وجدت نفسي في أحد أيام عام 2014 أتبادل الحديث مع مجموعة من العراقيين في العاصمة اليمنية صنعاء، وكان منهم أساتذة يعملون في الجامعات اليمنية آنذاك. وتطورت المواضيع في حديثنا الودي، حتى وصل الأمر إلى موضوع الضابط عبدالكريم قاسم، الذي قاد الانقلاب الدموي عام 1958 مطيحا بالنظام الملكي في العراق، بعد أن قتل العائلة المالكة برمتها ورئيس الوزراء الشهير نوري السعيد، وامتاز عهده بالقمع والإعدامات والإبادات الجماعية. ولكن محاولة اغتياله الشهيرة في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1959، التي نجا منها بأعجوبة كانت بحق مثيرة للدهشة. وهنا قال أحد الحاضرين إنه في صدد نشر كتاب عن عبدالكريم قاسم. وبادرني هذا، وكان كبيرا في السن ويعمل أستاذا في الكلية الطبية التابعة لجامعة صنعاء، بسؤال «هل تعـــرف كيف نجا عبدالكريم قاسم من محاولة اغتياله أثناء مرور سيارته في شارع الرشيد في بغداد؟ ولم أستطع أن أجد له جوابا، ولكنني اعترفت بأنني كنت مندهشا لنجاته، فنظرة واحدة على صورة سيارته تلك المليئة بثقوب الرصاص كانت كفيلة بالاعتقاد أنه ميت لا محالة. ونظر إليّ الدكتور في استعلاء وكأنني إنسان جاهل وعديم المعرفة وقال «إنه الملاك»، فأجبت باستغراب واضح «ملاك؟».
وواصل الرجل كلامه قائلا «بعد فرار منفذي محاولة الاغتيال فتح الجمهور باب السيارة وشاهدوا في داخلها رجلا أبيض اللون والشعر ومرتديا معطفا أبيض وهو يحتضن عبدالكريم قاسم، مغطيا أياه تماما، وبهذا الشكل حماه من وابل الرصاص الموجه إليه، فقد كان ذلك الرجل ملاكا مرسلا». وقاومت رغبتي بالضحك خشية شعور محدثي بالإهانة لأنني لم أصدق ما سمعته، ولم أعرف ما إذا كان يمزح معي، أم أنه كان فعلا مؤمنا بهذا الهراء؟ فسألته إذا كانت الملائكة قد حمته من عملية الاغتيال عام 1959، فلماذا لم تحمه يوم الانقلاب الذي أطاح به عام 1963، حيث تم إعدامه بكل بساطة. وهنا تغير التعبير على وجه الدكتور العجوز من الاستعلاء إلى الغضب واعتبر سؤالي إهانة كبيرة له، واكتشفت أنه كان فعلا مؤمنا بهذا الهراء، وهو الأستاذ الجامعي في مجال علمي مهم. ولم أعرف أنني على ما يبدو ارتكبت خطيئة كبرى بالشك في الخرافة، التي تفوه بها. وقاطعني تماما بعد ذلك حيث لم يكلمني مرة أخرى. ومن الغريب في الأمر أنني اكتشفت أن بعض العراقيين في الوقت الحاضر يعتقدون فعلا أن عبد الكريم قاسم لا يزال على قيد الحياة، وأنه يتجول في شوارع بغداد متنكرا، بل يقسم بعضهم أنهم شاهدوه، على الرغم من أنه لو كان لا يزال بيننا فإنه سيكون في سن المئة وخمس سنوات، حيث أنه من مواليد 1914. وعلى ما يبدو أن مظهره لم يتغير بعد كل هذه السنين، لأن الذين يدعون رؤيتهم له يؤكدون أنه كما كان قبيل مقتله. ومع ذلك فلن أشعر بالاستغراب إن استمر الاعتقاد بعدم مقتل عبدالكريم قاسم، وتجوله في شوارع بغداد لعدة قرون في المستقبل.
استغل الكتاب وشركات السينما أسطورة «الملك آرثر» بشكل منقطع النظير، حيث نُشِرَ تسعة وخمسون كتابا وأنتج ستة وسبعون فيلما عنه.
وتعيد هذه القصة الذاكرة حول قصص شبيهة من بلدان أخرى وعصور مختلفة مثل روما القديمة، فعندما قُتِل الإمبراطور الروماني نيرون عام 68 وهو في سن الـ31 كان لديه بعض الشعبية في أوساط المجتمع الروماني، ولذلك رفض هؤلاء الاعتراف بموته، وأشاعوا أنه لم يمت، بل رحل إلى مكان مجهول وأنه سيعود إلى روما ليتولى زمام الأمور ويستعيد امبراطوريته. ولا يقتصر هذا الاعتقاد على العصور القديمة، حيث أثبتت العصور الحديثة أن قابليتها على صناعة الخرافات واستعداد الكثيرين لتصديقها، أكبر من تلك القديمة بمراحل، ونجد أمثلة كثيرة، ففي بريطانيا نجد حكاية «اللورد كتشنر» الشهير الذي كان وزير دفاع بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى وأحد أشهر القادة العسكريين في تاريخها، وأكثرهم شعبية على الإطلاق. وكان اللورد كتشنر أثناء تلك الحرب في طريقه بحرا إلى روسيا، عندما صدمت سفينته لغما بحريا ألمانيا، ما أدى إلى غرقها ووفاة اللورد كتشنر يوم الخامس من يونيو/حزيران عام 1916. وكانت وفاته صدمة في أوساط الشعب البريطاني بسبب حبهم له، ولذلك اعتقد بعض البريطانيين أن اللورد كتشنر لم يمت، وأنه سيعود يوما ما لإنقاذ بريطانيا في حالة تعرضها للخطر. ولم تكن هذه الأسطورة الأولى أو الأبرز من هذا النوع في بريطانيا، فقد سبقتها أسطورة «الملك آرثر» الذي من المفروض أنه ظهر في أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس، واشتهر بمقاومته للقبائل الأنكلو- سكسونية التي أخذت تغزو إنكلترا بعد أن غادرها الرومان. وحسب الأسطورة، فإن «الملك آرثر» لم يمت، بل لا يزال موجودا في مكان ما وسيعود لمقاومة أي جهة تهاجم بريطانيا. وتعتبر أسطورة «الملك آرثر» الأشهر في تاريخ بريطانيا الحديث، فهي مثال الرومانسية والوطنية ومادة دسمة للكتب والأفلام السينمائية. ومن الواضح أن دمج بعض اللمسات من المشاعر الوطنية والرومانسية والدراما (مهما كانت غير معقولة) تجعل الناس أكثر تقبلا للأسطورة. وينسى المعجبون بهذه الأسطورة أن «الملك آرثر» كان يقاتل القبائل التي جلبت معها لغة أصبحت لاحقا اللغة الإنكليزية واسم England (إنكلترا) وأسكوتلندا وويلز مأخوذ من تلك القبائل. وإذا كانت اللغة الإنكليزية قد دخلت مع الغزاة الأنكلوـ ساكسون، فإنها اللغة التي قرر الملك البريطاني جيمس الأول فرضها كلغة رسمية في بريطانيا، لتعزيز استقلال بريطانيا الثقافي عن منافستها الرئيسية فرنسا، حيث كانت اللغة الفرنسية هي لغة البلاط والمحاكم البريطانية قبل ذلك. ولم يكن «الملك آرثر» الشهير الوحيد في هذه الأسطورة، حيث اشتهر مساعدوه الذين كانوا يجتمعون معه حول المائدة المستديرة التي على ما يبدو كانت كبيرة بشكل غير عادي، حيث كان عدد الفرسان مئة وخمسين فارسا. واشتهرت شخصيات أخرى في هذه القصة مثل زوجة آرثر وابنه وساحر كان يعمل لديه، بالإضافة إلى الفارس الرئيسي لآرثر الذي أقام علاقة عاطفية مع زوجة آرثر! ولكن الشهرة لم تقتصر على الأشخاص في هذه الأسطورة، حيث هناك أيضا سيف «الملك آرثر» الخارق الذي يعمي الأعداء في المعركة ويشفي غمده جراح حامله فور حدوثها، ولذلك فإن «الملك آرثر» حسب الأسطورة كان من المستحيل أن يُقتَل في المعارك. وحسب الأسطورة أن هذا السيف الخارق كان مثبتا في صخرة، ولم يكن أحد قادرا على سحبه من تلك الصخرة إلا من كان ملكا حقيقيا. ولذلك كان «الملك آرثر» الشخص الوحيد الذي نجح في انتزاعه من مكانه، أما قصة نهاية هذا السيف الدراماتيكية، فهناك عدة نسخ تختلف عن بعضها بعضا.
يجمع المؤرخون على أن شخصية «الملك آرثر» من أصول خيالية، ولعلها ظهرت لأول مرة في إنكلترا أو ويلز في القرن التاسع على الأرجح مع بعض التأثير الفرنسي، حيث أخذت تتطور وتضاف إليها تفاصيل حسب خواص كل عصر، ففي القرن الثاني عشر أضيفت إليها تفاصيل دينية، وكذلك الفارس الشهير لانسلوت. واستمرت في التطور حتى القرن التاسع عشر عندما أخذت الأسطورة منحى جديدا حيث ازدادت القصص المقتبسة منها بشكل كبير، كما تحول «الملك آرثر» إلى تجسيد للصفات الأرستقراطية البريطانية، ورمزا للثقافة البريطانية. أما في القرن العشرين، فقد تزايدت شعبية هذه الشخصية أكثر، حيث تحولت إلى رمز لمقاومة بريطانيا للغزاة، وأُطلِقَ اسم «الملك آرثر» على العديد من البنايات والأمكنة.
استغل الكتاب وشركات السينما أسطورة «الملك آرثر» بشكل منقطع النظير، حيث نُشِرَ تسعة وخمسون كتابا وأنتج ستة وسبعون فيلما عنه. وكان أشهر من مثل الشخصية الممثل الأسكوتلندي شون كونري والممثل الإنكليزي كلايف أوين، ولكن الأفضل ربما كان من إنتاج عام 1949 وتمثيل المغني الأمريكي بنغ كروسبي. وعرضت كذلك حتى الآن ثماني مسرحيات وأحد عشر عرضا للأوبرا عن هذه الشخصية.
٭ باحث ومؤرخ من العراق
“ومع ذلك فلن أشعر بالاستغراب إن استمر الاعتقاد بعدم مقتل عبدالكريم قاسم، وتجوله في شوارع بغداد لعدة قرون في المستقبل.” إهـ
ألا تشبه هذه القصة مهدي السرداب؟ يقال بأنه حي منذ عدة قرون!! ولا حول ولا قوة الا بالله
أنا عشت تلك الحقبة الذهبية من زمن الزعيم. الرجل كان زاهدا في دنياه وعندما قتل لم يكن في جيبه سوى اقل من دينار واحد ولم يكن له منزل بل ولم يأويه قبر فقد رميت جثته في نهر دجلة. اللهم ارحم الشهيد قاسم
تحية طيبة د. ياسين..قد انصفت الشهيد. سبحان الله!! لعلنا شعب لا
يستحق امثال هذا الرجل؟
أول من فتح باب سيارة الزعيم هو الصحفي العراقي مأمون يوسف وكان شيوعيا حينها وقال للزعيم “سووها البعثية؟” وفي مدرستي الابتدائية كان بعض الطلبة من فقراء قنبر علي في بغداد يقولون ان عبد الكريم انتقل الى القمر واذا نظرت الى السماء في ليلة مقمرة فسوف تشاهد صورته عليه!
سمعت منذ سنوات طويلة مضت من العراقيين بأن الرئيس عبد الكربم قاسم كأن رئيس جيد.كيف هو رئيس جيد اذا كان بعد الانقلاب الدموي الذي قام به وقتل العائلة المالكة برمتها و ورئيس الوزراء نوري السعيد؟و فيما بعد تم إعدامه هو أيضأ. في اعتقادي انا لا يوجد سياسي جيد.
رغم كثرة الخرافات في الاديان ولكن الناس مصدقين لها فلا عجب بذلك والتعليم العالي او الشهادة الجامعية لا تغير شيئا من طلايقة التفكير لدى الانسان
عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف الذين جلبوا الدمار للعراق واسسو للحكم الدكتاتوري الدموي والتي مهدت الطريق لحكم ابن صبحة. فدماء العائلة المالكة والملك الشاب في رقابهما وكذلك مجازر الموصل وكركوك
عزيزي الكاتب اذا كنت تعتبر هذه القصص هراء لماذا كل هذا السرد الذي ليس له فائدة سوى اضاعة وقت القارئ و المتابع؟؟
في اميركا هناك من يعتقد لحد هذه اللحظة بعودة المغني الشهير الفيس بريستلي إلى الظهور والحياة بالرغم من مرور عقود طويلة على مقتله،،،، الشهادات والعلوم المكتسبة لم ولن تغير العقائد !!
عبد الكريم قاسم لم يكن دمويا اطلاقا كان رجلا شعبيا بسيطا احب الفقراء فاحبوه ولم يقم هو بقتل الاسرة المالكة ولكن الضباط الثائرين لم يسيطر عليهم هم من فعلوا تلك الفعلة المشينه بحق العائلة المالكة ..والى اليوم اجيال لم ترى عبدالكريم لكنها تحبه لان منجزاته مازالت بيننا ولم ياتي بعده من هو احسن منه …له الرحمة في جنات الخلد
مقال مفيد و شيق