لم يكن اليونانيون (الأثينيون تحديدا، أي سكان أثينا وهم أول من طبق هذا النظام سنة 400 قبل الميلاد تقريبا وكان عهد بيركليس يمثل العهد الذهبي) يتوقعون أن كلمة ديمقراطية، وهي عملية تصويت من لهم حق في التصويت (المرأة لم يكن لها حق التصويت) المباشر على تعيين الحكام، وسن القوانين في المدينة الدولة (بوليس)، أنها ستكون لغة عالمية، ونظاما تحتذيه دول ـ أمة، وتتستر في ظله معظم أنظمة دول العالم الأحادية.
والديمقراطية كنظام تتعدد صفاتها، واختلافاتها، ففي حين يرى المنظّر السياسي الكسيس دو توكفيل أن الديمقراطية هي حالة اجتماعية قبل أن تكون نظاما سياسيا يطبق “كوصفة طبق طعام سريعة الهضم” يختلف معه منظرو الثورات كلينين مثلا، الذي يرى أن الشيوعية هي قمة الديمقراطية، لأنها دولة البروليتاريا، وبما أنهم الأكثرية فهي حكم الأكثرية، التي تنص عليه الديمقراطية، رغم تسميتها بديكتاتورية البروليتاريا، التي أنجبت ستالين الملقب بأبي الغولاغ، وكل زعماء السوفييت من بعده. وحتى بعد سقوط الشيوعية المدوي وتبني الديمقراطية الليبرالية لا يتوانى “القيصر” بوتين الأول بفرض تشريع من الدوما يسمح له بالحكم مدى الحياة، أو الى ما قبل الموت بقليل، على غرار ما فعل عبد الفتاح السيسي في مصر.
الديمقراطيات الليبرالية الغربية تشهد أزمة بنية حقيقية، خاصة مع شقها الاقتصادي المعتمد على العرض والطلب
وككل الديكتاتوريات العسكرية التي تجمّل أنظمتها بيافطة الديمقراطية، وبرلمان مطاوع مفصل على المقاس، فنظام بشار الأسد الذي عدّل الدستور على مقاسه خلال نصف ساعة، يقدم نفسه كنظام ديمقراطي، ويقوم بانتخابات تشريعية لبرلمان “المصفقين”، بعد تدمير نصف سوريا وتهجير ثلث شعبها، وقتل نصف مليون سوري، وجلب المحتلين إلى أراضيها. ونظام معمر القذافي كان يعتبر أن نظامه أفضل نظام ديمقراطي شعبي، بحكم اللجان الشعبية بعد أن أتحف العالم بـ”الكتاب الأخضر”، الذي يتضمن الحلول النهائية للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكلمة “ديموكراسي” لا يؤمن بها (لأنها تعني ديمومة الكراسي وليس حكم الشعب)، مع أن حكمه دام اكثر من أربعة عقود وانتهى بقتله، وكذلك نظام علي عبد الله صالح، وحسن البشير، وحسني مبارك، وحافظ الأسد، وسواهم من أنظمة عالمية كنظام الكيميين أبا عن جد في كوريا الشمالية ذات النظام الجمهوري، وسالوث سار (بول بوت) في كمبوديا، وبينوشيه في تشيلي، وفيدل كاسترو في كوبا… والقائمة طويلة، ولكن هل أن الديمقراطيات الغربية هي أرقى ما توصل إليه الإنسان في الأنظمة السياسية؟
ديمقراطية الشرعية “الكاتوديكية”
(Cathode ray tube)
اليونانيون القدماء لم يكن بينهم وبين مرشحيهم وسيط، بينما يعتمد مرشحو الديمقراطيات الغربية، وبشكل مواز مع كل اقتراع، وسيلة إعلامية جديدة ليستغلوها في حملاتهم الانتخابية، لتقديم برامجهم والتواصل مع الجماهير. عبر الصحافة، والإذاعات، خاصة القنوات التلفزيونية (وهذا ما أطلق عليه الباحثون الإعلاميون الشرعية الكاتوديكية نسبة لجهاز التلفزيون، وأنبوب التشغيل الكاتوديكي)، وبالطبع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى عبر الهواتف الذكية وتطبيقاتها. وبعض الأحيان لا يتواني المرشحون عن زيارة الأسواق الشعبية، أو تنظيم اجتماعات وإلقاء الخطب كتواصل مباشر مع الناخب.
شرعية المال
وباتت الحملات الانتخابية تتطلب بشكل متصاعد مبالغ مالية كبيرة، لشراء حصص في القنوات الإعلامية، واستئجار الصالات، وتكاليف الإعلانات والدعاية. وهذه بالطبع لا يقوى على توفيرها إلا ذو مال، وربما من لا يملك المال لجأ إلى البحث عن مال خارجي (من تحت الطاولة)، كما حصل مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، في ترشحه لولاية ثانية، وطلب من معمر القذافي مبلغا كبيرا من المال (هذا حسب ما اتهمه به نجل القذافي سيف الإسلام في مقابلة تلفزيونية) التي أودت به إلى المحاكمة، وخسارة الانتخابات. فالمال يلعب دورا كبيرا في تسويق المرشحين وتقديمهم بحلة ربما ليست حلتهم.
شرعية التسويق السياسي
والتسويق السياسي (marketing politic) بات أمرا أساسيا ومطلوبا يلجأ إليه معظم المرشحين، ويوظفون شركات التسويق التي تقوم بتسويقه لدى الناخبين، كبضاعة سياسية يدخل فيها كل الدراسات الاجتماعية، والنخب، وموجهو الرأي ونسب الأعمار، إلخ، كما يوظفون مستشارين إعلاميين يقومون بتدريب المرشح على الإلقاء وإسداء النصائح لمظهره الخارجي بلباسه وهندامه، وقصة شعره، وحركاته.
شرعية الكاريزما والخطابة والوسامة
تلعب الشخصية الكارزمية دورا كبيرا في تقدم مرشح على آخر، وكذلك مهاراته في فن الخطابة، وتلعب الوسامة دورا كبيرا، خاصة لدى النساء (أكثر زعيم عربي استطاع ان يكسب شعبية كبيرة بسبب شخصيته الكارزمية ومهارته الخطابية، ووسامته هو الزعيم جمال عبد الناصر، ولم يماثله فيها سوى الرئيس الأمريكي جون فيتزجيرالد كنيدي، الذي يقال إن نسبة كبيرة من نساء أمريكا صوتت له لوسامته، ولكارزميته ومهاراته الخطابية).
ديمقراطية الحزبين
يسيطر على المشهد السياسي في معظم دول الديمقراطيات الغربية حزبان كبيران (جمهوري وديمقراطي في أمريكا، وعمال ومحافظون في بريطانيا، واشتراكي واتحاد من اجل الجمهورية ـ ديغولي ـ في فرنسا وهذا الأخير أخذ تسميات مختلفة بعد ديغول) ولا يتسنى للأحزاب الصغيرة الصعود وفوز مرشحيها إلى في ما ندر، كما حصل مؤخرا في فرنسا مع حزب ماكرون “الجمهورية السائرة ” الذي يعتبر حديث العهد جدا بالنسبة للأحزاب التقليدية الأخرى، لكنه تخطاها جميعا.
على الرغم من كل ما تقدم هل الديمقراطيات الغربية منيعة ضد المطبات التي تصيب أنظمة الدول الأخرى؟ يجمع الباحثون السياسيون على أن أنظمة الغرب الديمقراطية سريعة العطب إزاء أزمات كبرى تواجهها. فإذا أخذنا مثالين لنظامين ديمقراطيين أوروبيين في إيطاليا وألمانيا، نجد ان الحزب النازي والحزب الفاشي قد فازا بالانتخابات، ولديهما شرعية ديمقراطية من حيث المبدأ، ولكن تبين أنهما تحولا إلى أكبر حزبين متطرفين وزعيمهما أدولف هتلر، وبينيو موسوليني تحولا الى ديكتاتورين أشعلا الحرب العالمية الثانية. كما أن معظم الديمقراطيات الغربية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، لم تتخل عن سياساتها الاستعمارية، ومحاربة كل حركات التحرر، وهي التي تؤمن وتدعو لاحترام حقوق الإنسان. ومواقفها الفاضحة بدعم إسرائيل، ضد حقوق الشعب الفلسطيني، وآخرها صفقة القرن التي هندستها الولايات المتحدة، أو صعود اليمين المتطرف والشعبوي، كما حصل مؤخرا في الهند، واضطهاد المسلمين وهي التي تدعي أنها أكبر ديمقراطية في العالم. وأخيرا وليس آخرا موقف الاتحاد الأوروبي من اللاجئين، ورفع الستار الحديدي ضدهم، ومنعهم من تجاوز الحدود، وإزاء وباء كورونا كيف تعاملت هذه الديمقراطيات في ما بينها، خاصة أمريكا مع باقي الدول الأوروبية.
وعليه فإن الديمقراطيات الليبرالية الغربية وخلافها، تشهد أزمة بنية حقيقية، وهي تعي ذلك، خاصة مع شقها الاقتصادي أيضا، المعتمد على العرض والطلب، ودعه يفعل دعه يمر، والدعوة إلى نيوليبراليزم، أي الليبرالية الجديدة، ولكن هذه مسألة أخرى تبحث في مقالات لاحقة.
كاتب سوري
هي أزمة قديمة ظهرت مع نشوؤ الديمقراطية في أثينا. فبعد الفترة المزدهرة أثناء حكم بيريكليس، سقطت الديمقراطية في يد التجار والمقامرين والمتلاعبين بالعقول. وضد المتلاعبين بالعقول كتب أفلاطون محاورة فايدر ومحاورة جورجياس ليبين أن المستفيد من الديمقراطية هم من يملكون ناصية البلاغة وهم عموما أصحاب مصالح وعديمي الذمة والضمير. ولكن المثال الحي لسيادة المال وتجار الحروب في النظام الديمقراطي هو مسرحية أريستوفانوس ” الفرسان” حيث يبين كيف وصل العسكري كليون للسلطة عن طريق خداع الشعب ودغدغة مشاعره وكيف نهب المال العام وخرب الذمم وأشاع الحرب ضد الجيران. والغريب أن المعارضين، في المسرحية طبعا، لم يكن أمامهم سوى خيارين : الإنتحار أو البحث عن فاسد مثله ليهزمه في الإنتخابات بنفس الأسلوب. وإختاروا الحل الثاني. ودرس أريستوفانوس، معاصر سقراط، واضح : لا أمل!