أصداء الجريمة… لم تتغير اللهجة ولا السياسة

المجازر الإسرائيلية في حق الفلسطينيين واضحة للجميع والقاتل واحد، ومع ذلك حتى الهيئات المُحكّمة تتجنب تسمية الأشياء بمسمياتها بالتصريح لا بالتلميح، على غرار محكمة العدل الدولية، التي خلصت أكثر من مرة إلى وجود خطر حقيقي وشيك يتمثل في إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من الإبادة الجماعية. وبناء عليه قررت المحكمة أنه على الأقل هناك خطر جدي يتمثل في ارتكاب إسرائيل، أو أنها سوف ترتكب إبادة جماعية في غزة. وكأنه من الصعب عليهم التمييز بين الجلاد والضحية، بين المستعمِر المعتدي، وصاحب الأرض الذي يعاني الإرهاب والجريمة دون ردع ولا عقاب.

الدعم الأمريكي الثابت لسلوك إسرائيل غير القانوني في غزة، إلى جانب الاحتلال غير القانوني المتوسع في بقية الأراضي الفلسطينية، يحوّل واشنطن إلى مشارك في الجريمة، وأبعد ما تكون عن الجبهة الإنسانية

محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، مؤسستان مستقلتان تتمتعان بتفويضات منفصلة، يُفترض بهما تطبيق القانون، ضمن المهام الموكلة إليهما. ولكنهما لم تكونا في مستوى الواجب الإنساني والأخلاقي، للتحرك أمام فضائع ليس لها مثيل. مع أنّ المنطق المنظم للحرب التي تشنها إسرائيل يتلخص في جوانب منه، في حرمان الفلسطينيين في غزة عمدا من الضروريات التي لا غنى عنها لبقاء الإنسان، وبالإضافة إلى تشكيل الأساس لجريمة التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، فإن هذا الحرمان، بما في ذلك من الغذاء والخدمات الطبية والطرد المنهجي من المنازل، يمكن أن يشكل بموجب القانون الدولي فرضا متعمدا لظروف معيشية تهدف إلى إحداث التدمير المادي لمجموعة محمية، كليا أو جزئيا، وبالتالي يشكل عملا من أعمال الإبادة الجماعية. السؤال: هل التزمت بعض الدول الداعمة لإسرائيل عسكريا ودبلوماسيا بالأمر الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في يناير الماضي، الذي يضع الدول، خاصة تلك التي تربطها علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية قوية مع إسرائيل، وبالتالي القدرة على التأثير بشكل فعال على القادة الإسرائيليين، تحت الملاحظة بأنها ملزمة بالتحرك لمنع الإبادة الجماعية في غزة؟ ما بالك بضرورة وقف هذه الدول تصدير السلاح لتل أبيب على غرار بريطانيا وأمريكا وألمانيا وغيرها. وليس غريبا على أكبر داعمي تل أبيب، الذين يصفقون لنتنياهو بعد كل المجازر التي ارتكبها، إذ لا يزال الكونغرس الأمريكي يحجب الدعم عن وكالة اللاجئين في غزة المدمرة. رغم تحذير رئيس الأونروا، فيليب لازاريني، مؤخرا من أن الوكالة، شريان الحياة الرئيسي للعديد من الفلسطينيين في غزة، قد لا تتمكن من مواصلة عملياتها هناك بعد أغسطس، إذا لم يتم استئناف تمويلها. معظم الدول الأوروبية التي أوقفت التمويل للأونروا في البداية استأنفت مساعداتها، وتداركت موقفها المخزي، فضلا عن الاتحاد الأوروبي. هذا بعد قرارات الحكومات الأوروبية قطع التمويل عن الأونروا في أعقاب الاتهامات الإسرائيلية الكاذبة، بأن موظفي الوكالة كانوا متورطين في هجمات السابع من أكتوبر على جنوب إسرائيل.
في أمريكا، يسيطر السباق الانتخابي على أذهان السياسيين من الحزبين المتنافسين، ستكون هناك أصداء لهذا الاتجاه المؤيد لفلسطين في الانتخابات الأمريكية المقبلة، مع تصاعد الغضب بين العديد من الناخبين التقدميين، بشأن دعم إدارة بايدن غير المشروط لحرب إسرائيل في غزة، والصمت النسبي للبيت الأبيض بشأن الانتهاكات الإسرائيلية، بما في ذلك حجب المساعدات الإنسانية. وستحاول كامالا هاريس، في ما يبدو، أن تكسب تأييد المتعاطفين مع فلسطين والمناهضين لحرب الإبادة على غزة، عبر تلطيف عبارات التأييد التام لإسرائيل، وإظهار بعض التأسف على حرب تدميرية ساهموا في إطالة أمدها عبر تصدير السلاح ودعمهم المطلق لكيان الاحتلال. في السياق ذاته، العدسة الضيقة التي نظرت من خلالها الحكومة البريطانية السابقة بقيادة رئيس الوزراء المحافظ ريشي سوناك، إلى الكثير من العالم، خاصة منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، تفرض تحديا أمام رئيس الوزراء البريطاني الجديد، وهو محام سابق في مجال حقوق الإنسان. لكن فرص الحكومة البريطانية في تبني سياسة خارجية تضع حقوق الإنسان في المقام الأول ضئيلة، خاصة في الشرق الأوسط، حيث ستتقيد المملكة المتحدة بعلاقتها الخاصة بالولايات المتحدة. وكما أكدت كيلي بيتيلو، منسقة برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سوف يختبر الشرق الأوسط مدى هذا الالتزام. فقد حدد وزير الخارجية البريطاني الجديد ديفيد لامي مبدأ «الواقعية التقدمية» الذي يدعو إلى «استخدام الوسائل الواقعية لتحقيق غايات تقدمية»، بما في ذلك مكافحة تغير المناخ، والدفاع عن الديمقراطية وتعزيز التنمية الاقتصادية في العالم. عندما يتعلق الأمر بسياسة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، فإن الحاجة إلى الحفاظ على العلاقة الخاصة مع واشنطن سوف تعرقل حزب العمال، كما تكشف الحالة الفلسطينية بالفعل. ففي بيانه الانتخابي، ذكر حزب العمال أنه لن يعترف بالدولة الفلسطينية إلا إذا كانت جزءا من عملية السلام المتجددة وكمساهمة فيها، والتي تؤدي إلى حل الدولتين. وهذا يبدو مشابها كثيرا لموقف واشنطن، نظرا للسياسة الأمريكية الراسخة، التي تقضي بضرورة تحقيق الدولة الفلسطينية من خلال المفاوضات مع إسرائيل، وليس الاعتراف من جانب واحد كما فعلت إيرلندا وإسبانيا والنرويج مؤخرا.
إحجام الكثير من الدول عن تبني موقف أكثر تقدمية بشأن فلسطين، وكأنه يتزامن مع موقف إدارة بايدن في دعمها غير المشروط لحرب إسرائيل في غزة، والصمت المفضوح للبيت الأبيض بشأن الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة. لم يفعلوا شيئا لدرء المعاناة الأعمق في غزة، أو الاعتراف الدولي المطلق بالدولة الفلسطينية، بسبب المخاوف بشأن الآثار المترتبة على علاقاتهم ومصالحهم الخاصة مع الولايات المتحدة. وبالتالي ليس مهما بالنسبة إليهم أن تكون المجاعة رديفا للغارات الجوية والمدفعية الإسرائيلية، سببا في مقتل المزيد من الفلسطينيين. في المحصلة، إنّ الدعم الأمريكي الثابت لسلوك إسرائيل غير القانوني في غزة، إلى جانب الاحتلال غير القانوني المتوسع في بقية الأراضي الفلسطينية، كما في الجولان السوري المحتل وإشارات التصعيد هناك، يحوّل واشنطن إلى مشارك في الجريمة، وأبعد ما تكون عن الجبهة الإنسانية. وهذا ينطبق على بريطانيا وبقية الدول الداعمة لإسرائيل والساكتة عن مجازر الاحتلال، وامعانه في القتل وفرض المجاعة في غزة.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية