تبدأ ألمانيا حقبة جديدة في تاريخها السياسي بدون أنغيلا ميركل، أول سيدة تولت منصب المستشارية، وتركت بصمتها القوية على السياسة الأوروبية والألمانية خلال أكثر من عقد ونصف من الزمان. ميركل أطلقت خلال فترة حكمها محركات النمو في الاقتصاد الألماني، وقادت مشروع الوحدة الأوروبية من نجاح إلى نجاح. لكن السنوات الأخيرة شهدت خلافات واسعة النطاق مع الولايات المتحدة، وصلت إلى ما يقرب من الإهانة، واتخاذ إجراءات انتقامية تجارية من جانب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي هدد أيضا بسحب قواته من ألمانيا. ولذلك فإن السياسيين الألمان تنفسوا الصعداء عندما فاز جوزيف بايدن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. واعتقدت ميركل أن رحيل ترامب سيفتح الباب لإعادة الثقة في التحالف الأطلنطي، وسيساعد على بث روح الحيوية في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وألمانيا التي تأذت كثيرا خلال سنوات حكم ترامب. لكن الأشهر الأولى من حكم بايدن أظهرت أنها كانت مفرطة في التفاؤل، وأن إعادة الثقة تحتاج إلى مجهود أكبر، وأن جو بايدن أضاف مزيدا من الشكوك إلى العلاقات بين واشنطن وبرلين، ومن هنا فقد كان شعار «أوروبا ذات سيادة» هو أحد أهم الشعارات المحركة لجمهور الناخبين في ألمانيا.
المظلة النووية الأمريكية
على الرغم من تغير القيادة، وحصول الحزب الاشتراكي الديمقراطي على أكبر عدد من أصوات الناخبين (25.7 في المئة) فإنه من غير المرجح حدوث تغيرات جوهرية في مسار السياسة الخارجية الألمانية تجاه الولايات المتحدة أو روسيا والصين. فقد كان أولاف شولتز زعيم الحزب الاشتراكي، وهو المرشح الأوفر حظا لتولي منصب المستشارية، شريكا مع حزبه في الائتلاف الحاكم مع الاتحاد المسيحي الديمقراطي بزعامة ميركل. كما أن مواقف الأحزاب الرئيسية الأخرى الفائزة في الانتخابات (الخضر والأحرار) متقاربة في العديد من قضايا السياسة الخارجية والدفاعية باستثناء الموقف من استمرار ألمانيا تحت المظلة النووية الأمريكية، وهي القضية التي ستكون على جدول أعمال الحكومة الجديدة منذ يومها الأول. وطبقا لقواعد تشغيل النظام الدفاعي لحلف شمال الاطلنطي في ألمانيا فإن صلاحية طائرات «تورنيدو» الحاملة للقنابل النووية تنتهي عام 2024 ويجب وضع برنامج لشراء طائرات جديدة تحل محلها قبل ذلك التاريخ. وتطمح الصناعة العسكرية الأمريكية ان تحصل على صفقة الطائرات تلك أو نصيب الأسد منها.
وتختلف الآراء بشدة حول هذا الموضوع بين الحزبين الاشتراكي والمسيحي الديمقراطي. ففي حين يؤيد المسيحي الديمقراطي استمرار الدفاع تحت المظلة النووية الأمريكية، فإن الاشتراكي والخضر والأحرار لا يتفقون على ذلك. ومع أن الحزب الاشتراكي ترك موقفه غامضا بالنسبة لتحديث الطائرات، فإن الحزبين الآخرين يعارضان بقوة تجديد الالتزام بالغطاء النووي الأمريكي، كما يميل الرأي العام الألماني عموما إلى التخلص نهائيا من الأسلحة النووية في المستقبل والاعتماد على نظام دفاعي مستقل. هذا الجدل حول النظام الدفاعي والمظلة النووية الأمريكية ليس جديدا. ذلك أن أنغيلا ميركل كانت قد صرحت أكثر من مرة في السنوات الأخيرة بأن الألمان والأوروبيين عموما لا يجب أن يعتمدوا على غيرهم في الدفاع عنهم، وقالت إن «الأيام التي كنا نعتمد فيها على غيرنا قد انتهت». ومع ذلك فليس من المتوقع أن تتخذ الحكومة الألمانية الجديدة قرارا سريعا فيما يتعلق بموضوع الشراكة النووية مع الولايات المتحدة، لأن الأمر يحتاج إلى المزيد من الحوارات بين الأحزاب السياسية وفي أوساط الرأي العام، وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي.
كذلك فإن الوجود العسكري الأمريكي في ألمانيا الذي يقدر بحوالي 34 ألف جندي يمثل نطاقا آخر للجدل بشأن النظام الدفاعي الألماني. وكان الرئيس الأمريكي بايدن في بداية توليه الرئاسة أمر بتجميد قرار بسحب 10 آلاف جندي أمريكي من ألمانيا كان قد أصدره الرئيس السابق. بل إن بايدن أمر بزيادة القوات بحوالي 500 جندي تعبيرا عن رغبته في تعزيز التحالف مع ألمانيا وأوروبا. وعلى الرغم من ذلك فإن التطورات في الأشهر الماضية تركت انطباعا قويا في برلين بأن شعار بايدن «أمريكا عادت» لم يغير الكثير من واقع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه ألمانيا وأوروبا. ففي حرب أفغانستان حيث أرسلت ألمانيا قوة عسكرية لمساندة الولايات المتحدة، فإن واشنطن قررت منفردة الخروج بدون التشاور مع حلفائها، ورفضت طلبا بالتمهل حتى تتمكن القوات الألمانية من ترتيب أوضاعها والانسحاب بأمان وهي مستعدة لذلك. ثم فوجئت ألمانيا بقرار بايدن إقامة تحالف عسكري جديد مع كل من أستراليا وبريطانيا «أوكوس» بدون تشاور مع بقية شركائها وحلفائها. هذه الإجراءات التي اتخذها بايدن خلال فترة وجيزة عززت الشكوك وعدم الثقة في السياسة الأمريكية، ليس في أوساط السياسيين الألمان فقط، ولكن في أوساط الرأي العام الألماني والأوروبي على حد سواء.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي العام خلال العامين الأخيرين انخفاض مصداقية السياسة الخارجية الأمريكية، وتدني الرغبة في استمرار التحالف مع واشنطن. وتضمنت نتائج استطلاع أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية عام 2020 أن 53 في المئة من الألمان يعتقدون أن السياسة الخارجية الأمريكية لم تعد ذات مصداقية، وأن 71 في المئة يعتقدون أن النظام السياسي الأمريكي يعاني من قصور شديد. وردا على سؤال بشأن أفضلية التعاون السياسي والاستراتيجي قال 53 في المئة أنهم يثقون في أوروبا و 4 في المئة فقط أعربوا عن ثقتهم في الولايات المتحدة. وبشأن موقف ألمانيا من الحرب الباردة بين أمريكا والصين، قال 8 في المئة أنهم يؤيدون الموقف الصيني، وقال 16 في المئة انهم يؤيدون الموقف الأمريكي، في حين أن أغلبية كبيرة بنسبة 66 في المئة قالت إن ألمانيا يجب أن تقف على الحياد وألا تتورط في الحرب الباردة بين واشنطن وبكين.
وما تزال هناك الكثير من الخلافات بين ألمانيا والولايات المتحدة في قضايا سياسية واقتصادية وتكنولوجية، منها الموقف في شرق المتوسط، والعودة للاتفاق النووي الإيراني، وخط الغاز الروسي الثاني نورد ستريم- 2 والرسوم الجمركية الأمريكية على الصلب والألومنيوم، وكذلك الموقف من استخدام التكنولوجيا الصينية خصوصا 5G في أنظمة المعلومات والاتصالات الألمانية، ومدى تأثير الاستثمارات الصينية على الأمن القومي للتحالف الغربي. ومع أن هناك إمكانية لتسوية بعض القضايا العالقة بسرعة مثل الرسوم الجمركية وحرية التنقل، فإن قضايا أخرى تحتاج تسويتها إلى وقت أطول مثل مستقبل النظام الدفاعي والتحالفات عبر المحيطين الهندي والهادي.
المصالح الاقتصادية
ومن غير المتوقع أن تتراجع ألمانيا لصالح الولايات المتحدة، في قضايا يمكن أن تسبب لها أضرارا سياسية أو اقتصادية. على سبيل المثال فإن استثمارات خط الغاز الروسي نورد ستريم- 2 التي تبلغ حوالي 12 مليار دولار لن يتم التفريط فيها، وذلك على الرغم من ضغوط واشنطن والجناح المحافظ في الحزب المسيحي الديمقراطي لإعاقة تشغيل الخط. ومن المعروف أن المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر هو الذي يرأس مجلس إدارة الشركة الأوروبية القابضة المستوردة للغاز من روسيا. ويتمتع أولاف شولتز بعلاقات قوية مع شرودر. كما أن أهمية تدفق الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا تأكدت في سياق أزمة الإمدادات في الأسابيع الأخيرة.
أما بالنسبة للصين، الشريك التجاري الأول لألمانيا، فإن مهمة شولتز ستكون العمل على إقامة علاقات متوازنة معها، في إطار إجماع أوروبي، مع الأخذ في الاعتبار ما يتوصل إليه المجلس الأمريكي-الأوروبي للتجارة والتكنولوجيا الذي عقد اجتماعه التأسيسي في بيتسبره (بنسلفانيا) يوم الخميس الماضي. ويهدف هذا المجلس إلى وضع قواعد دقيقة لتنظيم المعاملات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية، وبين الصين من الناحية الأخرى في مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا. وكانت ميركل قد وقعت اتفاقية لتحرير الاستثمار مع الصين، لكن البرلمان الأوروبي طلب مراجعة بنودها، وما يزال يماطل حتى الآن في اقرارها. وهذا يعني من الناحية العملية أن قرارات السياسة الخارجية الألمانية تجاه كل من الصين وروسيا ستخضع أولا لحسابات دقيقة في برلين، قبل أن تذهب إلى البرلمان الأوروبي. وسيكون لزاما على المستشار الألماني الجديد أن يراعي التوازنات الحزبية الداخلية ليواصل الاستقرار السياسي الذي نجحت أنغيلا ميركل في تحقيقه، خصوصا وأن أهمية الاستقرار تتعاظم مع الظروف التي يمر بها الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا، والتحديات التي تفرضها اعتبارات الاستمرار في مواجهة فيروس كورونا، والمهمات الضرورية للتعافي الاقتصادي، ومواجهة تغير المناخ العالمي، وحماية البيئة، حيث تلعب ألمانيا دورا رئيسيا في هذه المجالات في أوروبا مع شركائها الكبار مثل فرنسا وهولندا، إضافة إلى التحديات الاستراتيجية الصعبة الناتجة عن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين.