أزمور المغربية تتكئ على نهر أم الربيع وتستنشق عبق التاريخ

الطاهر الطويل
حجم الخط
0

مدينة الأولياء والمفكرين والفنانين

الرباط-“القدس العربي”: في مدينة أزمور المغربية لا تكاد تخطو بضع خطوات حتى تجد ضريحا لولي من أولياء الله الصالحين. قد يكون في هذا القول المتداول بعض المبالغة، ولكنها يشير ـ حقيقة ـ إلى كثرة الأولياء الذين أنجبتهم تلك المدينة أو استقروا فيها ودفنوا في ثراها. كما أنه يحيل على الدلالة الدينية والروحية العميقة لأزمور، المدينة التي ظلت، وما زالت، محتفظة بخصائصها العربية الإسلامية على مر القرون، رغم كل عمليات الاحتكاك بالعنصر الأجنبي.

لن يحتاج المرء إلى دليل للوصول إلى أزمور، فهو إذا خرج من مدينة الدار البيضاء في اتجاه الجنوب وسار ثمانين كيلومترا بالسيارة على الطريق الساحلية تترآى له المدينة بأسوارها ومآذنها وعمرانها، وهي تتكئ على نهر أم الربيع (طوله 600 كلم) من جهة، وتطل على المحيط الأطلسي من جهة أخرى. وهي جارة لمدينة الجديدة التي تبعد عنها حوالي 14 کیلومترا.

محطات تاريخية

تشتهر أزمور بطابعها المعماري المميز وشوارعها الضيقة ومنازلها القديمة وحكاياتها الأسطورية القديمة. ولذلك، فهي وجهة مفضلة للسياح الراغبين في التعرف على تاريخها وماضيها المجيد وخصوصيتها الاجتماعية والحضارية.

إنها مدينة ضاربة في عمق التاريخ، إلى حد أنه ليس هناك اجماع من قبل الباحثين والمؤرخين على تاريخ بنائها، فمنهم من يرجعه إلى فترة الفينيقيين او الرومان، ومنهم من يرجعه إلى البربر سكان المغرب الاوائل أبناء مازيغ الذين أتوا إلى البلاد من اليمن عن طريق الحبشة ومصر، مثلما يروي التاريخ الرسمي، ولو أن هذه الرواية محط تشكيك من طرف بعض الباحثين الأمازيغيين. كما أن ثمة اختلافا حول أصل اسم المدينة، وإن كان الكثيرون يرجحون اشتقاقه من كلمة آزما الأمازيغية التي تعني شجرة الزيتون البري (العاقر) والأرجح أن هذه الشجرة كانت موجودة في المنطقة.

كما ورد في موسوعة “المعرفة” أن هناك روايات لبعض المؤرخين العرب في القرن التاسع الميلادي تقول أن اسمها أمازيغي، بينما تقول دائرة المعارف الإسلامية “إن مدينة أزمور تأسست على يد القبائل البربرية في ناحية غنية بأشجار الزيتون البري (زمور)”. ويرى الأستاذ محمد شفيق عضو الأكاديمية الملكية أن كلمة أزمور في اللغة الأمازيغية تعني الزيتون، وأما جمع أزمور هو “أزمران” خصوصا عند القبائليين في الجزائر.

أزمور من أسمائها أيضًا تاديوغت أو تاديغت، ويقول لاووست أن اسمها يتركب من العبارات التالية: “تاديوغ ايت” ومعناها (قد أخذها) أو (قد اشتراها). وهذا التركيب نادر في اللغة الأمازيغية، ويقول إن هذا الاسم تحول فيما بعد إلى كلمة تأزمورت ثم أزاموروم ثم عرفت في مرحلة حكم الأدارسة بالاسم أزكور، واسمها يدل على شجرة الزيتون الذكر الذي يرمز إلى الأمن والسلام.

وذكر الباحث بوشعيب الحسيني أن بعض الروايات يشير إلى کون أزمور عرفت الزلزال سبع مرات وأعيد بناؤها في مناطق متعددة وإن كانت متجاورة، إذ كانت أزمور الأولى في منطقة تسمى الآن سيدي عيسى بعيدة عن الساحل، ومع تزايد شعور الأزموريين بالطمأنينة كانوا يقتربون من شاطئ البحر، إلى أن استقروا بـ”القصبة” المعروفة حاليا. والقصبة (القلعة) تعني في قاموس المدن المغربية العتيقة حيّ يقطنه سكان المدينة الأصليين، ويحيط به عادة سور ضخم فيه أبواب كانت تُغلق مع غروب الشمس، وفي زوايا السور توجد أبراج كانت تستعمل لحراسة المدينة.

ومما يدل على عراقة المدينة أنها كانت مرکز تجارة رومانية، وهناك بقايا أثار رومانية تشير إلى تلك المرحلة (برج، كهوف…) لكن هذه الآثار ما زالت بحاجة إلى الدراسة من قبل العلماء المختصين بالحفريات لاستجلاء أسرارها.

مع مجيء الفاتحين المسلمين بقيادة موسى بن نصير، اعتنق سكان أزمور الدين الحنيف، وصاروا من بين المدافعين عنه والحريصين على ترسيخ قيمه وأصوله وعلومه من خلال بناء المساجد والمؤسسات الدينية التي تم تزويدها بعدد من الفقهاء والعلماء.

وتفيد بعض الدراسات التاريخية أن سلوك بعض الولاة الأمويين في ما بعد لم يلبث أن جعل المدينة تنطوي على نفسها وتتأسس بها إمارة خارجية من الخوارج، مستقلة عن الخلافة الإسلامية في المشرق سنة 125 هجرية، يتزعمها البرغواطيون، لكن السكان قاوموهم مفندين ادعاءاتهم.

في عهد الدولة المرابطية، شهدت المدينة نشاطا دينيا مكثفا على يد كثير من المتصوفة أشهرهم مولاي بوشعيب، وفي سنة 477 هجرية، بعد الزيارة التي قام بها الملك المرابطي يوسف بن تاشفين لأزمور، انطلقت من مينائها 30 سفينة في اتجاه الأندلس للمشاركة في معركة الزلاقة ضد الإسبان.

وفي سنة 538 هجرية خرب أتباع الملك المرابطي تاشفين بن علي المدينة ونقلوا ما تبقى من صناعتها إلى مدينة سلام. كما أنها خضعت ما بين 541 و754 هـ لسيطرة حكم الموحدين ثم المرينيين. وقد شيد الملك المريني أبو عنان ثلاثة مساجد وأرسل أفواجا من الفقهاء والعلماء إلى مدينة أزمور، كما قام بتحصينها.

ومن 889 هـ إلى 914 هـ تعرضت المدينة، في عهد الدولة الوطاسية، إلى محاولات البرتغاليين المتكررة للاستيلاء عليها، بدءا من فرض الحماية مقابل تقديم 10 آلاف سمكة من الشابل المجفف ضريبة سنوية للملك البرتغالي يوحنا جان الثاني، وإعفاء التجار البرتغاليين من أداء الضرائب، مرورا بالهجوم المسلح بواسطة السفن الحربية والمدافع والجنود الفرسان والمشاة. لكن ذلك فشل أمام مقاومة الأزموريين الذين استعملوا المقاليع والنبال والنحل. ثم تكررت محاصرة المدينة بحملة تتكون من 500 قطعة بحرية حملت

2000 فارس و13 ألفا من المشاة معززين بالمدفعية، مما أدى إلى سقوط أزمور تحت الاحتلال البرتغالي سنة 919 هـ / 1513م، لكنها تخلصت منه بعد 28 سنة بفعل مقاومة عنيفة من طرف الأزموريين والسعديين، ودخلت المدينة تحت حكم الدولة السعدية.

وفي 1769م حرر السلطان العلوي (نسبة إلى الدولة العلوية) محمد بن عبد الله مدينة الجديدة من الاحتلال البرتغالي انطلاقا من جارتها أزمور التي ساهمت في الحملة بعدد كبير من المجاهدين وكمية مهمة من الاسلحة.

وخلال سنة 1907م سقطت أزمور تحت الاحتلال الفرنسي، فاشتعل فتيل المقاومة فيها على غرار باقي المدن المغربية وخصوصا بعد إقدام سلطات الاستعمار على نفي المغفور له محمد الخامس في 20 آب (اغسطس) 1953م حيث اجتاحت المدينة موجة من الاحتجاجات توجت بعودة السلطان من منفاه وحصول المغرب على استقلاله عام 1956م.

ومن بين الأشياء التي تذكر السكان بمرحلة الاستعمار البغيض أحد الأبراج التاريخية التي ترجع إلى عهد الوجود البرتغالي، وهو برج كانت تستعمل القوات الفرنسية دهاليزه سجنا تعتقل فيه الوطنيين المغاربة. كما أنه كان من قبل مقرا للإدارة العسكرية البرتغالية (1513 ـ 1541م). وخلال الستينيات من القرن العشرين، استعمله المسرحيون المغاربة الهواة من أبناء المدينة كواليس لعروضهم المسرحية.

أجواء روحانية

إلى جانب الصورة التاريخية المفعمة بالمواقف البطولية والنضالية، تشتهر أزمور أيضا بصورتها الدينية الطافحة بكل معاني الجلال والنبل والخشوع، فالمدينة مميزة بكثرة المساجد والزوايا والأضرحة. ومن بين مساجدها: الجامع الكبير، جامع القصبة، جامع الزاوية التجانية، جامع الزيتونة، جامع الزاوية البدوية، جامع سي اخديم، جامع الحفرة، مسجد مولاي بوشعيب، مسجد ابو النصر.

كما يوضح عدد الزوايا في مدينة أزمور أهمية الحركة الدينية في هذه المدينة التاريخية، ومعظمها يوجد في المدينة القديمة. ويصل عدد الزوايا الدينية في المدينة إلى 14 زاوية تهتم بتعليم القرآن وإقامة الشعائر الإسلامية، من أبرزها: الزاوية التجانية، الزاوية الشاذلية، الزاوية الدرقاوية، الزاوية الغازية، الزاوية العيساوية، الزاوية الحمدوشية، الزاوية البدوية، الزاوية المختارية.

أما أبرز الأضرحة فهو ضریح مولاي بوشعيب، وهو أبو شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي، تقول المراجع إنه ولد حوالي سنة 463 هـ بقرية في نواحي مدينة أسفي، وإنه ارتحل في طلب العلم بأغمات وفاس وأزمور، ويقال أيضا إنه ارتحل إلى الأندلس حيث اتصل بالقاضي عياض، ومن أشياخه، في التصوف والعلم عبد الله بن واكريس الدكالي المعروف بسيدي بنور وأبو علي بن إبراهیم المسطاسي المعروف باسم سيدي علي بن غيث. واستقر مولاي بوشعيب في أزمور التي صارت قبلة للعلم والعلماء من مختلف أنحاء البلاد، ولقب بالسارية لكونه كان ينتصب كالسارية عندما يقوم للصلاة.

وتشير إحدى الحكايات إلى كون الولي مولاي عبد القادر الجيلاني كان يرى من بغداد سارية النور في أزمور، فيقول ذلك النور لمولاي بوشعيب الذي يقيم الليل.

ومن بين الأضرحة كذلك ضريح للاعائشة البحرية. وقد قيل إن هذه الولية ماتت من دون أن تتزوج، وكانت تريد الزواج بمولاي بوشعيب، ولكنه لم يتم، علما بأنهما لم يلتقيا قط.

وهناك أيضا أضرحة الأولياء: سيدي أبو النصر، سيدي يحيى، سيدي محمد بن عبد الله، سيدي غانم، سیدي أحمد جبيلو، سیدي أبو علي منصور المسطاسي المعروف بسيدي علي بن غيث، سيدي علي واعلامو، سيدي عبد الودود، سیدی المخفي، سيدي المكي الشرقاوي، سيدي الجيلالي المنياري، للارقية الجيلالية.

وتجسيدا لمعاني التعايش والتسامح الديني سمح المغاربة المسلمون لليهود الذين كانوا يسكنون بحي خاص بهم في المدينة يسمى الملاح، بممارسة شعائرهم الدينية، إلى حد أنه يوجد في أزمور ضریحان الأول للحاخام أبراهام مولنيس، والثاني للحاخام أبراهام بن نتان.

لقد ولّدت أزمور، من خلال اختلاطها السكاني، تسامحًا دينيًا جميلًا، حتى أصبحت مركزًا روحيًا رئيسيًا. وقد ميزت هذه السمة المجتمع المحلي، وصُقلت مع مرور الوقت، وانتقلت إلى الأجيال والأحفاد، تجسيدا لقيم التسامح والتعايش ومساعدة الآخرين، بغض النظر عن الاختلافات الدينية.

ومن ثم، اعتبرت هذه المدينة قدوة في التعايش والتفاهم والانسجام. ولا ريب في ذلك، فهذه هي روح المغرب متعدد الأعراق والمتسامح، كما يتضح من مختلف الزوايا والمساجد والمسلمين واليهود.

وانطلاقا من نقاط مختلفة من العالم، تقوم العديد من العائلات اليهودية برحلة إلى أزمور كل عام تقريبا، للغوص في متاهات هذه المدينة التي يبلغ عمرها ألف عام، ورؤية “الملاح” (الحي اليهودي) مرة أخرى وللاحتفال في ضريح الحاخام أبراهام مول نيس. وهكذا صاغت أزمور صورة فضاء اختلطت فيه الثقافات والمعتقدات واللغات والتقاليد بكل حرية، وبدون أي تحيز أو شعور بالكراهية.

تراث متنوع

اشتهرت أزمور بعدد من فنون الصناعة التقليدية والمهارات اليدوية كالتطريز (تطريز الملابس والأثواب وتوشيتها) والغزل والخياطة وصناعة الزرابي والجلابيب… علاوة على طبخ سمك الشابل، لكن هذا السمك صار في حكم الماضي، بسبب بناء السدود وزحف الرمال على نهر أم الربيع وتلوث مياهه بماء مجاري الصرف الصحي. مما يطرح مسؤولية المحافظة على البيئة والاهتمام بنظافة المنطقة لاستعادة ثرواتها الطبيعية.

على مستوى التراث الثقافي، عرفت المدينة بشعر الملحون، وهو شعر عامي مغنى، من أبرز شعرائه: الشيخ أحمد بن رقية، الشيخ الحاج بن مسعود الحجام، الشيخ المكي بن الجيلالي.

ومما يذكر أن أزمور أنجبت مجموعة من المبدعين والمفكرين المعاصرين، من بينهم المفكر عبد الله العروي والاديب ادريس الشرايبي، والفنانون التشكيليون: هبولي، الأزهر، رحول، الديباجي وغيرهم.

ونظرا لثراء تراث أزمور الحضاري وتنوع خصوصياتها المحلية، فإن المدينة في حاجة إلى عملية إنقاذ وإعادة اعتبار شاملة، سواء على مستوى أسوارها التاريخية وبناياتها العتيقة، أو على مستوى صناعاتها التقليدية وفنونها الأصيلة التي تتطلب عملية إحياء تعود بالنفع على السكان وعلى صورة مدينتهم في الداخل والخارج.

وفعلا، فقد شهد الحي البرتغالي (المدينة القديمة) في أزمور، منذ سنتين، إعادة ترميم شاملة، شملت الأسوار والمداخل والقناطر المعلقة، عقب ما أصابها من حالة تردّ بسبب عوامل التعرية البشرية والطبيعية، إذ تم العثور على سبعة مدافع تحت الأنقاض.

وأفادت صحيفة “الصباح” أن “مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي” أشرف على عملية إعادة الاعتبار لهذه المدينة، بتنسيق مع المجلس البلدي لأزمور. واستغرقت حفريات وأشغال ترميم أسوار المدينة العتيقة (القلعة البرتغالية) عدة شهور، بطريقة حافظت نسبيا على النسق العمراني وطريقة البناء القديم.

ونقلت الصحيفة المذكورة عن الباحث أبو القاسم الشبري، مدير مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي، قوله إن الحفريات التي أجريت في أماكن مختلفة أزاحت النقاب عن بعض الحقائق منها، أنه إلى عهد قريب كان عدد هذه المدافع، لا يتعدى عشرين مدفعا، 12 منها موزعة على الأبراج والأسوار وبداخل “القبطانية” البرتغالية، بينما ما لا يعرفه المواطنون، هو وجود 8 منها وإلى الآن بحظيرة المجلس البلدي لأزمور ومدفع واحد داخل ثكنة الدفاع المدني.  وقد كشف “مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي” في 2014 عن مدفع مطمور في ثنايا سطح البرج المستطيل لباب “الدرب الفوقاني” إبّان أشغال التهيئة، التي باشرها فيه المركز نفسه، وهو موجود الآن بأرضية البرج ذاته.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية