نولد مسلمين أو مسيحيين أو يهودا، أو ربما ملحدين، حسب البيئة التي أوجدنا الله فيها.
وما أسهل أن يقلد الإنسان أبويه ومجتمعه في معتقداتهم، دون أن تكون له تساؤلات. من يعرض معتقداته للشكوك والتساؤلات يصبح إيمانه أقوى، لأنه مبني على التفكر والتأمل والاستنتاجات.
قليلة هي الكتب التي تستوقفك في الحياة، فلا تعد بعدها تساؤلاتك في حدتها وحيرتها نفسها.
يعد كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» لعلي عزت بيغوفيتش الفيلسوف والزعيم الإسلامي، أول رئيس منتخب لجمهورية البوسنة والهرسك من بين كنوز الفكر والفلسفة.
منظور جديد
عبقرية الجغرافيا جعلت من بيغوفيتش شخصية استثنائية كيف تؤمن بالإسلام والشيوعية شرقك، والرأسمالية غربك، والإسلام جنوبك وفي دارك. بيغوفيتش تشرب بالإسلام منذ صغره كأي مسلم، ولكنه درس تعليما شيوعيا في عهد اكتساحها العالم، ما هز إيمانه.
هذه الشكوك دفعته وهو شاب إلى دراسة الإسلام وباقي الأديان والحركات الأيديولوجية، دراسة عميقة ليقارنها بالإسلام، ما أهله باقتدار لتقديم الإسلام بمنظور جديد يصلح لعالم اليوم المنفتح على بعضه. مسلمو الغرب وأقصى الشرق الآسيوي، أكثر احتراما لدينهم من غيرهم، وأكثرهم تطبيقا، هكذا لمست بنفسي.
عبقرية الجغرافيا جعلت من بيغوفيتش شخصية استثنائية كيف تؤمن بالإسلام والشيوعية شرقك، والرأسمالية غربك، والإسلام جنوبك وفي دارك عبقرية المكان
نحن لدينا ضمانات كثيرة نخاف حتى أن نسميها مسلمات، وبشكل عام لا نحب التساؤل، بل نكفره أحيانا كثيرة. حراكنا الفلسفي والفكري لا يتعدى قاعات المؤتمرات، فلا يصل صداه إلى قلوب الناس.
ليست لدينا إجابات لكثير من الأسئلة الفلسفية في الحياة من منظور إسلامي، وهو الدين الذي نعتنقه، ذلك أننا لم نتعمق في جوهر الإسلام.
من يعتنق الإسلام تقليدا في بيئته، يختلف عمن يعتنق الإسلام في بيئة متعددة الأديان. هناك يتعرض كل يوم لامتحان في سلامة معتقداته، خاصة إذا كان يعيش في دول غربية أو شرقية آسيوية متقدمة، فيظل يتساءل كيف لهم أن يتفوقوا هذا التفوق وهم بلا روح، لديهم حضارة لا ثقافة، كما يفرق بينهما بيغوفيتش في كتابه.
نظريات علم النفس
أعتقد أن أهمية هذا الكتاب تكمن في المنظور المختلف الذي يقدم به الإسلام، وهو أسلوب فعال للطرح القوي الاستثنائي. علي عزت بيغوفيتش لم يبق ولم يذر ديانة أو معتقدا شرقيا أو غربيا أو فلسفة قديمة أو حديثة ونظريات علم النفس والديانات جميعها إلا ودخل في جوهرها وقارنها بالإسلام.
دخل جوهر الإنجيل والتوراة واللاهوت والبوذية، لا أظن أنه لم يجب على سؤال قد يعين الإنسان على فهم حياته إلا وتناوله. نحن نعيش في عالم منفتح على بعضه، تصل إلى الإسلام في عقر داره تأثيرات أيديولوجية، ومهما حاول المسلمون صدها، إلا أنها تتسرب من بين أيديهم ومن خلفهم، إضافة إلى التأثير الغربي الواضح في التعليم، من حيث التخصصات المركزة على عالم المال، التي تدور حوله ناهيك من تعليم مدرسي غربي بحت في المدارس الخاصة.
نحن لم نفهم روح التعليم الغربي فنقلنا التجربة مشوهة، فليست للدول العربية فلسفة تعليمية واضحة المعالم.
بقيت كتب تدريس الإسلام بطريقة تقليدية لا تتحدث بلغة اليوم التي تفهمها أجيال التكنولوجيا، وغابت التربية الروحية، حتى أن الصوفية كمصطلح لا تعرفه هذه الأجيال.
الثقافات الأخرى
فلا عجب ما نراه من نتائج على الأرض من تشويه للفهم وتملص من طقوس الإسلام وبحث عن بديل. لم نستطع فهم حضارة الغرب ومنطلقاتها فهما عميقا، حتى نأخذ منها أسرار التقدم. في حين لم ننجح في إعادة تقديم تراثنا الفكري والفلسفي في مادة سهلة الفهم للأجيال المسلمة.
أفكر دائما في أسباب الصراع الديني في فرنسا، ما هي أسبابه؟ وإلى أين سيؤول؟ وهل تناوله المسلمون ليساعدوا الدولة الفرنسية في إيجاد الحلول.
كتب عظيمة تركها الأولون في حاجة إلى إعادة قراءة وتقديم مغاير، حتى تفهم هذه الأجيال أن لديها رسوخا ثقافيا تعلم منه الغرب.
لغة اليوم تتطلب احتراما للثقافات الأخرى لا تكفيرا لها، ودراسة متمعنة لها، وكلمات بسيطة تدخل روح وعقل الغربي قبل العربي.
أما الدكتور عبدالوهاب المسيري عالم الاجتماع المصري، فقد قدم هذا الكتاب تقديما رائعا عميقا يسعف القارئ على الفهم. استمعت إلى محاضرة المسيري عن فكر بيغوفيتش، وكذلك تابعت الحلقات الوثائقية لأسعد طه حتى أستطيع فهم فكر هذا الرجل وما هي منطلقاته والظروف التي أسهمت في تشكيل الفكر الفلسفي لديه.
أما المترجم محمد يوسف عدس فقد أصر على الهجرة وكافح حتى يهاجر من مصر، وتحط الأقدار عليه ليترجم عملا من أعظم الأعمال الفكرية التي تلامس الروح. جميع هذه الشخصيات التي قدمت هذا المفكر والقائد العظيم مصرية، ولكم للمصريين من فضل في التنوير.
علي عزت بيغوفيتش لم يكن شخصية عادية مفكرة تركت لنا كتبا إنما هو قائد مناضل، حياته كانت انعكاسا لرسوخ ايمانه. كان القائد القدوة التي يفتقدها العالم الإسلامي والعربي بشدة، قضى حياته ما بين المعتقلات وميدان الحروب.
التطابق ما بين الايمان والسلوك، وما بين الأقوال والأفعال كان ناتجا عن رسوخ الإيمان لدى بيغوفيتش، فسخر حياته للدفاع عن الإسلام كما ذكر في إحدى جلسات المحاكمة الكثيرة.
كاتبة عمانية