أُبعد جمال ولد عباس من على رأس قيادة جبهة التحرير منتصف الشهر الماضي، بدون أن يعرف لا المواطن ولا “المناضل” ولا هو ربما، لماذا فرضت عليه الاستقالة بهذا الشكل المفاجئ، دخل الرجل بيته وسكت، ولم يقم حتى بتنظيم جلسة لتسليم المهام مع القيادة الجديدة، كأجراء شكلي، السيناريو نفسه كان حاضرا مع من سبقه على رأس هذا الجهاز السياسي المضطرب، فقد طٌلب من عمار سعيدان أن يعلن عن استقالته ويغادر المنصة التي كان يسيّر من فوقها أشغال اللجنة المركزية المجتمعة، بدون الإدلاء بأي تصريح للصحافة، وهو ما فعله الرجل، الذي سكت عن الكلام المباح، منذ مغادرته منصبه في أكتوبر/تشرين الأول 2016، رغم كثرة تصريحاته ولغوه، عندما كان في منصبه.
الصورة نفسها تكررت مع الأمين العام الأسبق عبد العزيز بلخادم بعد إبعاده رئاسة الحزب في 2013، الرجل الذي منعته برقية لوكالة الأنباء الرسمية لاحقا، من احتلال أي منصب داخل الحزب والدولة، قيل إن مصدرها رئاسة الجمهورية، لنكون امام إقالة غريبة هي الأخرى لهذا الرجل السياسي، الذي احتل عدة مناصب مهمة على رأس الحكومة والهيئة التشريعية وقيادة الحزب، برقية لوكالة الأنباء فرضت على بلخادم الاكتفاء بحضور الجنائز والتعزية كنشاط سياسي وحيد وأوحد بعد هذا الإبعاد، تطبيقا لأوامر البرقية.
ما حصل هذه الأيام أكد هذه الممارسات ودعمها، فقد عُين معاذ بوشارب على رأس الحزب منذ أيام، بدون أن يكون عضوا لا في اللجنة المركزية للحزب ولا مكتبه السياسي، مؤسسات كان يفترض أن لا تحل بداخلها وبين أعضائها مثل هذه الهزات التي يتعرض لها التنظيم، الذي حصل أن بوشارب حلّ، بعد تعيينه مباشرة كل مؤسسات الحزب الرسمية القيادية، وشكّل “هيئة تسيير مؤقتة” لغاية المؤتمر المقبل للحزب، بوشارب الذي كان قد وصل بالشكل الغريب نفسه منذ مدة قصيرة على رأس المجلس الشعبي الوطني، بعد إقالة رئيسه السعيد بوحجة لأسباب غير معروفة ولا معلن عنها حتى الآن وبشكل غريب هو الآخر، بوحجة مثل غيره من المسؤولين المبعدين دخل مباشرة إلى بيته وسكت عن الكلام، تطبيقا لهذه الثقافة السياسية التي تشربتها إطارت الحزب وأعادت إنتاجها الموسع داخل الساحة السياسية حتى وهي تعيش نوعا من التعددية.
الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من هذا السرد التاريخي لهذه التغييرات على رأس جبهة التحرير، أن هياكل الحزب القانونية لا دخل لها في هذه التعيينات التي تسمع بها على صفحات الجرائد ونشرات التلفزيون، فهي تأتي من خارج الحزب، من رئاسة الجمهورية تحديدا، بعد أن توقف أو كاد تدخل المخابرات في هذا الشأن، كما كان في السابق، ليحتكر رئيس الحزب ورئيس الجمهورية هذه الأدوار. حزب مازال النظام السياسي ـ رغم كل هذا الذي يحصل ـ في حاجة إليه وإلى ما يعتقد أنها “شرعية تاريخية” ما زال يتمتع بها.
ما يحيلنا إلى الحديث عن لعنة الانتخابات الرئاسية، كما سميتها أكثر من مرة، التي تتمظهر هذه الأيام بشكل غريب جدا، تفسر بكل تأكيد ازدياد منسوب هذا الاضطراب الذي يعيشه الحزب وقيادته هذه الأيام، فقد انتقل الحزب من التبشير لها في عهد ولد عباس، إلى التشكيك حتى في إمكانية تنظيمها في الربيع المقبل، بعد تعيين بوشارب، الذي اكتشف أن هناك ما هو أهم من الانتخابات، كل هذا في أقل من شهر! سيناريو دعمته تصريحات أحزاب أخرى كان آخرها عمار غول (وزير سابق منشق عن حركة حمس، من الموالاة) الذي طالب بتنظيم ندوة توافق لحل إشكال لعنة الانتخابات هذه التي يتخوف منها الجميع، سلطة ومعارضة.
أبعاد نفسية ـ سياسية أكيدة وراء هذا التخبط مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، في وقت تأكد فيه تدهور الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة الذي يجعل من ترشحه لعهدة خامسة مغامرة بكل المقاييس، وهو ما أوصل الأمور إلى انسداد فعلي، نتيجة عدم القدرة على التوافق على مرشح آخر يخلفه بعد عشرين سنة من الحكم، داخل نظام حكم عرف مستويات شخصنة لم تعشها الجزائر منذ الاستقلال، على حساب مؤسسات، كان يمكن أن تساعد على اتخاذ القرار، كما كان الحال في السابق مع مخابرات الجيش، التي كانت تبادر بالتدخل لحل هذا النوع من الانسدادات التي يعرفها النظام دوريا، في وقت تعجز فيه الأحزاب والبرلمان عن التحول إلى مراكز لصناعة واتخاذ القرار عندما يتعلق الأمر بالانتخابات الرئاسية تحديدا، سواء تعلق الأمر بأحزاب السلطة أو المعارضة. وضع جعل المؤسسات السياسية للنظام تعيش حالة شلل فعلي، ليس عن الحركة فقط، بل عن التفكير كذلك، كما توحي بذلك فكرة تأخير الانتخابات وتنظيم “ندوة توافق” التي انطلق الترويج لها هذه الأيام، فكرة يمكن أن تعيد الجزائر إلى مربع الموت الذي كانت داخله في بداية التسعينيات، بعد إلغاء الانتخابات التشريعية التعددية الأولى، وكأن الجزائر محكوم عليها بالعودة مرة أخرى إلى لعنة الانتخابات التي تكون حاضرة كلما كانت امام انتخابات، براهين فعلية أو متخيلة، يمكن أن تغير في موازين القوى بين العصب الحاكمة، كما يمكن أن يحصل في حالة عدم ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة.
أزمة جبهة التحرير المستمرة والانشقاقات التي يمكن أن تصيب الأحزاب الأخرى الضعيفة أصلا، إضافة إلى ازمة البرلمان بالطريقة البلطجية التي تم حلها، وغيرها من المؤشرات السياسية الأخرى، كتلك الصراعات التي اندلعت داخل الحكومة نفسها، كلها مؤشرات عن هذا الشلل الذهني الذي يعيشه النظام السياسي الذي أصبح لا يتصور أن يكون بديلا آخر لبوتفليقة مع اقتراب هذه الانتخابات، الرئيس الذي حكم الجزائر لأطول فترة منذ استقلال البلاد، بصلاحيات ملكية حولته إلى المؤسسة الأولى وطنيا.
يحصل كل هذا الاضطراب والشلل للنظام السياسي ورجاله، في غياب المواطن الجزائري الذي لم يتعود على المشاركة في هذه الانتخابات، يتفرج على هذه الصراعات من بعيد ويزداد تخوفه على حال البلد الذي قرر الكثير من الشباب مغادرته في قوارب الموت نحو أوروبا، بطريقة تشبه ما تقوم به قطعان الحيوانات البرية في أدغال إفريقيا، عندما تستشعر خطرا داهما.
٭ كاتب جزائري
لو كان موضوع مقال ذ/ناصر يتعلق بمايسمى افكا وبهتانا بقضية الصحراء…لوجدت ارتالا من الملصقين للكلمات والصيغ الإنشائية بغرض المزايدة في موضوع حسمه الشعب المغربي.. وتجرع فيه المستعمر الاسباني إحدى أكبر هزائمه بعد أنوال. ..وايفني. ..ولكن أن يكون الموضوع من صميم الأزمة التي اثقلت كاهل الشعب الجزائري. ..فهذا لايستحق الاهتمام عند هؤلاء. ..
والله كلامك صحيح ياأخي