بعد 11 إبريل/نيسان الماضي، أي بعد سقوط النظام المظلم، واندلاع فرحة كبرى لدى كل الناس في السودان، وأعني ممن مسهم الضر، وحرموا من خير وطن كله خير، أردت أن أطرح مسابقة في القصة القصيرة للموهوبين من الشباب، كل يكتب عن تلك الأيام وما قبلها من ترقب وأرق، وما يتصوره بعدها من ترقب جديد، وأحلام تتم صياغتها أدبيا.
أردت في الحقيقة، أن أجد للأدب موضعا هو الآخر في خطة بناء وطن جديد مختلف تماما عما كان عليه في السابق، ومعروف أن السودان لم يترك ليحتضن أهله بالكامل إلا أوقات قصيرة منذ الاستقلال. الذي حدث أنني أحسست بخطأ ما في ذلك الطرح، فالشباب الذين تحملوا قسوة إشعال ثورة قاتلت نظاما متعمقا في الجلوس على ظهر الوطن، ما زالوا مشغولين بإكمال ثورتهم، التي وجدوها بحاجة لإكمال منذ الوهلة الأولى، وقبل أن تختفي عبارة» تسقط بس»، التي لازمت الثورة عن الأذهان والألسنة، وأي إضافة لها علاقة بالإبداع، حتى لو كانت مهمة، ستعد ترفا بكل تأكيد، وقد تكون مجرد مسابقة تطرح نظريا بلا أي تفعيل حقيقي.
هناك كثيرون بلا شك ستعجبهم المسألة، وسيودون أن يشاركوا فيها، فقط ليس ثمة ما يمكن قوله، أو إدراجه من أحلام، وكل حلم تتم صياغته، قابل لأن يموت مباشرة، وحتى قبل ولادته. الذي أردت قوله، وتذكرت أنني قلته من قبل في بداية ثورات الربيع العربي، التي خاضتها دول أخرى شقيقة، وحين شاهدت كما كبيرا من الأعمال الروائية والقصصية، تكتب عن تلك الأحداث، وفيها استعجال كبير، إن الكتابة الإبداعية باستخدام تلك الأجواء، غالبا لن تنجح ما لم تستقر الأمور، أو على الأقل نعرف اتجاه الحلم، وفي أي واقع سيرسي، وهذا الأمر يحتاج وقتا بكل تأكيد. فحين تكتب عن النضال مثلا، ستكتب أشياء معروفة ويمارسها الناس يوميا في حياتهم، وحين تكتب عن الحرب والدمار، والسجون، والتعتيم والقتل، فأنت أيضا تكتب حقائق، لا تستطيع أن تضيف إليها إبداعيا إلا القليل، نعم ستكتب أن مجزرة حدثت، ومواطنين ماتوا أو فقدوا، وشوارع غاصة بالفوضى والدم وجنون العظمة، وقد تتذكر قصيدة حماسية لأمل دنقل، أو صادمة من شعر محمود درويش، ولكن أين حياة الوطن التي من أجلها هبت الثورة؟
أين الأحلام المصاغة في الشعارات: حرية، سلام وعدالة؟ ومن الذي سيسأل عن التنكيل بتلك الشعارات، ومتى؟ وكيف؟
أين الأحلام المصاغة في الشعارات: حرية، سلام وعدالة؟ ومن الذي سيسأل عن التنكيل بتلك الشعارات، ومتى؟ وكيف؟
إنها أسئلة حارة جدا وحزينة وصعبة، لكنها ليست أدبية في أي حال من الأحوال، فلن يجيب الأدب عن سؤال خاص بالواقع، كما لن يجيب الواقع عن سؤال خاص بالأدب، فكل له أسئلته وأجوبته، وقد شاهدنا الأم عايدة، وقد حملت صورة لابنها الطفل أحمد، الذي اغتيل بآلة القمع، وجلست في وسط المعتصمين، هي في الحقيقة رغم صمتها كانت تسأل سؤالا واقعيا: من يجيء بحق ابني؟ هو سؤال خاص بالواقع وليس بالأدب، أيضا شاهدنا أسرا لضحايا عديدين فقدوا في الثلاثين عاما الأخيرة، يحملون الصور والصمت وأسئلة الواقع التي تنز من نظراتهم.
كذلك ذكرت وأثناء قراءتي لبعض أعمال الربيع العربي، إننا لا نريد أن يبدو الأدب عجولا وهو يشارك، نريده أن يشارك ولكن بتعقل وروية، وقد وضحت ما أعتقده من دوره في مقالي السابق. نعم على من يريد أن يكتب نصوصا عن التغيير ينبغي أن يكون ملما بكثير من الأحداث، وملما بكثير من التأويلات قبل أن يخط نصا، فليس كل من هتف أو ردد شعارا مناوئا، أو رفع علامة النصر في وجه كاميرا متجولة في الشوارع والميادين، وهو يبتسم، قادرا على إنتاج عمل أدبي جاذب للقراءة، ومؤرخ للأحداث بحيث يقرأ كوجبة مهمة، غنية بالمعرفة.
حتى الكتاب المخضرمون أنفسهم، رغم انغماسهم الطويل في درب الكتابة عن القضايا الكبرى والصغرى، يحتاجون لتلك الانشغالات المهمة قبل أن يبدأوا كتابة نصوص، وربما احتاجوا لرؤية الأماكن التي جرت فيها بعض الأحداث ليرسموها بدقة، وحين تُكتب نصوص جيدة بعد ذلك، ستوضح وجهة نظر الأدب المتأنية في ما حدث، من دون إجابة صريحة عن أسئلة الواقع الكثيرة المتشعبة. وقد يكون الأدب عاجزا عن الرسو على وجهة نظر ثابتة، ما دامت الأحلام متأرجحة، ولا تدل على وجهة ما.
عموما تبدو مادة الثورات والانتفاضات والحروب، غنية بشكل ما، ذلك الغنى الذي تصنعه المأساة، ودائما ما ينظر للمأساة في بلادنا باحترام شديد، بعكس النظر إلى الفرح والابتهاج، وهو أيضا ضرب من ضروب الحياة، أي شخص سيحس بالدهشة وعدم التصديق، حين تخبره عن وفاة شخص يعرفه، وقد لا يحس بأي شيء، ولا تخرج منه سوى ابتسامة صغيرة، حين يسمع بزواج شخص يعرفه أيضا، والجميع سيصابون بالبؤس حين يرون صورة شيخ يبكي، وستتقد كثير من الأسئلة في ذلك الشأن، لكن مجرد ضحكات مستخفة ستصدر حين يرون صورة لذلك المسن وهو يضحك. ولو تأملنا الأغنيات الشعبية في كل بلادنا العربية، فلن نستخرج منها سوى عدد قليل يمجد الفرح، ويدعو إلى البهجة، بينما معظمها، بكاء وأنين وفراق، حتى الأغنيات التراثية التي تمجد الأبطال، ستمجدهم في الغالب بعد أن يموتوا، وبذلك يمتزج الفخر بالدمع.
مع ذلك لن نقول إن الكتابة في زمن تأرجح الأحلام ممنوعة، هي ليست ممنوعة أبدا، فقط لن تكون بالتأثير ذاته، كما لو كانت في زمن آخر، وبالنسبة للمسابقات، مؤكد سنعيد طرحها حين ينتهي الناس من دفن موتاهم، واستئناف حياة راسخة نوعا ما.
٭ كاتب سوداني