على الرغم من أهمية أحاديث الرئيس عبد الفتاح السيسي، بحكم منصبه ومساحة الدور الذي يشغله، ودور تلك الأحاديث في التعرف على أفكاره وما يؤمن به ويهدف إلى تحقيقه، بكل ما لهذا من انعكاسات على الوطن والمواطن إلا أن الكلمة التي ألقاها في الندوة التثقيفية رقم 29 للقوات المسلحة، في أكتوبر 2018 تعد واحدة من أهم تلك الخطابات.
وتعود أهمية الخطاب الذي ألقاه بعد مدة قصيرة من بداية فترة حكمه الثانية، أنه دشن خلالها القطيعة العلنية بينه وبين ثورة 25 يناير، التي مثّل الاقتراب منها، أو على الأقل عدم العداء معها، فرصة للشرعية والشعبية عند ظهوره على الساحة السياسية قبل أن تتغير الاعتبارات والأهداف. وتزامن مع إعلان تلك القطيعة محاولة تعليب الفشل في صورة إنجازات، أو جزء من فشل ممتد من نكسة 1967وبعض التفاصيل.
سبقت الندوة التثقيفية رقم 29، التي جاءت ضمن الاحتفالات بحرب أكتوبر 1973 الندوة التثقيفية الأخيرة التي أقيمت في العاشر من مارس 2019 بمناسبة الاحتفال بيوم الشهيد وحملت رقم 30، بعدة أشهر كانت كفيلة بإحداث تغييرات مهمة في المشهد المصري، والبيئة السياسية، من أجل ضمان بقاء السيسي في السلطة حتى عام 2034، بدلا من عام 2022 كما كان يفترض في ظل الدستور القائم، واستكملت معها حلقات استهداف يناير وتعظيم صورة الإنجازات. المفارقة أنه، على طريقة اقتراح البعض بتشكيل مجلس أعلى لصيانة الدولة أو الدستور، يتحكم في الحاضر والمستقبل، وهو أحد الاقتراحات التي قدمت ضمن خطاب ضرورة تعديل الدستور قبل موافقة البرلمان، أكد السيسي في احتفال يوم الشهيد أنه شديد القلق بسبب مخاطر يمكن أن تحدث عام 2060، وكأن مخاطر الواقع ليست كافية، أو تم التعامل معها حقا، خاصة أن الحديث جاء بعد حريق محطة مصر، الذي صدم الجميع وأعاد إلى الواجهة أحاديث سابقة للسيسي عن الدفع مقابل الخدمات الأساسية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن يتوقع أن يتم الإعلان عن لجنة جديدة ومعها استقطاعات أو ديون جديدة، من أجل مشاكل متوقعة بعد عقود، خاصة بعد أن أكد الرئيس أنه وجّه بتشكيل لجنة للتعامل مع تلك المشكلات المحتملة.
اسماء جديدة للمعاناة، ولكن الأكثر أهمية أنها وسائل أخرى لمحاسبة غائبة، في واقع يتم الإعلان فيه أن حاكم اللحظة يتجاوز مشاكل اللحظة، ويتجه إلى مشاكل متوقعة أو متخيلة أو متصورة بعد عقود، المهم أننا لا نعرفها ولن نراها شخصيا ولا نملك أن نحاسب عليها، في الوقت الذي تضاف فيه إلى خطاب الإنجازات. في الوقت نفسه لا يتضح بعد إن كانت تلك التصورات نتاج نقاشات عابرة، أو دراسات جدوى علمية مع تأكيد الرئيس أن دراسات الجدوى رفاهية لا تملكها مصر، وليس لها ضرورة ولن تؤدي إلا إلى التأخر في تنفيذ المشاريع؟! قد يرى البعض أنه من الطبيعي أن تغيب المحاسبة على صندوق معالجة مشاكل 2060 إن كانت وعود الشهور الستة التي طالب فيها الرئيس بالوقوف بجوار مصر حتى تتجاوز المشكلات، أو وعود الرخاء الذي سوف تحققه قناة السويس الجديدة، بكل ما استقطعته من أموال، لم تتحقق ولم يحاسب عليها أحد، وتم تقديمها بأنها إنجازات تتطلب الاستمرار في المكان من أجل ضمان المزيد منها.
بعيدا عن تلك الوعود التي تحمل مغالطات واضحة في عالم السياسة، ويتم تعليبها باسم الحرص على الأجيال القادمة، التي يرجح أن تستمر في تحمل معاناة الديون الحاضرة وفوائدها في المستقبل، أضيف خطاب آخر يحمل مغالطات رائجة، لدرجة أن البعض تعامل معه بوصفه حديث المكاشفة والمصارحة، بدون أن يقدم منطقا حقيقيا يمكن الأخذ به. يتعلق الحديث المقصود بأسطورة أن الدولة يمكن أن تقوم بمشروعات ما بدون أن تتحمل التكلفة، أو أن التكلفة الخاصة بمشروعات ما تعيش في فراغ ولا تحمل المواطن أو خزينة الدولة بتكاليف ما، وهو الأمر الذي يفترض معه – وفقا لتلك الرؤية – أن صاحب السلطة مطلق الحق في أن يفعل ما يشاء ويختار المشروعات التي يريد ويرفض المحاسبة، وكأنها أملاك شخصية، رغم أن الأملاك الشخصية أيضا تخضع لاعتبارات، ويصعب أن تروج معها مقولة أنها لم تكلف الدولة أو الأسرة أو الفرد.
القروض التي يحتفل النظام بالحصول عليها، ما هي إلا قيود في الحاضر والمستقبل يدفع الوطن والمواطن ثمنها
المبدأ الأول هو نفقة الفرصة البديلة، أو ما كان يمكن القيام به من خلال استخدام الموارد نفسها في مشروعات بديلة، وبالتالى بدلا من العاصمة الجديدة أو أكبر مسجد وكنيسة وأطول برج، أو قناة السويس الجديدة ومؤتمرات الشباب والرحلات للخارج والمناسبات في الداخل، وغيرها من بنود الإنفاق التي تفرض نفسها، يظل السؤال مطروحا عما كان يمكن أن تقوم به الدولة من مشاريع باستخدام الموارد نفسها، وكيف كان يمكن لمشاريع منتجة أن توفر فرص عمل، أو تنقذ شركات وصناعات، وتحسن الأوضاع المعيشية والخدمات الأساسية، وتنقذ أرواحا وتقلل معاناة بدلا من حديث وضع أموال إصلاح السكك الحديد في البنك، أو أن قناة السويس الجديدة مجرد ترس في الروح المعنوية.
من جانب آخر، يظل أن تلك الموارد تأتي من مصادر ما، سواء أكانت مصادر مباشرة عبر مصادر الدخل أو أموال الشعب، التي تجمع من الضرائب أو المشاركة في المشروعات، كما حدث في قناة السويس مثلا، أو عبر الديون والقروض بكل صورها وفوائدها، أو التبرعات بكل ما ترتبه من مواقف وحسابات سياسية واقتصادية في الداخل والخارج، أو أصول يتم بيعها أو تأجيرها أو التنازل عنها.. في النهاية هناك مصدر للأموال التي يتم إنفاقها على تلك المشاريع، لا يقدمه المسؤول من ماله الشخصي، حتى يطالب بعدم المحاسبة، ويرفض ومن حوله محاسبة تلك الخيارات ورشادة اتخاذ قرار تخصيص الموارد في مشروع ما من عدمه، لأن تلك الموارد في النهاية، بكل ما تحمله من فرص وأعباء، مرتبطة بالدولة المصرية والمواطن. كذلك فإن القروض التي يحتفل النظام بالحصول عليها، ما هي إلا قيود في الحاضر والمستقبل يدفع الوطن والمواطن ثمنها، وما الأراضي والشركات التي تباع وتلك التي تتم تصفيتها، إلا موارد فقدتها الدولة مقابل مشاريع غير ضرورية على الأقل في اللحظة، أو مؤتمرات ولقاءات يقصد منها ترويج مكانة واكتساب شرعية للشخص وسياساته في أعين الغرب، لا تقارن بالثمن الذي يدفعه الوطن، تماما كما تم تقديم قمة شرم الشيخ بين الدول العربية والاتحاد الأوروبي، وكما يتم تقديم الدعوة الفرنسية التي وجهت للرئيس للمشاركة في قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى.
يخرج حديث متشابه حول الرسائل التي حملها خطاب الرئيس، وكيف أنها كانت رسائل تاريخية وحضارية وحددت أن الدولة لا تتكلف في المشاريع التي تقام، وبغض النظر عن تشابه التعليقات إلى درجة التطابق، تبدو كلمات جورج أورويل حاضرة، وهو يؤكد على أن «لغة السياسة تم تصميمها لتجعل الكذب يبدو صادقا والقتل محترما»، ومعها إعادة الحديث عن أحداث محمد محمود في نوفمبر 2011 بكل ما طرحه حديث الرئيس من تساؤلات وما واجهه من انتقادات. كان السؤال حاضرا حول التوقيت والسبب، والانتقاد من قبيل تناقض القراءة التي قدمت للأحداث مع الوقائع، بما دفع البعض إلى العودة للأحداث، ومشاركة أخبار من مصادر قريبة من النظام، ولسان الحال أننا أمام لحظة تتم فيها إعادة كتابة التاريخ القريب، واستمرار إلقاء الوقائع تدريجيا إلى قبور الذاكرة، استنادا إلى محاولة السيطرة على المساحات المتاحة وترسيخ صورة الإعلام المتماهي مع الحاكم ورؤيته وخطابه، سواء في ما يتعلق بالمشكلات أو الحلول والإنجازات.
تبدو للوهلة الأولى أن هنالك أشكالية في حقيقة أن اللحظة تختلف عن إعلام الستينيات، وربما عالم أورويل المفترض في رائعة «1984» وهي كيف يمكن أن يتم إلقاء الحقائق إلى مقابر الذاكرة في عصر الصور والفيديوهات التي توثق ما حدث، والأحداث القريبة التي يتواجد من عاصرها وشارك فيها، بافتراض أن الشخص لم يشارك فيها بشكل مباشر؟ تكتشف أن القضية جزء من حديث معركة الوعي ولجنة الأخلاق والطالب العسكري الذي يقبل ما يقدم له بدون مناقشة، والثورة الخطأ، والحاكم الذي يملك الحقيقة المطلقة ويعرف الخيارات السليمة لمصر والعالم، التي تقدم بوصفها سلة واحدة غير قابلة للفصل والانتقاء. وبعيدا عن حديث الرسائل التاريخية، تظل الرسالة الأساسية ممتدة من لقاء أكتوبر 2018، الذي أكد فيه الرئيس أن «ثورة يناير علاج خاطئ لتشخيص خاطئ»، وأنه لا يحمل عصا لحل المشكلات، إلى مارس 2019 وحديث أنه لم يقدم وعودا بالسمن والعسل، بالمخالفة لروح أحاديثه السابقة عن مصر التي سوف نراها، والعجب الذي سوف يتحقق. يقدم خطاب تغيير التاريخ وتبرئة المتهم وسيلة من أجل إلقاء ثورة يناير إلى مقابر الذاكرة مرة واحدة وللأبد، في ظل ثورات مازالت مشتعلة في السودان والجزائر، ومعارضة مازالت قائمة في الداخل، وسط خطوات تعديل الدستور وتحديث التفويض بكل ما يمثله من ترسيخ للمسار القائم والخيارات المعلنة والمعاناة الممتدة.
تؤكد الوقائع أن خطاب الإنجازات الممتدة يتطلب دفن ثورة يناير وما تحمله من شعارات وأهداف وآليات في مقبرة خاصة، من أجل عقود ممتدة من الحكم المستمر والمستقر، حيث الإشادة المستمرة بالكتلة الصلبة وحزام الصبر وتحمل الكوارث والمواطن الصالح الذي لا يعترض ولا يغضب.
كاتبة مصرية