يموج العالم المعاصر بالعنف والحركة الدائمة، وعشق التطلُّع لكل ما هو حديث وخارج عن المألوف، والإيمان المطلق بالعلوم وإنجازاتها، التي تشعر الإنسان بأن باستطاعته السيطرة على زمام الكون. لكن لا تزال الأساطير تبهره، على الرغم من أنها تنطوي على اللامعقول؛ إلًّا أن البشر لا يزالون، على مر العصور، واختلاف حضاراتهم، يصدِّقون في قرارة أنفسهم ما يرد في الأساطير، ويتَّخذون منها نبراسا يضيء لهم دروب المستقبل الوعر؛ والسبب أن الأساطير على اختلافها تعدّ حكايات مقدَّسة تشرح طبيعة العالم وتصقل تجربة الإنسان، بل تساعده على أن يفكِّر بشكل أفضل. والغريب أنها صالحة لكل زمان ومكان؛ فكما كانت نبراسا للأولين، لم تنته صلاحيتها بالنسبة للمحدثين، وللأجيال القادمة. فمن خلال الأساطير، يستطيع الإنسان استخلاص إجابات عن الأسئلة الأزلية، وهكذا تتحوَّل إلى بوصلة توجِّه كل جيل حسب معطيات العصر.
وقد استطاع العديد من الكتَّاب الاستفادة من الأسطورة في مؤلَّفاتهم الأدبية، لأنها تمنحهم، إلى جانب ميزة لفت الانتباه، ميزة التعبير بحرِّية عن المواقف الاجتماعية والسياسية، دون الوقوع في خطر التصادم مع السلطات المهيمنة؛ فالأسطورة توفِّر لأي عمل فنِّي طبقات متعددة، يمكن من خلالها تأويل النصوص، وبالتالي الإفلات من الوقوع في حرج. وممن برعوا في استخدام الأسطورة في التعبير عن مواقف جريئة الكاتب الليبي إبراهيم الكوني المولود في عام 1948. وقد لعبت نشأته دورا مهما في مسيرته الأدبية؛ فهو سليل قبيلة الطوارق في ليبيا التي تعتزّ بهويتها المميَّزة. وعلى هذا، حمل على عاتقه أن يكون سفيرا لقبيلته، فاجتهد في دراسته، وسافر إلى موسكو للحصول على درجة الليسانس والماجستير في العلوم الأدبية والنقدية عام 1977، ما أهّله لتقديم الدراسات الأدبية والنقدية واللغوية، وساعدته في ذلك إجادته لثماني لغات، وهي: الطارقية والعربية والروسية والإنكليزية والبولندية والألمانية والإسبانية واللاتينية. والسبب وراء ولعه الشديد في تعلُّم اللغات، إدراكه أن فهم اللغة الأم القديمة يقتضي معرفة لغات عدَّة للتعمُّق في دراستها، ولمتابعة سرد التاريخ بكل اللغات الممكنة. وأصقل موهبته بتعمُّقه في دراسة تاريخ الديانات والأدب والفلسفات؛ ما أهله لأن ينتج واحدا وثمانين كتابا تعتبر من العلامات الفارقة في العلوم والآداب، والتي تُرجِم أغلبها إلى نحو 40 لغة حيَّة، مما حثّ مجلة «لير» الفرنسية Lire Magazine أن تختاره واحدا من بين أهم خمسين كاتبا عربيا، وشجَّع المحتوى العلمي القيِّم لمؤلَّفاته الأوساط العلمية في أوروبا وأمريكا واليابان لأن تحتفي به، بل ترشِّحه لجائزة نوبل لعدة مرات. ويعدّ الكوني الكاتب الشرق أوسطي والعربي الوحيد الذي خلَّد اسمه السويسريون في كتاب عن أبرز الشخصيات التي تقيم على أراضيهم، وهذه مكانة لم يصلها حتى الآن أي فرد من العالم الثالث، بالإضافة إلى أن مؤلَّفاته تُدرَّس في العديد من الجامعات الغربية العريقة؛ مثل: السوربون وجورج تاون وجامعة طوكيو.
وقد انعكس ولعه المعرفي أيضا على مؤلَّفاته الأدبية، سواء أكانت قصَّة أو رواية. ومن الجدير بالذكر أن رائعته الملحمية رواية «المجوس» تم اختيارها واحدة من أفضل مئة رواية عربية، والتي أظهر فيها معرفته المستفيضة بعلوم اللاهوت وكيفية تطبيقها على المجتمع والبشر لكشف النقاب عن المتغيِّرات الاجتماعية.
ويعد السبب الأبرز في شهرة إبراهيم الكوني، والاحتفاء به، خاصة في الغرب، أنه يعد الكاتب الذي أنقذ حياة الصحراء وقام بإحياء عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها وخرافاتها، فكان بذلك ساردا ومدوِّنا لتاريخ الصحراء وشارحا لطبيعتها. فقد نقلت رواياته الملحمية عالم الصحراء الغريب والفريد، بما يحتويه من تعاليم الأسلاف وتأمُّلات الحكماء، وخطاب الشيوخ والعرَّافين، وكشف النقاب على موروث هائل من الأساطير، ورصد لما طرأ على حياة الصحراء من متغيِّرات بسبب الطامعين الباحثين عن الذهب والسُّلطة، الذين عكَّروا صفو حياة العاكفين الباحثين عن الله والذين لا يطمحون إلِّا لحياة بسيطة تغلِّفها الصحراء القاحلة والبيئة الصحراوية القاسية.
وقد مكَّنه أيضا استخدام الصحراء، كأسطورة ومكان، من نقد الحياة السياسية في عهد الرئيس معمر القذافي، الذي تميَّزت فترة حكمه بعدم وجود مساحة لحرية التعبير وإبداء الرأي. وتعد رواية «نزيف الحجر» (1990)، التي حازت جائزة الدولة السويسرية عام 1995، واحدة من الروايات المهمة التي مزجت بين الأسطورة والحكايات الدينية والشعبية والبيئة الصحراوية وآراء الكاتب الفلسفية لنقد الحياة المابعد كولونيالية في ليبيا. وتدور الأحداث في إطار حكاية «قابيل وهابيل» التي يقتل فيها الأخ الشَّرِه للسلطة والمال أخاه المخلص الزاهد.
ومن خلال استخدام تقنية عين الكاميرا في السرد، يفتتح الكاتب صفحات الرواية على مشهد كاشف للبيئة الصحراوية التي تدور فيها أحداث الرواية، ويلتقط تلك الصورة من أعلى نقطة في وادي «متخدوش» الذي تدور فيه أحداث الرواية، وهي صخرة يصفها الكاتب بأنها «أهم صخرة في وادي متخدوش»؛ فهي «الصخرة العظيمة التي تحد سلسلة الكهوف، وتقف في النهاية كحجر الزاوية لتواجه الشمس القاسية عبر آلاف السنين». وبسبب الوصف الذي يضفى الحياة لبيئة تبدو للوهلة الأولى ميتة، تبرز قدسية الصخرة وأهميتها، وتؤكِّد أهميتها مكانتها في نفس «أسوف»، الشَّاب العابد النَّاسك، طويل القامة نحيل الجسد، الذي يؤثر العزلة ويخشى التعامل مع البشر، ويخالطهم بحذر شديد. لكنه في الوقت نفسه، يعشق مخلوقات الصحراء. وعلى النقيض شخصية أخيه «قابيل»، الذي يجسِّد عنصر الشرّ في الرواية، والذي تؤججه علاقته بحيوان «الودان»، أو التيس الجبلي الذي انقرض منذ القرن السابع عشر، ولكنه لا يزال يعيش في الصحراء الكبرى، والذي ـ كما يصفه «أسوف» يعدّ «روح الجبل» لما يحيط به من غموض، خاصة عند اعتصامه بالجبل إذا طورد. ويعتقد شيوخ الصوفية أن في لحمه يكمن سر من أسرار الوجود، ولذلك ينهل منه «قابيل» ولا يشبع، لدرجة أن الودان يحلّ في جسده في حين يرى فيه «أسوف» والده الذي كان ينهاه عن صيد الودان، وبهذا تبدأ قصة صراع البشر مع بعضهم بعضا ومع الطبيعة القاسية. وتتعقَّد الأسطورة عند اعتقاد أن «الودان» أصبح أخًا بالدم بعد موت الأب، وتتصاعد تلك العلاقة على نحو أسطوري يكشف المزيد من معتقدات أهل الصحراء، وتأثير الاحتلال عليهم، سواء في شكله القديم، أو الحديث متمثلا في الشركات الأجنبية التي تنقِّب عن البترول وتفسد نهج الحياة الصحراوية بإغراءات المال والسلطان، وكذلك تلويث تلك البيئة بالمركبات والمعدَّات، ما يجعل الطمع يتسرَّب إلى نفوس البشر ومعه تتزايد الشرور.
ويعد أعظم إنجازات إبراهيم الكوني هو، إبراز الهوية الصحراوية الليبية بجميع تفاصيلها التي قد تكون أيضا خافية على أبناء المدينة في البلد. ومن خلال الأسطورة استطاع تدوين التاريخ، ونقد السلبيات وجميع التيارات التي تؤثِّر على المجتمع. وأضحت خصوصية الطرح وسيلة لوصول إبراهيم الكوني لمكانة عالمية متميزة؛ فالسبيل للتميُّز والخلود هو التمسُّك بالهوية ومحاولة نشر مفرداتها.
كاتبة مصرية