في برد لا أذكر مثله وقفت أنتظر سيارة أجرة، وليس أسوأ من قيادة سيارة في القاهرة إلا انتظار التاكسي، حيث يتعين عليك أن تهرول صارخًا بالوجهة التي تريدها تحت تصرف سائق سيارة لم يكلف نفسه عناء إيقافها تمامًا، فإن وافقه مشوارك يتوقف، لكنه لا يستأنف السير إلا بعد أن يتلو عليك واجباتك، كما تفعل سلطات التحقيق عندما تتلو على المتهم قائمة بحقوقه. ينورك سائق التاكسي بواجب أو أكثر عليك ألا يتذمر منه: سنتوقف بمحطة الوقود لأتزود بالغاز، أو أقيم قريبًا منك وسنمر على بيت حماتي لاصطحاب زوجتي، أو سنتوقف قليلاً عند تلك الناصية ننتظر زميلي الذي سلمني السيارة بعد نوبة عمله دون رخصة السير.
الانتظار في برد لم أعرفه في حياتي أجبرني على الدوران في ميدان طلعت حرب طلبًا للدفء. واكتشفت أن البرودة لا تأتي من الطقس فحسب، بل من وحشة الذكريات.
في الميدان نفسه اعتدت أن أمشي ضاحكًا في نهاية سهرة مع أصدقاء، رحلوا تباعًا في السنوات الثلاث التي عرفت أدنى معدلات لسعر الحياة، وقد اعتدنا أن نسلك مع صديقاتنا على نحو أنيق فرضه محمد البساطي، فنصحب منى أنيس مشيًا إلى بيتها القريب من الميدان، ثم نعود إلى السيارة أو التاكسي، ومهما كان عدد الساهرين، فالمهمة الجميلة يتولاها في الغالب البساطي ويوسف أبو رية وأنا، وخلالها نتمم الضحكات التي تركناها مفتوحة أثناء السهرة.
في السعي من أجل تاكسي بين مداخل الشوارع، التي تشبه بتلات الوردة حول تمثال زعيم مصر الاقتصادي، اكتشفت أنني لم أهرم وحدي، بل الأماكن أيضًا. الشوارع صامتة، وجوه العمارات كابية، وواجهات المقاهي أصغر مما كنت أتصور، وأبوابها مغلقة على ظلام، لأن نادليها لم يعودوا يتركونها في عهدة رواد قرروا مواصلة السهر حتى الصباح. تذكرت مقالاً فاتناً للزميل ماركيز، يتحدث عن ألم الذكريات، الطيبة منها على وجه الخصوص، لأنها هي التي تشكل نواة للحنين.
المقال الذي ترجمه صالح علماني بين مجموعة من مقالات أخرى حملت عنوان ‘قصص ضائعة’ كتبه ماركيز عن السيرة الذاتية للويس بونويل بعنوان ‘شيخوخة لويس بونويل الشابة’ منطلقًا من ذكريات بونويل، وخصوصًا عن أمه التي فقدت ذاكرتها وأخذت تستمتع بالشيء الواحد مرارًا وكأن حياتها تبدأ وتنتهي في اللحظة التالية لتبدأ من جديد.
وكعادته اتكأ ماركيز على حكايات بونويل ليستدرجنا إلى حكاياته هو، وخوفه هو من الشيخوخة محاولاً باستماتة إقناع القارئ أو إقناع نفسه بأن الشيخوخة ليست إلا حالة معنوية، وبأننا نستطيع بالإرادة سد الطريق عليها طالما ليس بوسعنا إغلاق طريق الموت. ‘عادة ما نميل إلى الاعتقاد بأن تلك الشيخوخة محن تصيب الآخرين فقط’ يقول ماركيز، ويبدو أن هذا الاعتقاد هو أكثر العقائد شيوعًا بين البشر.
أذكر دهشة أبي عندما فقد أول سن بعد أن تجاوز السبعين، وقد أخذ يقلبها في يده مندهشًا: ‘الغريبة عمرها ما حصلت!’ ومن كثرة ما كررها قلت له: ‘لكنها كان لا بد أن تحصل’. وأخذت السن من يده قبل أن يقترح بناء ضريح لها. كنت وقتها أستعجل ظهور الشعرات البيضاء في رأسي حتى لا أكون مضطرًا للإجابة عن أسئلة حول نوع الصبغة التي أستخدمها. ولكنني لم أكن أعرف أن صرف العفريت أو إيقافه عند حده ليس في سهولة استدعائه.
الذين تبيض شعورهم منذ نعومة أظافرهم، لا يحاسبهم أحد ولا يحاسبون أنفسهم على مقياس الشعر، فيلجأون إلى قياسات أخرى. وقد عاش سعيد الكفراوي شابًا بشعر أبيض حتى جاء ذات يوم منزعجًا: ‘لقد هرمت اليوم’. وبدأ يروي ملابسات الحادث المزعج؛ إذ إنه بمجرد صعوده إلى عربة المترو فوجيء بشاب يقف متخليًا له عن مقعده: ‘اتفضل ارتاح يا حاج’!
ولأن أصدقائي كانوا دائمًا أسن مني، أو لأنني أعتبر الشيخوخة قدرًا خاصًا بالآخرين، لم أزل أدرب نفسي على بعض الحقائق البسيطة كإدراك أن هناك في هذه الحياة من هم أصغر سنًا مني، وأن بوسعي أن أصافح أحيانًا دون أن أقف، وأن من الطبيعي أن يضع شاب مسافة عند التخاطب معي مهما ضايقتني مكرمته، وأن من حق الشابة أن تمر من جواري دون أن تلحظ وجودي.
يروي ماركيز واقعة التقائه بأحد زملاء دراسته القدامى، وقد بدا أكبر من سنه الحقيقية بمرتين فأعطى نفسه الحق في توبيخه: ‘لأن إهماله لا يجعله يشيخ وحده، وإنما يجعل جيلنا كله يشيخ’.
ولست أدري من هو الصديق الأسوأ؟ ذلك الذي لم يتمكن من سد طريق الموت أم الذي ترك نفسه نهبًا للحقيقة البيولوجية الأكثر قسوة؛ الشيخوخة.
كأنك عايش جوايا ….
بجد بتقول كل اللي بفكر فيه ….
لسه معاتب صديق بالأمس ….عتاب مرير لأن صورته يبدو وكأنه شيخ طاعن في السن …..
تشخيص بليغ ، بحُرقة!.. رشيق ، بأناقة..
الأعزاء ؛ عزت القمحاوي.. خيري منصور.. الأستاذ مطاع صفدي؟؟…
يا الله! في زمن الرداءة المعربدة،، مازال المرء يصادف آخـر القرائن والبراهين ، الشحيحة ، والآيلة للانقراض ، على صدقية مقولة : الرجـــل هو… الرّيشة (القلم) .
حيّاك الله أيها القلم ـ الانســــــان .