أزمة مركز تكوين والتنوير العربي

ما أن أعلن عن إنشاء مركز «تكوين»، (اختصارا للاسم مركز تكوين الفكر العربي) في افتتاح باذخ في المتحف المصري الجديد، حتى اندلعت عدة معارك وعلى عدة جبهات، من دون سابق إنذار. معارك أطلقتها جهات دينية رسمية ضد المركز ومجلس أمنائه، ومعارك شنتها حركات ومنظمات دينية وتجمعات شعبية اتهمت المركزالجديد بعدة اتهامات تبدأ بالإلحاد والدعوة له، ولا تنتهي بالماسونية وملفاتها السرية.
ومن جهة أخرى اندلعت معركة سياسية بين خصوم النظام المصري ومركز تكوين، باعتبار المركز مدعوما من حكومة السيسي، ويتم الترويج له من وسائل الإعلام المصرية الرسمية، وقد دخل على الخط في حركة غير مسبوقة علاء مبارك نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، مهاجما مركز تكوين ومعترضا على بعض مواقف أعضاء المركز وأساليبهم في التعبير عن الرأي، متسائلا في تغريدة على حسابه الرسمي في منصة أكس، عن سبب وجود زجاجة بيرة أمام الأعضاء في صورة انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي.
جهات عدة هاجمت المركز قبل أن يبدأ نشاطاته، انطلاقا من خلفية الانطباعات التي تكونت حول شخصيات مجلس الأمناء الذي ضم شخصيات سجالية مثل: إبراهيم عيسى، وإسلام بحيري، ويوسف زيدان، بالإضافة إلى شخصيات عربية وهي، الكاتبة التونسية ألفة يوسف، والباحث السوري فراس السواح، والباحثة اللبنانية نايلة أبي نادر. حتى وصلت الأزمة إلى البرلمان المصري، إذ تقدم عضو مجلس النواب هشام الجاهل، بطلب إحاطة موجه لمجلس الوزراء ومشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء، مؤكدا خطر قيام مجموعة معروف عنها التشكيك الدائم فى الثوابت الدينية، وإنكار بعضها، بتدشين كيان لها، ليكون إضفاءً لمشروعيتها، من دون رادع من الدولة ومؤسساتها الدينية، حسب وصفه.

جهات عدة هاجمت المركز قبل أن يبدأ نشاطاته، انطلاقا من خلفية الانطباعات التي تكونت حول شخصيات مجلس الأمناء الذي ضم شخصيات سجالية

وإذا أردنا الحديث عن مسيرة التنوير العربي، ومحاولات تفكيك معطيات التراث العربي، للوصول إلى تعامل عقلاني مع تاريخنا، فسنذكر أن الباحثين يؤرخون لبداية النهضة العربية المعاصرة بالحملة الفرنسية على مصر، ويعتبرون أبرز مخرجاتها مشروع محمد علي باشا في مصر، وما تزامن معه من حركة ترجمة ونقل وتوطين للتكنولوجيا الحديثة، التي تم استيرادها من أوروبا إلى مصر محمد علي، الأمر الذي خلق مجتمعا ناهضا، تزامن مع تجربة باشا مصر النهضوية في المشرق العربي، يضاف لها بالتأكيد ما تزامن مع تجربة محمد علي من إنجازات في ولايات المشرق العربي العثمانية مثل، العراق والشام على يد بعض الإداريين والساسة الإصلاحيين، كما يمكننا الإشارة إلى التجربة التونسية في ظل دولة البايات، التي صاحبتها نهضة فكرية واضحة في المغرب العربي في القرن التاسع عشر. وقد كانت ثمرة النهضة العربية الحديثة ولادة عقول نهضوية حداثوية تنويرية مثل: رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الافغاني في مصر، وعبد الرحمن الكواكبي، وإبراهيم اليازجي، وبطرس السمحيري، وفارس الشدياق، وشبلي شميل وغيرهم في المشرق العربي. استمرت تداعيات النهضة العربية الحديثة، وأفرزت معارك مهمة في عشرينيات القرن الماضي، على الرغم من كل ما نال رموزها من عنت ومحاكمات وتضييق مثال ذلك، محنة طه حسين وأزمة كتاب «الشعر الجاهلي»، وعلي عبد الرازق في أزمة كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وصولا لستينيات القرن الماضي، إذ يحدد عدد من المؤرخين هزيمة حزيران/يونيو 1967 تاريخا لولادة النكوص الماضوي، وهبة ما عرف بـ(الصحوة الإسلامية) وولادة التيارات الإسلاموية السلفية والجهادية، التي كفرت النهضة ورموزها، واعتبرت الخير كله في الرجوع إلى (الإسلام النقي) زمن الصحابة، من دون طرح آليات واضحة تبين كيفية هذا الرجوع.
كانت عقود السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، عقود صراع بين تيارات ماضوية مسيطرة ومدعومة من حكومات وأنظمة في المنطقة، ومحاولات نهضوية فردية هنا وهناك، لكنها يجب أن تسجل على أنها كانت محاولة خلق تيار نهوض عربي جديد، وقد شهدنا بضعة مشاريع، كانت سمتها الجامعة إنها فردية ومتناثرة هنا وهناك، من دون وجود روابط أو محاولات تنسيق أو تأطير جامعي أو أكاديمي أو مؤسساتي، يحتضن هذه المحاولات حتى بالنسبة للأكاديميين، ويمكن الإشارة إلى نماذج من هذه المشاريع مثل؛ مشروع محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وجورج طرابيشي، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور، والطيب تيزيني، وحسن حنفي ومجموعة أخرى من الكتاب والمفكرين، الذين حاولوا تخليص الموروث من مخالب التيارات الماضوية، والتعامل معه بعلمية وموضوعية، يمكن أن تخدم الحاضر والمستقبل.
الأزمة الحالية لمركز تكوين التي رأى البعض أن تصريحات غير مسؤولة قد أثارتها، مثل سؤال يوسف زيدان في الافتتاح لفراس سواح عندما قال له من أهم فراس سواح أم طه حسين؟ وجاء رد السواح ليزيد الطين بلة، عندما قال أنا وأنت اهم من طه حسين، هذا الكلام فتح هجوما واسعا على تكوين والقائمين عليه وهم يخطون خطوتهم الأولى، حتى هبة منصات التواصل الاجتماعي على خلفية بعض الصور المسربة، يمكن قراءتها بسهولة على أنها تيار يضمر مواقف مسبقة من القائمين على المركز. وفي هذا السياق يمكننا قراءة خطوة مشيخة الأزهر، إذ قرر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، إنشاء وحدة جديدة تحمل اسم «بيان»، وجاء في التصريح الرسمي للأزهر؛ بأن الهدف من ذلك هو الإجابة على جميع الأسئلة التي تثار حول تكوين دعاة الإلحاد. فمن هم (تكوين دعاة الالحاد)، ألا يعني ذلك أن خطوة الأزهر جاءت ردا على إنشاء مركز تكوين، واتهام مجلس أمنائه ضمنا بترويج الإلحاد؟ والنتيجة كانت غزو منصات التواصل الاجتماعي بهاشتاغات مثل (#إغلاق_مركز تكوين). جاء رد يوسف زيدان عضو مجلس أمناء مركز تكوين على هذه الحملة، في بيان عبر حساباته الرسمية في «فيسبوك»، ومنصة إكس، إذ قال مبينا؛» تكوين ليست مبنى يمكن إغلاقه، هي مبادرة للتثقيف العام في البلاد العربية، ودعوة مفتوحة لإعمال العقل وإعادة بناء المفاهيم العامة وتحكيم المنطق والعقلانية.. وهي تنطلق برعاية الدولة المصرية، لإطفاء حرائق الكراهية المقيتة.. وهي لا تستهدف إطلاقا معاداة الدين الإسلامي أو الأزهر أو الكنيسة أو المعابد الهندوسية، ولا تنوي الدخول في مهاترات المجادلة مع الذين يتكسَّبون بالعقائد الخرافية، ويخدعون بخبث أولئك البسطاء من الناس في بلادنا». ثم أطلق بدوره هاشتاغ مضاد هو (#أنا_أدعم_تكوين)
إن تشكيل مراكز فكرية وبحثية تتبنى فكرة النهضة، وتنتهج المناهج العلمية في التعاطي مع التراث، يعد بحد ذاته فعلا جيدا نفذته مختلف دول العالم، التي حاولت أن ترسم خطى نهضتها المعاصرة، لكن يجب أن نقول إن النيات شيء ونتائج العمل شيء آخر، ولا يمكننا أن نحكم على أي مشروع من أسماء الناس القائمين عليه، وانما يجب أن نرى ما سينتجه المشروع وحينها يمكننا أن نحكم على الامر بشكل عقلاني.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية