مهجر جديدة
إلى جانب تعبيرات دالة وكاشفة عن سياقها النفسي والتاريخي، مثل «أدب الاغتراب» و«أدب المنفى»، يبقى تعبير «أدب المهجر» أوسع دلالة وتجسيداً لمحتواه الثقافي أكثر من غيره؛ فهو يتسع لأدب المنفى ويغتني به في الوقت نفسه، ويشتمل على معاني الغربة والنفي والحنين إلى الوطن والاغتراب بالمعني الوجودي، وهي المعاني التي ظلت ملازمة له، والموتيفات التي وسمته وأرخت عليه أبعادا وتأويلات متنوعة. بيد أن هذا الأدب يعكس في الصميم محتوى «الفضاء الثالث» الذي أثر في الحساسيات الجديدة ورؤى الكتابة العابرة للحدود، قياساً إلى الظروف الراهنة التي خلخلت مفاهيم الذات والآخر في علاقتها المتوترة بمشكلات الهوية والذاكرة والمرجع، طالما أن أدباء المهجر ينحدرون من ثقافات وأوطان أصلية. في كتابه «تمثيلات المثقف»، يرى إدوارد سعيد أن دلالة المنفى في الحاضر تحولت من تجربة شخصية إلى تجربة جماعية أصابت شعوباً وأعراقا بكاملها، تعرضت للاقتلاع والتشريد والنفي القسري؛ كما هو حال الفلسطينيين والأرمن، وأخذت تبتعد، طوعاً أو كرهاً، عن أوطانها الأصلية، وتتخلى عن لغتها الأم وثقافاتها الأصلية لتصبح جزءاً من المجتمعات والثقافات الجديدة التي هاجرت إليها، مثل الأفارقة والمغاربيين في فرنسا، والهنود والباكستانيين في بريطانيا. وقد أنتج هؤلاء آداباً مُهجنة، فيما هم يتخذون من الفرنسية أو الإنكليزية -على سبيل التمثيل- لغةً أقدر على التعبير عن حاجيات الذات الجديدة وتشظياتها في الوعي والكينونة والهوية.
وإذا كان مصطلح «أدب المهجر» متداولا في كتب التاريخ الثقافي والأدبي، إلا أنه اليوم اصطبغ بالوعي المركب، الذي غير في مدلول المهجر نفسه، داخل سياقٍ مُعَوْلم تأثرت به طريقتنا في التفكير والتأويل. فالمهجر لم يعد مهجرا بالمعنى القديم، ولا هو ذلك المكان الذي تقل احتمالات عودة من يذهب إليه، مثلما لم يعد الأديب المهجري يعيش بمنأى عن مجريات الأحداث في بلده الأم. وهو ما يدفع بقوة مفهوم «الحضور الغياب» كما طرحه هايدغر وليفيناس ودريدا، إلى حقل الدراسات الأدبية المقارنة؛ بحيث إن الإنسان والكلمات والأشياء تحضر في الغياب، وتغيب في الحضور. ويقترح جورج شتاينر أطروحة ثاقبة مفادها، أن أدب المهجر يمثل جنسا قائما بذاته بين الأجناس الأدبية في القرن العشرين، عصر اللاجئين، وهو أدب كتبه المنفيون، وعن المنفيين. يقول: يبدو صحيحا أن أولئك الذين يبدعون الفن في حضارة شبه بربرية جعلت الكثيرين بلا وطن، لا بد أن يكونوا هم أنفسهم شعراء مُشردين ومترحلين عبر حدود اللغة، شذاذا متحفظين نوستالجيين في غير أوانهم عمدا»، ولهذا، صار السؤال المتعلق بأدب المهجر يطرح نفسه بقوة وضمن تأويلات حادة ومركبة، وصار دارسوه يتحدثون عما يسمى بـ«المهجرية الجديدة» في الأدب العربي، بعد أن هاجر الكثير من الأدباء والكتاب بلادهم إلى دول وفضاءات وعوالم جديدة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، بسبب عوامل سياسية واجتماعية ضاغطة (الديكتاتورية، الحروب، غياب الحرية، التهديد بالقتل، البحث عن فرص العمل..).
وقد تأثر هؤلاء الأدباء بالثقافة والمحيط الاجتماعي الجديدين ما وسم كتاباتهم الشعرية والنثرية في مجملها بسماتٍ خاصة وجديرة بالانتباه. لكن صيغة السؤال تبدو مختلفة هذه المرة؛ فالبحث عن سمات وخصائص داخل نصوص هؤلاء المهاجرين الجدد، قد لا يتأتى بالقدر نفسه من السهولة والوضوح التي استطاع بها دارسو الأدب تحديد سمات أدب المهجر الذي نشأ في بدايات القرن العشرين. لقد تغير «أدب المهجر» العربي، وتجددت ظاهرة المهجرية بصورة لافتة، وتعددت المهاجر، بدايةً من الربع الأخير من القرن العشرين وإلى اليوم، وقد ترتب عن هذه الأوضاع المستجدة ما نلمسه من ثراءٍ نوعي وكمي في الحالات والمآلات التي استقرت عليها وضعية المهجر الجديدة، وهي تتدرج من سكون اللحظة وحيادها إلى المأساوية المكثفة، مرورا بأشكالٍ من التغرب ونبرة الاحتجاج والإحساس اللوذعي بسؤال الوجود والكينونة، لم يكن يعرفها ويرقى إليها وعي رعيل المهجريين الأوائل. وفي خضم ذلك، انخرط المئات من الأدباء في الكتابة باللغة العربية، أو باللغات الأجنبية (الفرنسية، الإنكليزية، الألمانية، الهولندية، الإسبانية وسواها)، وقد امتزجت في كتاباتهم هموم أوطانهم بالواقع الذي يحيونه في الدول المضيفة، وتوحي تجاربهم في الغربة بذكريات طفولتهم ونشأتهم الأولى على نحو ما يُشكل هويات فنهم وتصورهم للمتخيل المهجري العابر للحدود.
انشطار الهوية
من جملة الآداب التي طبعتها ظاهرة المهجرية الجديدة بقوة، هناك الأدب المغربي المكتوب بالعربية، أو بغيرها من اللغات الأجنبية، بالنظر إلى الموقع الجغرافي الاستثنائي للمغرب، فقد كانت الهجرة بالنسبة لأبنائه أفقا للترحال والكتابة، والمغامرة كذلك، ولم يعدم الأدب المغربي، من عصر إلى عصر، مهجرييه من الشعراء والكتاب والرحالة والمغامرين. وكان هؤلاء يهاجرون، في بداية الأمر، إلى المشرق لأسبابٍ ترتبط بالعصر نفسه، منها الحج أو الرحلة والاستكشاف، أو العمل المهني والسياسي ومتابعة الدراسة. ابتداءً من ابن بطوطة المهاجر الأكبر إلى حفدته السنادبة ممن عاشوا أجواء الحياة الثقافية في تلك البلاد لفترةٍ، وتأثروا بها، وقد كتب معظمهم عنها في رواياتٍ وسير ومذكرات وشهادات (عبد الكريم غلاب، محمد برادة، رشيد يحياوي، محمد أنقار، محمد لفتح..). ولم يعرف أدباء المغرب خلال مغتربات مهجرهم الأدبي إلا في بحر السبعينيات من القرن المنصرم، ولاسيما أولئك الذين هاجروا أو نفوا إلى فرنسا، بعد أن تعلموا لغتها في المغرب زمن الحماية، فاحتضنهم الوسط الثقافي هناك. ولعل أشهر هؤلاء هم: إدريس الشرايبي، محمد خير الدين، الطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي. ومعظمهم كان يكتب في سياق تاريخي وسياسي وسوسيوثقافي ضاغط كانت ترهنه، باستمرار، العلاقة الاستعمارية بين فرنسا والمغرب، أو بين إسبانيا والمغرب. وإذا كان هذا الرعيل الأول من كتاب المهجر المغاربة يعاني من تلك العلاقة المتوترة مع لغة الآخر المُسْتعمِر، مُتحوطًا من أن تستدرجه إلى مواقعه الفكرية والسياسية، فإن هناك جيلا جديدا هاجر إلى تلك البلاد، أو نشأ في فضاءاتها، أو ولد فيها، بدا يكتب مُتحررا من عقدة المستعمر الأجنبي، وأصبحت اللغة الثانية بالنسبة إليه أداةً تعبيريةَ للبوح وارتياد الحرية. وقد خلق هذا الجيل المتكون من حساسيات ورؤى متعارضة بين الشعر والسرد (ليلى السليماني، نصر الدين بوشقيف، محمد حمودان، ماحي بنبين، محمد العمراوي، سهام بوهلال، عبد الله الطايع، سليم الجاي وغيرهم)، حراكا حقيقيا ومتناميا في أوساط المهاجرين. وفي فرنسا كذلك، هناك من المهجريين من جاء إليها بعدما درس في أرض الوطن وناضل داخله، وقلبه مشغوفٌ بالعربية يكتب بها ويبدع فيها (محمد المزديوي، عبد الله كرمون، محمد ميلود غرافي، المعطي قبال، فريدة العاطفي، حنان درقاوي، جمال بدومة، عبد الإله الصالحي، إحساين بنزبير، جمال خيري، غادة الأغزاوي، هشام ناجح وغيرهم). وقد تعددت اليوم المهاجر المغربية في أوروبا (إسبانيا، بلجيكا، إيطاليا، ألمانيا، هولندا، إنكلترا، النرويج..)، وخارجها في كندا والولايات المتحدة الأمريكية، وفي بعض البلاد العربية (قطر، الإمارات..)، وبات هناك العشرات من الكتاب والشعراء الذين يكتبون باللغة العربية، أو بلغة الدول المضيفة (الإسبانية، الهولندية، الألمانية، الإنكليزية، الإيطالية وبعض اللغات الإسكندنافية)، أو بهما معاً. وإذن، فإننا ـ بحق- أمام ظاهرة جديدة على الأدب المغربي؛ ظاهرة المهجرية، فيما هي تبرز لنا ذلك التحول الحاسم الذي طاول مسألة الهجرة والوعي بها، وعلاقتها المتوترة بالكتابة، بالقياس إلى ما كان متداولا قبل عقدين أو ثلاثة عقود. وتسمح لنا هذه الوضعية المعقدة من تاريخ المهجرية المغربية في الأدب والفن معا، بإبداء هذه الملاحظات:
تكشف الوضعية حقيقة الانتماء الصعب والمركب إلى عالمين متناقضين، وثقافتين بينهما عناصر توتر. وإذا كان ذلك يشكل مصدر ثراء واختلاف بالنسبة للأدباء الشباب من الجيلين الثاني والثالث، إلا أنها ـ في النتيجة- تطبع كتاباتهم بروح التساؤل والحيرة واللايقين والقلق، إزاء موضوعات اللغة والذات والمكان.
أغلب المهجريين الجدد، يجهلون العربية، ويكتبون بلغات الدول التي ولدوا فيها ونشأوا فيها، ولم يعرفوا المغرب بلدهم الأصلي إلا عبر البطاقات البريدية، أو من خلال العطل والزيارات العائلية، وأحيانا يتحدثون عن المغرب ككُتاب أجانب، وهو ما يقوي الشعور الحاد لديهم بالمنفى وانشطار الهوية.
ومن هؤلاء من لهم صيتٌ في بلاد المهجر (ليلى السليماني، مصطفى فهمي، فؤاد العروي، ليلى العلمي، عبد القادر بنعلي، نجاة الهاشمي..)، واختيروا باعتبارهم أبرز الكُتاب في بلدان المهجر التي يعيشون بها، وبلغت مبيعات كتبهم نسبة محترمة، وحظوا بجوائز أدبية معروفة، كأنهم يحيون «أدب إقامة» وليس «أدب مهجر». لكن أعمالهم لم تترجم إلى العربية وليس لها صدى في بلدهم الأصلي المغرب، ولهذا يبدو عمل الترجمة ضرورياً حتى يتعرف أبناء جلدتهم على هموم هذا الجيل وعناوين انشغالاتهم الثقافية والجمالية.
في المقابل، هناك قطاعٌ آخر من أدباء المهجر من غادروا البلاد في سياقات مختلفة، ووجدوا أنفسهم موزعين بين «المنافي» في أوروبا وأمريكا الشمالية حيث يعيشون حياة جديدة، لكنهم يحرصون على الكتابة بالعربية، وبالتالي يبدون أكثر من سابقيهم اندماجا في الحراك الثقافي المغربي على مستوى النصوص والأعمال التي ينشرونها في المغرب، وتتداول بين النقاد والقراء، أو من خلال الحضور الثقافي (ندوات، مشروعات ثقافية، مجلات، مواقع إلكترونية، حوارات صحافية..).
تفجر الكتابة النسوية كأنها جواب بليغ ومكبوت تاريخيا على نظرة دونية ناجمة عن البنية الذهنية للمجتمع الذي عاشوا فيه، أو انحدروا منه، وكان يرى إلى أدب المرأة بوصفه ضعيفاً وقليل القيمة لا يُضاهي أدب الرجال؛ ومن ثمة، لم يتوانَ صوت النسوة عن إطلاق العنان لخيالهن البكر والمهمل في تلك المناطق «المكبوتة» والقوى الكامنة و»الهذيان الداخلي» لأنا الكتابة، بما تنغلق عليه من إيحاءٍ بالبساطة والغموض والهشاشة وتوْقٍ إلى الحياة والفن. وقد أفاد هذا الصوت المختلف في تحديث متخيل الأدب وتنويع أشجار نسبه الرمزي.
شعر مهجري
هاجر عشرات الشعراء من الشباب من بلدهم إلى فضاءات ثقافية جديدة، ورأى غيرهم النور وسط جالية مغربية كبيرة، وما ترتب عليه من تأثرهم بالثقافة والمحيط الاجتماعي الجديدين، على نحو طبع كتاباتهم الشعرية في مجملها بسمات نوعية، ومثلت في حد ذاتها قيمة مضافة. ومن جملة الإشكالات التي على دارسي شعرنا المعاصر أن يتصدوا لها: عن أي مُتخيل شعري وطني يجب أن نهندسه بصدد شعراء مغاربة يكتبون في المهجر، مُوزعين بين ثقافتين وضفتين؟ وهل بإمكاننا اليوم أن نتحدث عن جيل المهجريين في الشعر المغربي، ولاسيما بلغاته الوطنية (العربية، الأمازيغية، العامية)؟ ومن ثمة، ألا تكون الجغرافيا هي المقياس في التنظير والتحليل بدلاً من التاريخ، والمهجر المكاني بدلاً من التحقيب الزمني؟
وإذا كان المهجريون قد جمع بينهم قدر المنفى والاغتراب، إلا أنه يظهر أن قصيدة النثر تمثل قدر كتابتهم الأنطولوجي، فيما هم لا يكتبونها بسويةٍ واحدةٍ، استناداً إلى مصادرهم في الكتابة والمرجعيات الفكرية والجمالية التي يمتحون منها، وإلى نوع التمايزات الطباقية، التي يختطونها في بناء صور الذات وحضورها في اللغة والمتخيل، ثم إلى الموقف الذي يتخذه كل شاعر من ذاته ومن الآخر، وكذلك من الشعر نفسه، ومن مشاهد الحضارة المادية المعاصرة التي لم يكفوا عن نقدها والسخرية من مخترعاتها التي تعمل على تسليع الجوهر الإنساني.
وفي كل الأحوال، يشكل الكتاب المغاربة المنتشرون في بقاع كثيرة من المعمورة قيمة مضافة لأدبهم الوطني الأصلي، وهم يُدْخلون «رَعْشاتٍ» جديدة في أنساغه وأساليب رؤيته وتعاطيه مع أسئلة العالم ولغاته، منخرطين ـ بالتالي- في إعادة صوغ الهوية الفردية والجماعية للمغاربة، والموسومة بتعددها وانفتاحها وترحالها؛ كأنما «الهجرة حق مقدس» بتعبير جيل دولوز.
كاتب مغربي