افتتاني بالثقافة الفرنسية ليس جديدا، فقد كنت وما أزال أتابع الجديد المقبل من باريس على مستوى الثقافة والفن والموضة خاصة. ولعلي محظوظة بوجود أصدقاء يتقنون هذه اللغة في محيطي، فإن فاتني شيء قاموا بتغذيتي به، وهم العارفون بما أهوى..
من هذا الباب اقتُرِح عليّ كتاب «مهنة القراءة» لبرنار بيفو، الصادر عن منشورات تكوين ـ الكويت ترجمة المغربي سعيد بوكرامي. الكتاب إبحار حقيقي نحو عالم الكتب الذي لم يعد مجرد فضاء للإمتاع، بل تجاوزه ليصبح مهنة لمن اجتهدوا للتأسيس لثقافة متينة في الأمم المتحضرة. فالكتاب كما قال بيفو هو كل ما يتبقى لك حين تفقد القدرة على الذهاب للمسرح أو للسينما أو المطاعم للقاء الأصدقاء والمعارف. وهذا الكلام لا ينطبق فقط على كبار السن في عواصم العالم، التي تعج بوسائل الترفيه والفضاءات الثقافية الاجتماعية، بل ينطبق أيضا على الفضاءات الجرداء، التي لا يملك فيها الفرد غير هاتف ذكي وشبكة إنترنت، تحمله في لمح البصر إلى مدن البهجة الافتراضية، التي قد تكون لعنة عليه، كما قد تكون جنته الحقيقية، التي يجد فيها كل الأشياء التي حرم منها، بدون أن يتلف عقله بالوهم.
مهنة القراءة كتاب عمره 31 سنة، صدر أول مرة عن دار غاليمار الفرنسية، وهو حوار مطوّل بين بيار نورا مع بيفو الإعلامي والكاتب، ومقدم أشهر البرامج الأدبية على القنوات الفرنسية، مكوّنا جمهورا مليونيا ليس فقط في فرنسا، بل في كل العالم الفرنكفوني الذي ظلّ وفيا لموعده الأسبوعي على مدى سنوات.
لم تكن بداية بيفو سهلة، فقد درس الحقوق، ولم تكن المادة التي تستهويه في الحقيقة، جذبه الإعلام، فانقاد إليه لكن صدامات كالتي تحدث دائما بين جيلين مختلفين في الرؤى، غادر جريدة «لوفيغارو» وأقدم على مغامرة تأسيس مجلة «لير» راسما لنفسه منذ تلك السنة التاريخية قدرا أبديا مع القراءة. نجحت تلك التجربة مع صديقه وزميله جان لوي سيرفان شرايبر، الذي توفي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أكثر من توقعاتهما، كما ابتكر بطولات الإملاء على المستوى الفرنسي والعالمي، بالتعاون مع كاثرين ماتوش، وفلورنس كلاين، ثم سلسلة برامجه الدسمة التي تناولت الأدب والفنون بكل أنواعها.
يختلف هذا الكتاب عن مجموعة كتب ألبرتو مانغويل عن تاريخ القراءة والمكتبات، وعن كتب أخرى قدمت المادّة نفسها، مثل دانيال بيناك، وجيامبيرو موغيني، وشون بيثل وآخرين.. هذا الكتاب أقرب للسيرة كما ورد في تقديم الناشر له، نقرأ فيه أقاصيص وذكريات وأسرارا عن مهنة بيفو كمقدم برنامج ثقافي طيلة خمسة عشر عاما، في سبعمئة حلقة، حاور فيها الآلاف من المشاهير، وقرأ من الكتب ما يفوق قدرة أي قارئ، ولعلّ إعجابي بمحتواه يعود لسبب شخصي كون فكرة كتابة ذكرياتي مع ضيوفي واردة عندي منذ سنوات، إضافة إلى تقاطعات كثيرة بين ما طمحت إليه وما حققه بيفو في بيئة أخرى غير بيئتنا. أعجبني هذا المحاور الفذ وهو يرد على محاوره على أنّه لا يتقن الإجابة شفهيا، مفضلا أن يجيب كتابة، ما أثار فضولي لمعرفته أكثر، فكيف لشخص يدير حوارا تلفزيونيا أسبوعيا على مدى سنوات طويلة، ويملأ ساعة من الزمن بالأسئلة الجميلة والطريفة والغنية بخلفيته الثقافية، أن يجد صعوبة في الإجابة شفهيا على محاوره؟ هل هو الوقوع تحت تأثير سحر الكاميرا وصعوبة الحديث في غيابها؟ أم أنّ ذكاءه الفطري جعله يختار الإجابة كتابة لأن المنجز هذه المرة كتاب وليس برنامجا تلفزيونيا أو إذاعيا؟
في مجتمعاتنا ينتابنا الشعور بالشيخوخة في عمر مبكر، في الخمسين أو الستين كحد أقصى، وهذا الأمر يعرفه بيفو متسائلا لماذا يشعر الإنسان عند بلوغه عمرا معينا أنه نضب وانتهى، أو أنّه أصبح وصمة عار؟
خلال قراءتي للكتاب الذي استمتعت بكل صفحة فيه، عرفت أن استحضار الذكريات يحتاج لقلم وورقة، تخوننا الذاكرة حين نحاول سردها شفهيا. فكان لا بد له من فسحة هدوء وخلوة مع نفسه لفتح نوافذه القديمة على ما حدث على مدى كل تلك السنوات.
يقول محاوره بيير نورا: «يا له من انتقام من صاحب أبوستروف عند بداية كل أسبوع، من منكم استجوبه بيفو، ولا يرغب بعد خمسة عشر عاما من الاستعباد، أن يعكس الضوء فوق هذا المستبد ويوضع بدوره خلف القضبان؟»، ويلخّص هذا الكلام «السلطة» التي كان يمثلها بيفو في الأوساط الثقافية، وعظمته كمحاور، وكمحطّة مهمة لكل الكتاب لبلوغ رتبة رفيعة من النجاح.
يروي بيفو قصة نجاحه بدون غرور، وكيف انتقد نفسه بشكل لاذع منذ الحلقات الأولى، فتعلّم أن يتحدث ببطء، لأنه وجد نفسه سريعا يلتهم الكلام التهاما وهو يطرح أسئلته، انتقد حتى شكله معتقدا أن بشاعته ستحرمه من الاستمرار التلفزيوني، ولسوف تعيده للصحافة الورقية، لكن ذلك لم يحدث، لأنّه عالج عيوبه الممكن معالجتها سريعا، بدون أن يرتدي عباءة غيره، فقد صعب عليه أن يتقمّص دورا آخر غير نفسه، ويلعب على ذائقة المتفرّج. لم يعتبر بيفو نفسه كاتبا، بل قارئا، ولا يُذكِّر الناس بروايته الأولى L’amour en vogue ، أو «الحب ذائع الصيت» حسب ترجمتي البسيطة، التي صدرت سنة 1958، ولا بأي كتاب آخر من مؤلفاته المتنوعة، وعددها يقارب أو يفوق العشرين، وآخرها كتابه عن الشيخوخة «لكن الحياة مستمرة»، الذي صدر مطلع هذا العام. يترك المجال دوما لمتابعيه لتذكر نجاحاته، الجوائز التي نالها، المهمات التي كلف بها، كمحلف في لجان تحكيم، كل ذلك يأتي بشكل عفوي في سياق حديثه، حين يُسأل مباشرة، تماما كما يفعل ذلك بشأن مشاهير الأدب من كل العالم، الذين استضافهم أو زارهم في بيوتهم لمحاورتهم.
نعم هو ليس أديبا ولكنّه ناقد من الوزن الثقيل، وما دخوله لأكاديمية غونكور عام 2004 إلاّ تتويج لذائقته النّقدية، وصرامة آرائه تجاه النتاج الأدبي الفرنسي. نعرف جيدا أن الكاتب إدموند تشارلز سلمه رئاسة الأكاديمية عام 2014، وأنه غادرها عام 2019، معتذرا، لأن الالتزام بالقراءة أصبح عملا مضنيا جدا بالنسبة له، مضيفا «لأول مرة سأكون أنانيا وأختار قضاء مزيد من الوقت مع عائلتي»، وقد ظل عضوا فخريا فيها، لكن ربما الجمهور العربي غير الفرنكفوني، لا يعرف عنه سوى ما قلّ ودلّ. أعتقد اليوم أن بيفو أصبح مدرسة، وأن مسيرته المهنية خريطة طريق يمكن أن يستفيد منها صنّاع الثقافة، حتى ونحن على عتبة عصر جديد ومختلف لم تتوضح معالمه بعد.
على تويتر يسجل بيفو أكثر من مليون وست وعشرين ألف متابع، محققا هذا الرقم بدون أي دغدغة للعواطف، بدون الاتكاء على المشاهير الجدد، بدون استمالة الجمهور رضوخا لأهوائه، كون تغريداته مرتبطة باهتماماته اليومية، متطرف في محبته للغته الفرنسية، صارم في الدعوة للحفاظ على قواعدها، محب للأكل والمشروب الفاخر، محب للجمال حوله، والأجمل أنه يرفع دعوة للحياة في هذا الزمن الكوروني القاتل، فيخبرنا أنّه شاخ ولكنّه لا يزال محبا للحياة.
عاشق الأسئلة منذ صغره، الهاوي العجيب لحفظ كلمات القاموس منذ طفولته الباكرة، يعترف في كتابه، أنّه امتهن الصحافة لإشباع فضوله، وها قد شاخ ولا يزال فضوليا. في الخامسة والثمانين من عمره، ينبهنا إلى العنصرية التي تمارس ضد كبار السن، يقول: «أنا لم أشعر أني مسن إلا حين بلغت الثمانين».
في مجتمعاتنا ينتابنا الشعور بالشيخوخة في عمر مبكر، في الخمسين أو الستين كحد أقصى، وهذا الأمر يعرفه بيفو متسائلا لماذا يشعر الإنسان عند بلوغه عمرا معينا أنه نضب وانتهى، أو أنّه أصبح وصمة عار؟ كل إنسان على قيد الحياة عليه أن يأكل ويشرب ويقرأ ويتحدّث ويمارس حياته كما مارسها دائما. هل نحن أمام متأمل في الحياة أو فيلسوف؟ يجيبنا بنفسه إنّه رجل حالم، ويحدد أن الأحرار فقط يحلمون، ويثير دهشتنا «في الخامسة والثمانين، لديّ وقت كثير لمشاهدة المسلسلات مثلا لكنّي أفضل أن أحلم». حقق الحالم أمنياته، احترف مهنة القراءة وطرح الأسئلة، بنى امبراطوريته انطلاقا من السؤال الجيد الذي يعطي معنى للأشياء، أثّر في ذائقة الملايين ووجههم في قراءاتهم، رفع نسبة المبيعات لكتب معينة، أبرز أدباء في مرتبة مفكرين، وهم حتما مختلفون عن كتاب اليوم، شكّل أعظم ظاهرة ثقافية عبر التلفزيون، وصنع شهرة لا مثيل لها من قراءة الكتب.
كتاب «مهنة القراءة» أوقد في داخلي لهيبا غير عادي، وشعورا جامحا لم أختبره إلا مع قراءات نادرة. ويبدو أن هذا الرجل خُلِق ليكون مؤثرا وكل ما يلزمه هو ترجمة لكل لغات العالم.
شاعرة وإعلامية من البحرين
كلمة فضاء جمعها أفضية لا فضاءات.