أغاني الميكروباص مشكلة خارج سيطرة الرقابة

كمال القاضي
حجم الخط
0

موجة الأغاني الهابطة التي أصطلح على تسميتها “أغاني الميكروباص” نسبة إلى الفئة الأكبر من جمهورها ومتعاطيها وهم سائقو الميكروباص والتوك توك، تكاد الآن أن تكون هي الذوق المفضل لدى عموم الطبقات الفقيرة من غير المتعلمين وأصحاب المهن والحرف. وقد أدى انتشارها إلى خلق تيار عشوائي لمصنف ركيك يحمل مواصفات الأغنية الشعبية من حيث الشكل، ولكنه يغايرها ويجافيها على كل المستويات الضمنية والجوهرية.

المشكلة بدأت منذ فترة طويلة تتجاوز عشر سنوات وأخذت في التنامي والاتساع حتى صارت ملمحاً رئيسياً لانحطاط الذوق الفني وفساده في غيبة الأجهزة الرقابية المعنية بحماية عقل ووجدان الجمهور المصري الذي صار محاصراً بكميات وفيرة من المنتجات الرخيصة في ظل النشاط غير المسبوق لمعامل تفريخ الأصوات والألحان والكلمات التي لا تعبر إلا عن ثقافة المغيبين من الناس بفعل المخدرات وتأثير حبوب الهلوسة والعقاقير الضارة.

وتمثل الأفراح البلدي في المناطق العشوائية بؤر انتشار متفرقة لمثل هذه النوعيات من الأغاني، فالتحضير لها يتم في ليل كتدبير الجريمة، ويستلزم نشاطها وصداها البيئي توليفة من الخارجين على القانون وعدد من راقصات الدرجة الرابعة وطقس من المُسكرات والمشروبات الروحية، وفي كل الحالات تنتهي حفلات السمر والسهر والشُرب نهايات مأسوية. ولكن الأزمة لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل تخرج الأغنيات التي كانت في الأمس القريب تخص جمهور الأفراح فقط، إلى حيز الذيوع والشيوع فتنتشر كالنار في الهشيم عبر اسطوانات يتم تعبئتها في غفلة من كافة أجهزة المكافحة، سواء الفنية أو غير الفنية لتصبح بين عشية وضحاها ملء السمع والبصر!

وتتردد أسماء المطربين على المقاهي الشعبية من الذين تصدح أصواتهم في أجهزة الكاسيت في سيارات الأجرة ووسائل الاتصال بمختلف تقنياتها الحديثة، فتفرض نفسها كالوباء وتحقق شهرة واسعة في محيطات تتسع يومياً فتزيد من تعداد المتعاطين لها، ومن ثم يصعب على الرقابة والرقباء ملاحقتها كونها لا ترتبط بأي كيان فني مسجل رسمياً ولا تحمل ما يميزها من مسوغات الإبداع الشعبي أو غير الشعبي، اللهم إلا خليط كلمات ركيكة وموسيقى صاخبة وأصوات نسائية تُمعن في الأداء الرخيص المثير، الموحي بالحسية الشديدة بعيداً عن أي افتراض لوجود جُملة لحنية بها مسحة واحدة من تطريب أو شجن.

والغريب أن حركة تسميم الوجدان المسماة بالتيار الغنائي الشعبي الجديد، تمنح لمصنفاتها أسماءً واصطلاحات تؤكد فسادها وعشوائيتها، كأغنية “الكعب العالي” و”بلد الرجالة” و”اسطوات وفتوات” و”بتوع الكيف وأصحاب المزاج” وكلها بالقطع عناوين لمنتجات محلية صادمة تهدف إلى الانتشار السريع وزيادة معدلات الربح من حصيلة توزيع الأسطوانات المضروبة في أكثر المناطق فقراً وجهلاً وأمية.

ويُطلق مطربو هذه النوعيات من الأغاني المسمومة ألقاباً على أنفسهم كالأسطورة والباشا والملك وابن البلد والزعيم والكبير جداً إلى آخر هذه الترهات الدالة على جُل الكارثة التي أصبحت تهدد الأغنية الشعبية التقليدية بميراثها التاريخي وطابعها الأصيل، المتمثل في الأسماء الكبرى الراحلة والمعاصرة من المغنين والمونولوجست، كعمر الجيزاوي ومحمود شكوكو وأحمد الحداد وثرية حلمي وسيد الملاح ومحمد طه والريس متقال وأبو دراع وفاطمة عيد وأحمد عدويه وفاطمة سرحان، وبقية المطربين المتميزين في الموال والارتجال ورواية السير الذاتية، وهؤلاء كانوا علامات في ألوانهم الغنائية وتخصصاتهم الاستثنائية الدالة على شخصياتهم وثقافاتهم قبل اختلاط الحابل بالنابل وظهور التكوينات المشوهة من إفراز الفوضى والتجارة وانعدام القيم وانهيار القواعد وتراجع المواهب الحقيقية في شتى المجالات ذات الصلة بالفن والإبداع والابتكار، كالشعر والموسيقى والفن التشكيلي وغيرها من أوجه التطور الصحي في مجال النهوض بالوعي الجماهيري وترقية الذائقة الفردية والجماعية وتفعيل حركة النقد للتفرقة بين الغث والسمين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية