أفرد الإعلام الغربي مساحات كبيرة لاعتراف إسبانيا والنرويج وأيرلندا بدولة فلسطين. وخصَّ أمرَ محكمة العدل الدولية لإسرائيل بإيقاف غزو رفح، وقبله طلب المدّعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بتغطية واسعة في شكلها ومضمونها.
لم يخف هذا الإعلام ذهوله من جرأة ما أقدم عليه قضاة أكبر محكمتين دوليتين، وثلاث دول أوروبية فاض بها الكيل ولم تعد تطيق الإبادة التي يرتكبها الإسرائيليون في غزة.
كان هناك إجماع في الإعلام الغربي، حتى المتحمس في الدفاع عن إسرائيل، على وصف الأسبوع الماضي بأنه أسبوع الانتكاسات (على إسرائيل). وتكررت فيه كثيرا كلمات من قبيل «النكسة» و«الخيبة» و«المرارة» و«الفشل» و«العزلة» وبأن إسرائيل «تجاوزت كل الخطوط» و«وارد جدا أنها انتهكت قوانين الحرب والقانون الإنساني الدولي» في غزة.
الطرح الغالب في الإعلام الغربي الذي، إلى أسابيع قليلة مضت، استمات في الدفاع عن إسرائيل وتبرير جرائمها، أن إسرائيل تخوض حربا لا نصر فيها وأن كل يوم يمر يعني المزيد من الغرق لإسرائيل ومعها الولايات المتحدة.
حاول الإعلام الداعم لإسرائيل التخفيف من وقع الصدمة بالتقليل من أهمية نكسات الأسبوع الماضي، والتشديد على أنها رمزية وبأنها لن تغيّر الكثير على الأرض. لكن لم يخلُ هذا الإعلام من انتقادات لرئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأفراد العصابة التي تشاركه الحكم وتحميلهم مسؤولية ما جلبوه لإسرائيل من عار ونبذ دولي لم تشهدهما منذ تأسيسها.
لا يقتصر الأمر على الإعلام وإنْ كان غالبا ما يعبّر عن المزاج السياسي. عندما ينتقد وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بصوت عال تلويح المسؤولين الإسرائيليين وأنصارهم بورقة معاداة السامية في وجه كل من ينتقد ما يرتكبونه من إبادة في غزة، فتلك علامة قوية على انتهاء زمن المتاجرة بالمحرقة وبمعاداة السامية، وأن العالم لم يعد يشتري هذه البضاعة.
وعندما يتلفظ زعماء إسبانيا والنرويج وأيرلندا، في يوم واحد وتوقيت واحد، بتلك العبارات القوية الداعمة للفلسطينيين والمناهضة للسياسات الإسرائيلية حيالهم، فتلك أيضا علامة على أن إسرائيل لم تعد الفتى المدلل الذي يرتكب ما يشاء من جرائم وفظاعات ثم يسارع للاحتماء بالدرع الأمريكي والغربي.
بغض النظر عن رمزية اعتراف ثلاث دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، وكذلك رمزية ما صدر عن مدّعي محكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، الدرس واضح والرسالة أوضح: العالم يتغيّر في العمق وفي اتجاه ليس أبدا في صالح إسرائيل.
هذا الأسبوع وحده جرَّد إسرائيل من كل الأوراق غير ورقة الحرب التي تشبه مستنقعا الخروج منه صعب والبقاء فيه أصعب
تبدو صحوة العالم هذه ضرورية وهامة، وفي وزمانها ومكانها المناسبَين مهما حاولوا التشكيك في قوتها بالتركيز على رمزيتها حينا وتأخرها حينا آخر. والدليل أنها أصابت إسرائيل بارتباك كبير وأوقعتها في مأزق تاريخي.
هذا الأسبوع وحده جرَّد إسرائيل من كل الأوراق غير ورقة الحرب التي تشبه مستنقعا الخروج منه صعب والبقاء فيه أصعب. كل يوم يمر يأتي بنصيبه من النكسات والصدمات يفسرها عبث ما يصدر عن القادة الإسرائيليين من أقوال وأفعال: صدر أمر محكمة العدل الدولية حول رفح فسارعوا إلى تكثيف القصف على المدينة. اعترفت ثلاث دول أوروبية بالدولة الفلسطينية فسارعوا إلى قطع أموال الجباية عن السلطة الفلسطينية (رغم أنها مشلولة وعلى هامش الأحداث). غضبت إسرائيل من مسؤولة إسبانية (اتُهمت بأنها غنّت «من النهر إلى البحر فلسطين حرة») فعاقبت (إسرائيل) الفلسطينيين بحرمانهم من خدمات القنصلية الإسبانية في القدس، ولم تعاقب إسبانيا. صدر طلب المدّعي كريم خان بحق نتنياهو وغالانت فسارع كبار المسؤولين الإسرائيليين إلى الاستنجاد بالبيت الأبيض والكونغرس علَّهما يفعلان شيئا ولو على حساب ما تبقى من سمعة الولايات المتحدة المدنّسة بدماء أطفال غزة ونسائها.
أصبح واضحا أن إسرائيل تركز جهودها الدبلوماسية خلال الشهور الأخيرة نحو الولايات المتحدة وتتجاهل الاتحاد الأوروبي (وأوروبا ككل باستثناء بريطانيا). وفي هذا التركيز رسائل سياسية ودبلوماسية واستراتيجية تحيل إلى العزلة المذكورة آنفا، وفقدان الأمل في الاتحاد الأوروبي كمؤسسات رسمية وكقوة شعبية، وفي بقية العالم. لم يبق لإسرائيل غير الولايات المتحدة لتتحمل معها التبعات العسكرية والدبلوماسية والأخلاقية للجرائم التي ترتكبها بحق سكان غزة.
لحد الآن تعطي واشنطن الانطباع بأنها قادرة على تحمل التبعات بدليل صمتها (الأقرب إلى التواطؤ) على الهجوم على رفح، رغم الاستياء العالمي وأمر محكمة العدل الدولية. لكن هذه التبعات كثيرة وكبيرة، ومن الوارد أن تكون سببا آخر يساهم في نكسة انتخابية لبايدن والديمقراطيين.
تستطيع إسرائيل أن تواصل الحرب وتقتل ضعف ما قتلت من سكان غزة، لكن هذا ليس أبدا مرادفا للقوة والانتصار. المؤكد أنها تقترب بخطى ثابتة من انهيار سياسي وأخلاقي بكثرة مثولها أمام المحاكم الدولية، وبتخلي عدد كبير من حلفائها الدوليين عنها، وبثورة طلاب كبريات الجامعات الغربية ضدها، وباهتزاز منظومتها السياسية والاجتماعية داخليا. وتقترب من خسارة عسكرية مؤكدة لأن أجهزة استخباراتها وماكيناتها الأمنية لا تعرف ماذا حققت على الأرض وماذا يجب عليها أن تحقق وكيف، ولا تعلم يقينا أين يختبئ كبار قادة حماس ومَن منهم على قيد الحياة ومن أصيب أو توفي. فمنذ بداية الحرب يكرر الجيش الإسرائيلي أنه يلاحق قادة حماس، بدايةً في شمال قطاع غزة ثم في مدينة غزة ففي وسط القطاع ثم خان يونس وأخيرا رفح. مرة تحت الأرض في الأنفاق وأخرى فوق الأرض بين السكان وداخل المستشفيات والمنشآت الخدماتية.
وعندما اقتربت القوات الإسرائيلية من رفح خرج مقاتلو حماس في شمال القطاع الذي تباهى كبار القادة السياسيين والعسكريين بأنهم طهَّروه. وعندما دخل الجيش الإسرائيلي رفح خرجت منها صواريخ في اتجاه تل أبيب وتواترت أنباء عن أسر جنود.
رغم كل هذا ليس من السهل أن تنصاع إسرائيل وتوقف حربها على غزة، لأن إنهاء الحرب يعني الخروج من حالة النكران والاعتراف بالعجز عن تحقيق النصر. لكن عدم انصياعها لن يكون من منطلق قوة ووضوح وثقة بالنفس، بل نوع من الهروب إلى الأمام في انتظار «فرج» من قبيل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في الخريف المقبل.
كاتب صحافي جزائري