يعيد الإسلاميّون، أو كثير منهم، أصل كل بلاء إلى الغرب وسياساته وثقافاته ومن تغرّب من أبناء الشعوب ذات الغالبية السكانية المسلمة.
الميل عند كثير من الإسلامين هو لتكثيف الغرب وردّه إلى صورة واحدة: الاجتياح المدجّج بالمعرفة والتقانة للمجتمعات والحضارات خارج النطاق الغربي واستباحة مواردها من بعد كسر كبريائها، وضمّها إلى المتحف الكبير للاختلاف المدجّن.
يعيد «اللا ـ إسلاميّون» في المقابل ـ هل لهم من مسمّى أكثر دقّة؟ مدنيّون؟ ألم يوالوا العسكر؟ ـ أصل كل بلاء إلى كل هذه التقليعة المحمومة المعادية للغرب، والتي ترذّل الغرب ككتلة مرذولة وملعونة.
يساجل «الأنتي إسلاميّون» ضد هذه التقليعة «المتطيّرة من كل غرب» في الخطاب القومي، أو المستفحلة بتمام شحنتها في خطاب الإسلام السياسيّ، أو المقترنة بأدبيات استئصال كل استشراق وإعادة نزع الاستعمار، بالتفريج عن المكنون المحتبس الذي لم تتح له فرصة التعبير عن نفسه يوم غادر المستعمرون بلادنا بشكل رسمي.
منذ هجمات 7 أكتوبر 2023 يتصرّف الإسلاميون، كما يتصرّف أخصامهم الأنتي – إسلامويين، بشتى أنواعهم، كما لو أن ساعة تصفية الحساب مع الغريم السياسي والأيديولوجي على المستوى «الداخلي» للمجتمعات العربية قد أزفت.
عند الإسلاميين أن أخصامهم قد انكشفوا، كأعداء فعليين للأمة أو كأناس انقضت صلاحيتهم الفكرية والسياسية. وبالنسبة للأنتي – إسلامويين إنّا كنا في غنى عن النكبة الحالية، لولا أن تمكنت الحسابات الخاطئة ونزعة التدمير الذاتي عند الإسلاميين من تسهيل المهمة لأعدائهم وهدّ الديار على من فيها.
جريرة الإسلاميين هي عند أخصامهم أنهم فتحوا الباب في قطاع غزة لتدمير الوطن من حيث هو عمران، كما سبق أن فعلوا على مستوى العراق وسوريا، وكما كادوا أن يفعلوا في مصر لولا أن أطيح بالديمقراطية المسمومة والمعوجة، والمنقادة وراء مشروع ظلامي.
أما معصية غير الإسلاميين فتتقوم من الموقع المضاد لهم في أنهم استعانوا بالاستبداد العسكري والميليشياوي لضرب الإسلاميين في السنوات الماضية وهم يحازبون جهراً أو علانية بنيامين نتنياهو في حربه على غزة اليوم، ويخافون أن لا ينتصر نتنياهو في حربه، فيكتب الرواج من جديد، ومن بعد إحباط وانكفاء وتخلع، للإسلاميين.
هل هنا من بمستطاعه أن ينجو فعلاً من هذه الثنائية المستعرة، سواء بالمباشر أو بالحيلة؟
ثمة يساريون وعلمانيون في صف الإسلاميين. لا يختلفون عنهم في المفاصلة الرئيسية. يفضلون أن يحسبوا على الإسلاميين في نهاية المطاف على أن يحسبوا على الاستبداد العسكري «المعادي للتطرف» أو أن ينزلقوا إلى حيث التقاطع مع التطرف الإسرائيلي المعادي لاستئناف الحياة في قطاع غزة.
هناك في المعسكر المضاد للإسلاميين في المقابل من «المحافظين» أكثر مما فيه من «التقدميين».
الموجة الحالية من المحافظة العربية تقول ما معناه أنه قد ظهر أن هذه الشعوب ليست أهل للديمقراطية وإنما يكفيها أن تحكم بكفاءة وواقعية وأن تكون راضية.
الفرز الأيديولوجي العربي الأهم في الوقت الحالي هو بين إسلاميين من جهة وبين محافظين من جهة ثانية. لا يجعل ذلك من الإسلاميين «تقدميين» رغماً عنهم، ولا من المحافظين «تنويريين»
بالنسبة إلى هذا الرهط المحافظ فقد ارتكب الإسلاميون خطيئتهم الكبرى في السابع من أكتوبر، لكن هذه الخطيئة هي أيضاً خطيئة دعاة الاقتباس من «التنوير» الغربي نفسه الذين أمدوا الإسلاميين بمفاهيم محاربة الإمبريالية والثورة على الظلم، بل غنم الإسلاميون منهم مقولة «الحرية» نفسها، وتمكنوا من تأصيلها، من خلال الإدغام بين هجاء الطغيان (المقولة السياسية، أي المستفرد بالسلطة والمتمادي فيها بالاعتباط) وهجاء الطواغيت (المقولة الدينية، أي كل ما عبد من دون الله) انطلاقاً من اجتماع المعنيين في الآية الكريمة «اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى» (النازعات، 17).
في المقابل، كانت ضريبة التأصيل الإسلامي لمقولة الحرية أنها حضرت ناقصة الحريات العامة والخاصة، الحريات «العينية» بل غير راغبة في تعيين معنى لصاحب السيادة غير المعنى المتصل بسيادة أو بحاكمية الله.
بهذا المعنى الفرز الأيديولوجي العربي الأهم في الوقت الحالي هو بين إسلاميين من جهة وبين محافظين من جهة ثانية. لا يجعل ذلك من الإسلاميين «تقدميين» رغماً عنهم، ولا من المحافظين «تنويريين» رغم كل المزاعم المجيّرة لحسابهم لتصويرهم على أنهم بالفعل كذلك. أما شتات التقدمية العربية البائدة، القومية واليسارية والليبرالية، فترى شرذمة منهم في صف الإسلاميين وشرذمة أخرى في صف المحافظين.
عند كل نفر من هؤلاء «التقدميين» سواء من التحق منهم بالإسلاميين أو من التحق بالمحافظين، يفرض «دهاء التاريخ» عليهم شيئاً من الخبث وشيئاً من السذاجة.
ما لا يحب «التقدميون» مناقشته بجدية هو أنهم في الحالتين قد فقدوا السبيل لبلورة حيثية فكرية وثقافية وسياسية قائمة بذاتها، وبات جل ما يقومون به هو معاركة بعضهم البعض لصالح منتصر أو مهزوم على حلبة هم خارجها، هم في أحسن الحالات على المدرجات بين المشاهدين. ليس في الصفوف الأمامية، بل خلف خلف.
يتحدّر هؤلاء التقدميون بمعظمهم من تيارات ومشارب انخرطت في الحرب الباردة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها وحلفائها في المنطقة العربية. لكنهم بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفياتي انقسموا. بين من يرى في أمريكا نفسها – أو في الاتحاد الأوروبي عند هواة الصنف – اتحاداً سوفياتياً بديلاً، يوتوبيا حداثوية محققة على أرض الواقع، وبين من استبدل الاتحاد السوفياتي بإيران في الإقليم، أو بالاستمرار على «حب روسيا» بقياصرتها وبلاشفتها وأوليغارشييها لا فرق، أو بالتهويم بالصين على أمل أن يلقى هذا التهويم تجسيداً أكثر ملموسية في المستقبل.
كديوجين في صورته المأثورة، يحمل كل تقدمي عربي هائم على وجهه قنديل البحث عن «آفاتار» للاتحاد السوفياتي. هذا في اتجاه الغرب، وذاك في اتجاه الغرب. الطللية ـ نسبة إلى الأطلال ـ هي بهذا المعنى حالة باتت مزمنة في مقال التقدمية العربية منذ ثلاثة عقود.
أما الإسلاميون من جهة، والمحافظون من جهة أخرى، أو ما كان يوصف حينذاك «بالرجعية العربية» فكانوا، إجمالاً، زمن الحرب الباردة في خندق واحد.
اجتمعوا فيه على مكافحة الشيوعية، وبالتوسع في مكافحة الشيوعية بحيث تعني مواجهة الأنظمة القومية العربية «التقدمية» أيضاً، أي حمل جمال عبد الناصر مثلا على الشيوعية، في الوقت نفسه الذي كان يزج فيه الرجل الشيوعيين في السجون والمعتقلات.
ابتداء من مفترق الثورة الإيرانية حدثت القسمة بين المحافظين العرب وبين الإسلاميين العرب. الأوائل رأوا في الخمينية استمرارية للشيوعية بشكل جديد. الإسلاميون رأوا فيها الدليل على أن إطاحة الأنظمة المحتكمة لغير شرع الله ممكنة، وأن البديل الوحيد عن العلمانية والشيوعية لم يعد يقتصر على الارتضاء بالأنظمة الملكية ومساندتها ضد عبد الناصر، بل على فتح الطريق لتحكيم الشريعة ككل، أو أقله تكريس الاحتكام الى مقاصدها، مع شيء من الشورى، يقطع الطريق أمام الاستبداد ويغني في الوقت عينه عن الديمقراطية.
وفي مقابل الثورة الإيرانية، حافظت الحرب الأفغانية على شعرة معاوية بين المحافظين والإسلاميين إلى أن انقطعت مع زوال الإمبراطورية السوفياتية.
لا يستفاد من كل هذا أن التفتيش عن إمكان جديد للتقدمية في البلاد العربية مستحيل. لكنه إمكان أصبح مشروطاً باعتراف مزدوج:
أولاً، بأنه لا يمكن إعمال فصل «ميتافيزيقي» بين الإسلامي في المواجهة مع الاستعمار وبين الإسلامي في المواجهة مع القيم الحداثية الكونية. خاصة إن كان «التقدمي المتخيّل» الذي يعقد العزم على الفصل التعسفي هذا ليست لديه لا القوة اللازمة ولا الحضور الراجح للتأثير في الإسلاميين في هذا الاتجاه.
ثم الاعتراف ثانياً، بأن من يتصدر المواجهة مع الإسلاميين منذ عقود في المنطقة العربية هو العسكريتاريا تارة وأمريكا والليكود تارة أخرى.
هذه قد يسوّغ لها من يتبنى الأيديولوجيا المحافظة التي لا ترى أملاً ولا خيراً في معجم الديمقراطية، بالنسبة إلى الشعوب العربية بالخصوص، وتسعى لنسف أي تفكير بالعقود الاجتماعية من خلال الاكتفاء بمعياري كفاءة الحكام، لا يهم مصدر انتزاعهم للسلطة أو اكتنازهم للثروات، ورضا السكان، لا يهم إن صدر هذا الرضا عن إحباط أو عن إرغام أو عن تمرّغ بالاستهلاك وإدماناته. لكن أن يسوغ التقدمي المتخيل لهذا الالتحاق مرة في صف العسكر ومرة في صف الليكود ضد الإسلاميين، فهذا قبل كل شيء انتحار له. لدى التقدمي المتخيل الكثير من الحجج في جعبته ضد ما يمكن أن يعتبره نَفَساً انتحارياً عند الإسلاميين؛ لكنه، في أقل الإيمان عليه قبل كل شيء أن يثبت أنه أقل انتحارية منهم.
كاتب من لبنان