الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، فشلوا في إجبار روسيا على الانسحاب تحت ضغط العقوبات. وإذا كان المسرح مُهيَّأ لموسكو كي تُعيد ضبط الموازين بواسطة القوة العسكرية، فإلى أي مدى يمكن تجنب مفاقمة الصراع بين الحلف الغربي الأمريكي، وقوة نووية عظمى بحجم روسيا؟
بوتين يمضي من دون رادع في تعديل ميزان القوى الإقليمي باستخدام القوة، وفي توسيع دوائر نفوذه في شرق أوروبا. والتنافس الاستراتيجي بين روسيا وأمريكا يحتد في هذه المنطقة، مثلما هو شأن بكين وواشنطن في بحر الصين الجنوبي، الذي يشهد تصعيدا متواصلا حول تايوان، الجزيرة التي تطالب بالانفصال عن الصين مدعومة بقوة من الولايات المتحدة الأمريكية. في الوقت الذي تعتبرها بكين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وتتوعد بالرد القاسي حال القيام بأي سلوك منفرد بعيدا عنها. وأنه إذا استمر الجانب الأمريكي في التصرف بطريقته الخاصة، فلن يقف الجيش الصيني مكتوف الأيدي، وسيتخذ جميع التدابير لوقف التدخل الخارجي والمحاولات الانفصالية لجزيرة تايوان.
أمريكا في النهاية مستفيدة من تدمير الصناعة الأوروبية وتراجع عملة اتحاد لم ينجح في التخلص من تسلط واشنطن ومصادرة قراره الاستراتيجي
ليست روسيا في حالة تراجع جيوسياسي، رغم ما فُرض عليها من عقوبات. وموسكو استطاعت تحييد دولة بحجم أوكرانيا، ومنع انزلاقها إلى المدار اليوروأطلسي، بالطريقة التي أرادتها، أو التي دفعها إليها حلف الناتو كما تقول. والرهان اليوم يكمن في أهمية البحث عن حل دبلوماسي يُقلِّص خطر خروج الصراع عن السيطرة، في ظل التهديد النووي. في سياق تنازع الريادة والتفوق، لا يمكن الجزم أيضا بما يخبئه مستقبل الصراع بين الصين والولايات المتحدة. قد تتعاون البلدان اقتصاديا، في الوقت نفسه الذي تتنافس فيه أمنيا وجيوسياسيا، هذا ممكن نظريا، لكن على أرض الواقع يبدو أنّ فشل واشنطن في احتواء بكين، ورفضها وجود منافس محتمل لهيمنتها في شرق آسيا والمحيط الأطلسي، وفي العالم ككل، لن يجعل من صعود الصين سلميا بأي حال من الأحوال.
واقع اليوم متعدد الأقطاب سمح لدول لم تكن تستطيع أن تقول لا للأمريكيين أن تتحرر، ولو نسبيا في خياراتها السياسية والاقتصادية، والأمر لن يقف عند دول الخليج، بل سيتعداها إلى دول الساحل وجنوب الصحراء وكيانات افريقية ما زال الاستعمار الفرنسي والبريطاني ينهب ثرواتها ويفقر شعوبها. يحدث ذلك في وقت يترنّح فيه النظام الليبرالي تحت صدمات الجائحة العالمية وأزمات الاقتصاد والطاقة المتتاليين. وفي عصر الاقتصاد الفوضوي الذي تغيب فيه التوافقات، يتحوّل العالم إلى مسرح للنزاعات الجيوسياسية الكبرى، فشلت إزاءه المنظمة الأممية التي تشكّلت وفق قواعد الهيمنة، تكرارا لفشل عُصبة الأمم بعد الحرب العالمية، فالمنظمة الأممية وَضَعت في اعتبارها ما لم يتم الالتزام به على الإطلاق، وهو أنّ عملية إحلال السلم والأمن الدوليين، والمحافظة عليهما وتعزيزهما تقوم على أساس الحرية والمساواة، وتقرير المصير والاستقلال، واحترام سيادة الدول، فضلا عن السيادة الدائمة للدول على مواردها الطبيعية، بصرف النظر عن نظمها السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو مستويات نموها، وأن من واجب جميع الدول ألا تهدد باستعمال القوة، أو تستعملها ضد سيادة الدول الأخرى، أو استقلالها السياسي أو سلامتها الإقليمية. أمريكا تُعتبر رائدة في خرق المواثيق والمعاهدات الدولية، وعدم الالتزام بها.
في عام 2003، غزا تحالف بقيادة الولايات المتحدة العراق للإطاحة بحكومة صدام حسين، بحجة أن العراق كان يطور أسلحة دمار شامل، ومن دون إجماع في مجلس الأمن الدولي، حددت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة موعدا نهائيا للعمل العسكري، وفي مارس 2003، توغل الجيش الأمريكي في الأراضي العراقية بدعم من بولندا وأستراليا وبريطانيا، وقصف بكل أنواع الأسلحة، حتى تلك المحرمة دوليا، وقتل الملايين، ودمر البلد الذي يعاني إلى الآن ويلات هذا التدخل الخارجي، وما زال منقسما، ويعيش مآسي الطائفية والصراع المذهبي على السلطة، وتقاسم الغنائم. وهو بعيد كل البعد عن نسيج اجتماعي موحد. الخطوة التي قام بها رئيس وزراء إيران المنتخب ديمقراطيا بين عامي 1951 و1953 محمد مصدق لتأميم صناعة النفط الإيرانية، التي تديرها شركة النفط الأنكلو فارسية، وهي شركة تم تغيير اسمها لاحقا إلى شركة البترول البريطانية. لم تعجب أمريكا وبريطانيا، وفي عام 1953، أطيح بحكومة محمد مصدق في عملية انقلاب قادتها أجهزة المخابرات البريطانية الأمريكية، ربما لم تكن هذه العملية عرضا علنيا للرغبة الأمريكية في التدخل في شأن دولة أخرى، كما حدث مع العراق، ولكنهم دبّروا ذلك بطريقة خبيثة، كما هو شأنهم تاريخيا. وفي أغسطس 2013، اعترفت الحكومة الأمريكية رسميا بدور أمريكا في الانقلاب من خلال عرض وثائق حكومية سرية سابقة، التي كشفت عن أنها كانت مسؤولة عن أعمال التخطيط للانقلاب وتنفيذها. ما حصل هو أن الولايات المتحدة دعمت عبر وكالة المخابرات المركزية انقلابا ضد رئيس وزراء يتمتع بشعبية كبيرة في إيران، ثم قدمت دعما متزايدا لشاه إيران، آخر ملوك البلاد الذي أصبح ديكتاتورا بشكل متزايد في حكمه، وعميلا مخلصا لواشنطن في المنطقة. هذا ما تريده أمريكا وأتباعها الاستعماريين مثل بريطانيا وفرنسا، الذين يعيدون ارتكاب الأخطاء نفسها، وبالمحصلة التاريخية، تسببت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في إحداث فوضى في الشرق الأوسط على جميع الأصعدة، من دون أن ننسى ما فعلته في ما تعتبره فناءها الخلفي أمريكا اللاتينية، خاصة كوبا، وهي ليست سوى مثال واحد للحملات الأمريكية لتغيير الأنظمة في أمريكا اللاتينية وخارجها.
في عام 1973 اعتقد الغرب وأمريكا أنهم سيستغنون عن النفط العربي، بعد قرار قطع تصدير النفط للغرب بسبب انحياز أمريكا لإسرائيل في حربها ضد سوريا ومصر، لم يستطيعوا الاستغناء عن النفط العربي إلى الآن، كذلك أوروبا، مهما حاولت، لن تجد بديلا عن مصادر الطاقة الروسية وفي مقدمتها الغاز، ولا بدّ لهم من أن يوقفوا المكابرة الخاسرة، ويبحثوا عن حل سلمي مع موسكو قبل تدهور اقتصادهم وافلاس العديد من الشركات، وتزايد نسب التضخم وارتفاع الأسعار. فأمريكا في النهاية مستفيدة من تدمير الصناعة الأوروبية وتراجع عملة اتحاد لم ينجح في التخلص من تسلط واشنطن ومصادرة قراره الاستراتيجي.
كاتب تونسي
شكرًا أخي لطفي العبيدي. صحيح أن أمريكا هي الرابح أمام أوربا وربما هذا هو أحد أهداف أمريكا في دعم أوكرانيا لإستمرار الحرب. لكن لاأعتقد أن بوتين سيكون رابح من هذه الحرب، فهذه الحرب ضد أوكرانيا ومنذ أن بدأها بوتين لاتعبر إلا عن الضعف الإستراتيجي لسياسة بوتين أمام الناتو! واستمرارها ستكون مكلفة جدًا لروسيا وليس فقط اقتصاديًا بل أن قيادة بوتين نفسها سيظهر ضعفها وسيتحول بوتين رويدًا إلى دكتاتور مكروه في روسيا. وذلك بغض النظر عن تداعيات هذه الحرب على المستوى الدولي.
دام حضورك أخي أسامة. فعلا ما ّهبت إليه يمكن أن يكون دقيقا من ناحية جيوستراتيجية. لعل الأيام القادمة كفيلة بتوضيح أفق الصراع ونتائجه.