على الجبهة مع أوكرانيا، تَحْشُد روسيا 120 ألف جندي، وعلى المقلب الأخر تَحْشُد كييف 75 ألف جندي. التعزيزات العسكرية من الجانبين على قًدَم وسَاق. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومنذ إقدام أوكرانيا، إحدى جمهوريات الاتحاد، في 16 تموز/يوليو 1990 على إعلان سيادة دولة أوكرانيا وتنامي مصطلحات تقرير المصير للأمة الأوكرانية والاستقلال السياسي والاقتصادي، انقلبت الأحوال.
يكفي لفهم مستوى القلق الذي يعتري اليوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التوقف عند أدبيات أحد منظري السياسة الأمريكية في زمن الحرب الباردة زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً من أصول شرق أوروبية، بأن أوكرانيا القوية والمستقرة تشكل ثقلاً موازناً لروسيا، وينبغي أن تًكُون محور اهتمام الاستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة.
كان بريجنسكي يتحدث في التسعينيات عن وجوب ألَّا تُسيطر روسيا على أوكرانيا لأنها بمثابة المفتاح لإعادة بناء إمبراطورتيها من جديد، فإذا بـ«حلف شمال الأطلسي» المعادي لموسكو سيصبح على حدودها مع القبول المبدئي للانضمام أوكرانيا إلى تلك المنظومة الغربية. هذا خط أحمر بالنسبة لبوتين، ومسألة تتعلق بالأمن القومي الروسي، وقضية مصيرية لبلاده، تستدعي إن لَزِمَ الأمر غزواً لمنع تثبيت معادلات جديدة قائمة على تحولات استراتيجية. يقول بوتين بالفم الملآن إنه يريد اتفاقاً أمنياً مع أمريكا بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو» العسكري وتعهدات وضمانات أمريكية-غربية بعدم نشر بنية تحتية عسكرية متطورة للحلف فيها.
حشود روسيا هي تحضيرات لغزو لا لحرب جبهات. الحرب على الجبهات قائمة بوتيرة مختلفة بين هادئة ومستعرة في الشرق الأوكراني بين الجيش النظامي والانفصاليين الأوكران من أصل روسي في منطقة دونباس والذين أعلنوا قيام جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية، كَرد فِعْل على التطورات السياسية التي شهدتها البلاد عام 2014 مع انهيار الحكم الحليف لروسيا على وقع الثورة البرتقالية، والتي أفضت إلى احتلال الروس لشبة جزيرة القرم .
الحرب المنتظرة، من وجهة نظر أوكرانيين، هي حرب من نوع آخر. يقول هؤلاء إن الشعب الأوكراني يقف بنسبة كبيرة خلف الجيش في وجه الروس، بمعزل عن التفاوت العسكري بين قوة البلدين. يرون أن الجيش بنسبة 90 في المئة معبأ بعقيدة الدفاع عن أوكرانيا وأنه في السنوات الأخيرة جرى العمل على تنقية الجيش وتقويته وتعزيزه وتجهيزه بأسحلة متطورة على خلاف ما كان يقوم به الحكم الحليف لروسيا سابقاً من إضعاف لمؤسسات العسكرية وضربها من الداخل. ولا ينظرون إلى أنَّ الغزو إنْ َوقَع سيكون نُزهة للجيش الروسي، ذلك أن العمل جارٍ على وضع خطط حرب العصابات وحرب الشوارع ونشوء المقاومة التي ستعمل خلف خطوط العدو. يجري الحديث عن المصانع العسكرية والتقدم الحاصل في صناعة المسيرات التي تتم بتقنيات مشتركة أوكرانية-تركية. يلفتون إلى أن أوكرانيا تَخَلّت عن الترسانة النووية بالاتفاق مع الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، لكن القيادة حذرت من استعادة القوة الصاروخية النووية.
في رأي محللين أن إقدام بوتين على غزو أوكرانيا سيكون فَخْاً محكماً وَقَعَ فيه واستدرج إليه. ستتحول خطوة كهذه إلى حرب استنزاف طويلة. فالعسكر الروسي سيكون على الأرض هدفاً سهلاً للاصطياد. ليس «السيناريو» المرتقب هو «سيناريو الأرض المحروقة» على غرار ما فعله سلاح الطيران الروسي في المدن السورية التي سوَّاها بالأرض. هنا الحديث عن كلفةٍ باهظةٍ في الأرواح وعَودة الجنود الروس مُحمَّلين في توابيت إلى ديارهم، وعن ضربات مُباشرة تستهدف قلب روسيا وانكشاف التعزيزات العسكرية الروسية. تلك الكلفة لا يقوى عليها «سيد الكرملين» مهما لَعِبَ على المشاعر القومية، ولن يصمت عنه العالم إذا ما تمادى في حربٍ وحشية. حلف «الناتو» ليس مُلزماً بالدفاع عن أوكرانيا ما دامت لم تُصْبح بعد عضواً فيه، لكن خطوط الإمداد مفتوحة، وعملية الغزو ستُشَكّل تحدياً كبيراً أمام الأوروبيين والأمريكيين الذين يحذرون بوتين من مغبة أي خطة متهورة.
صحيح أن التحذيرات الغربية والأمريكية لروسيا لا تخرج بعيداً عن فرض عقوبات اقتصادية قاسية، والتنبيه بأن كلفة الغزو ستكون مرتفعة جداً عليها سياسياً واقتصادياً، لكنه سيستدرج أيضاً وجوداً عسكرياً لدعم حلفاء الناتو في دول أوروبا الشرقية، وهو الأمر الذي سيشكل مقتلاً لها وتعمل بثقلها على منع حصوله مستقبلاً من خلال مطالبتها بضمانات مكتوبة بعدم تَوَسُّع «الناتو» شرقاً وعدم نشر أسلحة ضاربة في الدول المتاخمة لبلادها.
لا شك أن واشنطن تريد إشْغال «الدب الروسي» ودفعه إلى حروب استنزاف جديدة. العين الأمريكية على كيفية إغراق موسكو في مشاكل وأزمات تُعِيق تَعْميق تحالفها مع الصين وذهابها إلى تشكيل جبهة واحدة. لا توجد على أجندة جو بايدن مخططات خشنة مع روسيا، ما يُبعد خطر الانزلاق إلى حروب عالمية. ولا ظروف التوصل إلى تفاهمات كبرى مع الكرملين قد آن أوانها. جلَّ ما يَهْدف إليه الرئيس الأمريكي، وفق المتحدثة «البيت الأبيض» هو استعادة القدرة على التنبؤ والاستقرار للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.
قد يدفع الواقع الاقتصادي الهش وانهيار الروبل ببوتين إلى مراجعة حساباته والموازنة بين الربح والخسارة التي قد تتأتى على هذا المستوى إذا جنح نحو الجنون العسكري، لكن من يقرأ تاريخ الرجل في مراحل انخفاض شعبيته يجد أنه دائماً ما لاذ إلى مربع الحروب في محاولة استعادة أمجاد القوة وحلم الإمبراطورية، فيصفق له الروس. وهذا حصل في حربه في الشيشان وفي غزو جورجيا وفي ابتلاع القرم، وقد يحدث مجدداً اليوم في غزو أوكرانيا، إنما بثمن أكبر على الشعب الروسي الذي، يقول محللون، إنه يقع تحت تأثير عملية غسل دماغ ممنهج أُعِدت بإتقان وتتولاها القنوات الفضائية المملوكة من بوتين نفسه.