزها عدم قدرة حلف شمال الأطلسي للاستجابة للمطالب الروسية القاضية بالتعهد بعدم ضم أوكرانيا إلى صفوفه عبر عملية التوسع شرقا. وفي هذا الصدد، يُشير المحلل السياسي مصطفى الطوسة إلى أنه «في كل اللقاءات الدبلوماسية التي جمعت الرئيس بوتين بنظرائه الأوروبيين والأمريكيين كان موضوع توسيع الحلف الأطلسي من العقبات الأساسية التي تعرقل التفاهم وتفتح الباب على مصراعيه على مختلف أنواع المواجهات.
ومنذ سنوات يصر فلاديمير بوتين على التأكيد على أن ضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي وحصولها على عضوية كاملة فيه يعتبر بمثابة خط أحمر وإعلان حرب. أولا، لأن قوات الحلف الأطلسي ستنتشر بكثافة على حدودها الغربية. وثانيا، لأنه إذا تم تفعيل البند الخامس الذي يوصي بالدفاع المشترك فإن الحلف الأطلسي سيرغم على الدخول في حرب مفتوحة مع روسيا لاستعادة جزيرة القرم التي احتلتها القوات الروسية عام ألفين وأربعة عشر» يضيف مصطفى الطوسة.
وتجد قيادة الحلف الأطلسي السياسة سواء تلك الموجودة في أوروبا أو أمريكا، تجد صعوبة في إدارة هذه الأزمة. فلا هي قادرة على ضم أوكرانيا إلى صفوفها ولا هي قادرة على تقديم وعد صلب لموسكو بعدم القيام بذلك. وهذه الوضعية هي التي تساهم في خلق هذا التشنج الإقليمي الذي نشرت روسيا بموجبه عشرات آلاف الجنود على حدودها مع أوكرانيا وتدفع بالحلف الأطلسي إلى التصعيد العسكري معها.