أزمة الهوية الأدبية

من أغرب غرائب الحالة الأدبية أن ترى من يهاجم فناً من فنون الأدب يركض بأقصى سرعته لينتحل صفة ذلك الفن.. كأن «الهوية الأدبية» باتت مفقودة بعد الجهود المضنية التي يبديها بعض أهل الأدب، والمهتمين به للخلاص من التبعات التي خلفها «زمن الفترة».
أزمة الهوية الأدبية مسألة خطيرة يجب التوقف عندها وبحثها ملياً، للوصول إلى نتائج تساهم في حلحلة هذا المشكل، عبر الفهم العميق لهذه الأزمة، وتقديم فرضيات الخروج من هذه الأزمة .تنوع المسميات والتوصيفات، ساهم بشكل رئيسي في ظهور أزمة الهوية الأدبية، ففي السابق كان يظهر عندنا مسمى Author كاصطلاح يطلق على الأديب، الذي أجاد وقدم عدة فنون أدبية، ولكن عند تقلص هذه الشخصيات الأدبية متعددة الفنون بات يبرز على السطح مسمى عالمي جديد ألا وهو «writer» ليشير بشكل مباشر لتقليص اختصاصات وفنون الأديب، إلى فن محدد يكتب به الكاتب، ولعل ذلك يكون مقدمة لتخلص الكاتب من التقنيات اللازمة لهذا الفن، تحت مسمى «التجديد» من وجهة نظره، بينما يرى بعض الباحثين بكل جرأة إن ذلك معول هدم أدبي، لكنه يوافق على المسمى كونه يحمي الأدب ويخرج هذه المحاولات الكتابية من الصبغة الأدبية .
وباستطرادٍ ذي صلة؛ نجد هذه الأيام بعض الكتّاب، ممن تهيأت له الأدوات المادية للانتشار والبروز الشخصي – غير الأدبي – يسعى جاهدا للحصول على لقب أديب عبر كتابة المقالات الصحافية عن شخصه، أو مزيد من تغريدات وسائل التواصل الاجتماعي المادحة لشخصه، لا لأعماله، وأحيانا نجد مدحا لبعض أعماله، بدون تقييم فني ومناقشة تقنية لتلك الأعمال، يمارس ذلك عمدا وفق «نظرية التأطير»، حيث يحاول تأطير المجتمع الأدبي ليتقبله كأديب له وزنه الأدبي، وحين تدرك تلك الحفنة من الكتاب أنهم يصطدمون دائما بحاجز (النقد) فإن ضيق الأفق يوجههم نحو مهاجمة النقد والتهوين من شأنه، لكن المفارقة المضحكة، أن يسعى ذلك المهاجم لمداهنة النقد، بل وصف نفسه بالناقد عبر جوقته المطبلة .
نعرف أن كل ناقد أديب، ولكن ليس كل أديب ناقدا، كما أننا ندرك أيضا أن النقد هو أحد أعلى مستويات الأدب، وبالتالي يصبح مطمعا وجاهيا لمن يسعى للألقاب الأدبية، كما أننا نعلم أن إقرار الصفة الأدبية يعني امتهانها أو انتحالها؛ فكما أنه لا يصح لفني التحاليل في المستشفى أن يطلق على نفسه صفة (طبيب) رغم أنه يرتدي (الروب الأبيض) فلكلٍ مهنته ومهمته ومسماه، فكذلك ينبغي للكاتب أو القاص مثلا، أن لا يسمي نفسه ناقدا.
حين تكلف أدوات الجوقة إطلاق الألقاب، فإنك لا تحوزها، بل كل ما عملته هو أنك خسرت وأضعت جهودك، وشتت متابعيك وفقدت ثقة مريديك، وصبغت نفسك بصبغة «المحتال الأدبي» وهذه مسألة جديدة من مسائل الانتحال الأدبي.
وإذا كان لكل شيء أمارة، وللادعاء بينة، فإن المشتغل بالأدب يظهر آدابه، والقاص ينشر قصصه، والروائي ينثر إبداعه الروائي، وكذلك الناقد يقدم أعماله النقدية بأي طريقة متاحة، ناهيك من شرط النقد دراسة ومدارسة، الفن عبر منهجية علمية واضحة، التي يفتقدها هؤلاء الحفنة ممن دخل الكتابة عبر موهبة ظنها في نفسه أو صدفة قادته، أو ربما وساطة من صديق أو قريب.
حين نقرأ لأحدهم مقالة ثم يقوم مؤيدون له بنشرها، وإعادة تدويرها بين الناس، فإن ذلك يعني الموافقة على ما جاء فيها، وبالتالي سيلفت انتباهنا كقراء عاديين أو مختصين للاطلاع على ما جاء فيها، فإذا بنا نجد حاطب ليل يخلط بين النقد وفكرة القصة، فيجعلها قمة النقد الأدبي، وهو لا يتحدث عن «نقد» لحالة المجتمع، مستفيدا من كلمة (نقد) فحسب، ولكنه عنى (النقد الأدبي) المفهوم بتقنياته وفنياته ونظرياته.
بريق الذهب يسحر ويذهب بالألباب كما أن خلط الأوراق في ذهاب وإياب يساهم في تدمير الوضوح والإبانة والإعراب، وهو ما يتطلب وقفة من حماة الأدب وحرفته وذائقته.

٭ كاتب كويتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية