إنه لأمر بالغ الصعوبة الكتابة عن التطورات الجسيمة، الثورية والتاريخية بما لا يقارن التي تمر بها مصر… فوتيرة المتغيرات أسرع من تصورات أو خيال أي منا، والكلمات لا تفي الظرف الخارق حقه، وهي لن تقف عند تنحية د. مرسي وجماعته من السلطة… هومخاضٌ بالمعنى الحقيقي لا المجازي البلاغي، حيث يبشر بالكثير مما ستتخطى نتائجه مصر ومحيطها الإقليمي، وستشكل علامةً دامغة في مسيرة البشرية عملاً وفكراً؛ وكأي واقع معقد فإن روافد عديدة، مختلفة بل ومتضاربة أحياناً تصب فيه، وليس مستبعداً أن تأتي النتيجة والشكل العام النهائي للخريطة السياسية مغايرة لتصورات كل الفرق، ومعبرةً في نهاية المطاف عن مجمل مكونات الصورة.
لكن على الرغم من كون الحدث والمستقبل ما زالا في طور التكوين والتشكل، وعدم بروز الصيغة النهائية، فإن بضع سماتٍ جوهرية وفاصلة تستحق الوقوف أمامها، ليقيني بأهمية دورها الآن ومستقبلاً:
أولاً، إذا كان إنجاز الخامس والعشرين من يناير الأهم والأبقى، هو كسر حاجز الخوف وبعث حالة من الحيوية في مصر ومحيطها، وإعادة الجمهور المصري إلى حلبة السياسة، مشاركاً أو مهتماً، فإن إنجاز، بل إعجاز الثلاثين من يونيو تجسد أمام أعيننا جميعاً في نشأة حركة احتجاجٍ على مستوى القاعدة الشعبية، حركة ‘تمرد’، خارج المعارضة المنظمة، نجحت في زمن قياسي مذهل في حشد ذلك الدعم الهائل، ليس ذلك فحسب وإنما الأهم من ذلك تمثل في حشد وتحريك قطاعات وفئات اجتماعية كانت طيلة الثلاثة عقود وأزيد قليلاً خارج أي مشاركة سياسية، إما لرضاهاعلى الوضع أو لكونها مهمشة بكل المعاني والمعايير (اللهم إلا حين كانت تساق إلى ذلك قمعاً كفقراء الفلاحين) بعد إكسابها وعياً اجتماعياً-اقتصادياً وسياسياً، وفي كل الأحوال كان التكيف والتواؤم أو التحايل على الواقع (ويندرج تحت ذلك الهروب من الوطن) هو الأسلوب الوحيد المعتمد. الآن اختلفت الصورة تماماً وصار من الممكن، بل يتحتم علينا الحديث عن ‘شعب مصري’لا كماهية متخيلة يهتف باسمها الثوريون والحالمون والرومانسيون أو يمتهنها استغلالاً سارقو الشعب من رجال مبارك ومحاسيب عهده المشؤوم، وإنما كواقع حقيقي ملموس ولاعب أسياسي، بل اللاعب الأساسي والأهم الذي يحسب لرأيه ألف حساب وتخشى قومته وغضبته في الساحة السياسية في مصر.
وقد ترتب على هذا الإنجاز الضخم أمران غاية في الأهمية: عودة مصر وشعبها للتاريخ الحقيقي، ذلك الذي يمضي قدماً إلى الأمام، بغض النظر عن التعرجات ومتغلباً على الانتكاسات، وضرب مثل حضاري مبهر مهم، والاضطلاع بدور ‘أستاذية العالم’ بمعنى ارحب وأعمق وأكثر إنسانية. في ما يتعلق بعودة مصر، فلا يخفى على أحد، بل لعله من الأدق والأكثر إنصافاً أن نعترف بأننا، مثقفين وكتاباً وجمهوراً على السواء في البلدان العربية، لم نفعل شيئاً طيلة الخمسين عاماً الماضية، عقب نكسة 1967 وتسلط حفنة من الطغاة الأردأ في التاريخ البشري، سوى النواح والتبرم من مصيرنا وهزائمنا المتتالية ولعق جراحٍ لا تندمل… بدا لنا وكأن العالم بأجمعه يتطور ويتقدم ونحن نتراجع ونزداد تشرذماً وانشطاراً، فهذه دول آسيا، اليابان وكوريا ثم الصين، صارت نموراً ونحن لم نحصل أن نكون قطط أزقة عجفاء تموء جوعاً وضرباً… في هذه الأزمنة، وخارج الزمان تحديداً، أُفردت الساحة لتيارات الإسلام السياسي التي تصدرت الصورة وهبط عليها التمويل من شتى المصادر المشبوهة، وبعد بث مزاجٍ رجعي يقتات على مخلفات الأفكار الدارجة المتوارثة عبر عهود الانحطاط الطويلة والقضايا التراثية العالقة، والأكثر ضبابية سيطرت قوى اليمين الإسلامي على الساحة السياسية فصرنا، مجتمعاتٍ وأوطاناً، نلف في زمن دائري، زمن خاص خارج سير التاريخ، لا يمضي إلى الأمام وإنما يستحضر صورته المثلى من ماضٍ ذهبي في بنية المقدس، لا من واقعٍ اقتصاديٍ- اجتماعي يتطور مع تقدم الزمن، ونخوض صراعاتنا السياسية والاقتصادية، نحن المسلوبون، على أرضية الهوية والأديان… إن ما حدث في الثلاثين من يونيو هو رفضٌ جماعي من السواد الأعظم لهذه الافكار التي تبتعد عن فحوى الدين وإنسانيته، وتتشبث بتفاصيل واقعٍ منته، معلناً بذلك إفلاسها وعدم قدرتها على صياغة وتقديم حلولٍ لمشاكل حقيقية وملحة.
كثيراً ما كررت بأن الجماعة خسرت في عامين ما بنته وكسبته طيلة ما يزيد على الثمانين عاماً، فقد جربها سواد الشعب المصري ورأى بنفسه خواء ذلك الخطاب وكم المشاكل المتفجر (من خرابٍ اقتصادي إلى عجز الدولة إلى الفتن الطائفية والدم المراق فيها إلخ…) الذي يجره فقرر، بإرادته الواعية، لفظه. هي عودةٌ للتاريخ كما قلت، ليس لأن مشاكلنا انتهت (ما أحسبها إلا بدأت في الواقع) وإنما لأن التعاطي مع الواقع من الآن فصاعداً سيتم من خلال مفردات وانحيازات اجتماعية وسياسية نابعة من الواقع الموضوعي وتفاعلات المصالح، صراعاً وتحالفاً. أما مفهوم ‘أستاذية العالم’ الذي استعادته مصر، شعباً وحضارةً وتاريخاً، فهو آخر المراحل في مشروع المرحوم حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وتمشياً مع انعدام التحديد المتعمد في أفكاره، فالمقصود به بصورةٍ فضفاضة، أن المجتمع الذي يحلم به ويسعى إليه، المسلم حقاً وفق تصوره، سيعلم العالم… وفي صورته تلك لا يخفى ما فيه من خطورة كونه ينطلق من قاعدةٍ دينيةٍ، بل فئويةٍ ضيقة تقصي الآخرين غير الموالين، عوضاً عن تقديم تصورٍ عام يلائم البشرية جمعاء على اختلاف دياناتها وأعراقها… وقد رأينا ما تؤدي إليه هذه الأفكار…غيتو جديد للأهل والعشيرة من أبناء الجماعة. إن الشعب المصري في ثورته الإنسانية جداً، رفض تجليات هذا المشروع، وبطرحه ذلك البديل الإنساني، الأممي بحق، الممكن، المنفتح على العالم وعلى رغبات جميع الشعوب في التحرر حاز بحق ‘أستاذية العالم’.
لا يعني كل ما سبق أن مشاكلنا قد انتهت، فالعودة إلى مسار التاريخ لا تؤدي إلى نهاية الصراع… فالصورة معقدة كما أسلفت، ومن ضمن التيارات العديدة التي لعبــــت دوراً هـــناك الفلول، ممن تماهت مصالحهم مع مبارك وزمرته والرجعيون رافضـــو الثورة والناقمون عليها من الأساس، وهو أمرٌ طبيعي، لكن ربما أهم من كل هؤلاء هناك المؤسسة العسكرية التي رممت شعبيتها وخرجت، بلا مبالغة، أقوى فصيلٍ منظم ذي شعبيةٍ عارمة على الساحة.
ويجب ألا يغيب عنا أن فصائل المعارضة ليست أفضل حالاً بكثير مما كانت عليه منذ عامين، وأن الحركات الشعبية لم تطرح بعد ما يكفي من الوجوه للقيادة في المرحلة المقبلة، وعلى ذلك فلعلنا لا نبالغ حين نقـــول ان الرابــــح في هــذه الجولة هو الشعب المصري (الذي كان من المستحيل الوقوف أمام زحفه)… والقوات المسلحة والدولة العميقة التي انتصرت للرغبة الجماهيرية العارمة. في الحقيقة هي لم تخرج من الصورة أبداً لنتحدث عن عودتها ولا أحسبها ستغادرها في المرحلة المقبلة وإن لم تظهر بصورةٍ سافرة.
محزنٌ ما حدث (حتى الآن على الأقل) مع د. مرسي وأركان حكومته، إذ رغم خلافي معهم لم أكن أحب أن تصل الحال إلى ما وصلت إليه، وكم وددت لو أنه استمع للنقد وعمل بالنصائح المتكررة قبل فوات الأوان…على كلٍ مازال الوقت مبكراً للحديث عن نهاية اليمين الإسلامي، فيجوز أننا لم نر آخر ما لديهم بعد، وكما أنه من الصعوبة بمكان التكهن بما ستحمله الأيام المقبلة فإنه من التسرع افتراض أنهم لن تصدر عنهم ردة فعل ولن يثيروا مشاكل في المستقبل.
أما الآن، فمن حق غالبية الشعب المصري أن تفرح بأنها أثبتت أن روح 25 يناير لم تمت، وأن الذين راهنوا على شعبٍ مصري ميت أخطأوا… ان زمن الموات والسلبية الطويل مضى إلى غير رجعة… لقد تغير مسار التاريخ، وربما إلى الأبد.
‘ كاتب مصري
أي حاكم يتولى مقاليد الحكم في مصر لن يطور الاقتصاد في ظل هذا الانقسام
لا يغرنكم المساعدات الخارجية الأمريكية والعربية
فالاقتصاد لن يقف على ساعديه ويستمر في التطور بشكل دائم إلا بجهود مصرية بحتة
وعليه سنرى ماذا يفعل غيرهم خلال سنة في ظل حالة الانقسام