تدوين السيرة الذاتية، مجال واسع يمكن أن يُحقق المدوِّن الكثير من المساحة التي تُغني هذا المجال الحيوي، بالطروحات والمداخلات، التي تشكل مساراً، فيه سحرية خاصة، كما وجدنا في سيّر الشعراء والروائيين والباحثين. فهي مجال يمتلك حيوية مغرية، وبوابة تسع الكثير من الاجتهاد والطرح. لعل كتاب عبد الله إبراهيم المعنون «أمواج» خير مثال على ما ذكرنا. فهو جامع بين السيرتين الخاصة والعامة. بمعنى عمد المؤلف على أن يضعها موضع التاريخ، من خلال رصد المؤثر والأثر الذي حصل ويحصل جرّاء سريان الأزمنة، بكل صنوفها وألوانها ومراميها القاسية، خاصة التاريخ الاستثنائي لبلد مثل العراق. فمفردة أمواج معنية بتشبيه المسيرة بحركة وصخب أمواج البحر أو النهر. وبهذا اكتسبت قوة التأثير، باعتبارها قوة مجموع الأحداث في الأزمنة والأمكنة. كذلك عمد المؤلف إلى تذييل العنوان بجملة (سيرة عراقية) ولم يذكر مثلاً (سيرة عراقي) بقدر ما ربطها بالعام. وهذا ما ذكرته بعنوان المداخلة وعلاقتها بسيرة الزمان والمكان، واستثناءاتهما.
شعرية الطفولة والنشأة
المطلع على السيرة، ولأول وهلة، يشعر كمتلق بإمكان كتابة الشعر، بدون اللجوء إلى نظام الخليلي، أو قوانين قصيدة الشعر الحر والنثر، لأن الكامن في سرديتها مطلق الشعرية الذي أشار إليه النقاد والباحثون. فالشعرية هذه تتجسد في مفردات الحياة التي واجهها إبراهيم وهو يعيش بين ظهراني بيئة أُسرية فيها فرادة ومنظومة مختلفة. كذلك فرادة وجوده المادي ككائن في بيئة المدينة (كركوك/أرابخا) وما تزخر به من ثروات، فتحت له وللآخرين مجالات واسعة. وأخص بالذكر (جماعة كركوك) بمرحلتيها. فهم مجموعة مثقفة وذوو معرفة مغايرة ومؤثرة، بسبب امتلاكهم لغة أُخرى غير العربية مبكراً، ثم تأثيرات العاملين في شركات النفط في مدينة مثل (كاورباغي) التي شهدت أحداثا كبيرة، كإضرابات عمال النفط مثلاً. فهي المدينة الوحيدة بين مدن العراق اكتسبت أسماء متعددة (أرابخا/ آرانجا/كركوك/ كاورباغي). فحيوية صفاتها ملازمة لحيويتها كمدينة.
هكذا عاش الطفل والصبي والفتى في كنف مدينة ذات ألوان ومؤثرات متعددة، لعب فيها عدم الاستقرار دوراً أساسياً، ساعد الذات على البحث عن الارتقاء والتفرد في الرأي ووجهات النظر. كما هي حالة التضاد مع العالم، التي لازمت مبدعين كبار أمثال دستويفسكي/ رامبو/ كافكا، على سبيل المثال، بسبب المؤثرات المجتمعية والتاريخية، التي تشكلت مع حياتهم بكل صورها. وإبراهيم خضع لحياة كهذه، وضعته موضع الحيوية في امتلاك معارف مغايرة ومعرفة صاعدة. إن التقلبات في الحياة الأُسرية ساعدته كثيراً على تبني مشروع تطوير الذات بشكل عصامي متفرد.
إن شعرية الطفولة هنا تشكلت من هذا التلون، ولا نقول الاضطراب، بسبب قدرة الطفل والصبي والفني، على تصريف ممكنات الحياة والمواجهات التي تعرض لها. فالإدراك المبكر لازم شخصيته، ما صقل طبيعة كتابة السيرة وفق منظورات متعددة، فهو غير ملزم عبرها بالمنطق السائد، بقدر ما له رأي في ما يعيش ويحدث. هذا الموقف ألزم السيرة على الميل إلى الذات والآخر بموازنة واضحة وموضوعية، فهو لا يفرط بوجهة نظره إزاء نظره إلى الآخر. فهو ككاتب ليس مدوناً للتاريخ، بل إنه مدوّن للرؤى والتشوف المدعومين بوجهة النظر، أي أنه لا يلزم نفسه في قبول التحولات بسهولة، بقدر ما قام بتحليلها وإظهار موقفه مما حدث. فالتاريخ في السيرة داعم لتطوير الذات، وصقل وجودها بدون الخضوع لقوتها، التي ربما تضيف شكلاً من أشكال الخضوع للواقع. فالطفل والصبي والفتى، شخصية نامية ومتحولة غير ملزمة بالخضوع لرأي الآخر، ، وإنما ملزمة ببلورة الشخصية المتطلعة إلى البعيد. والدليل على هذا موقفه الذي شكّل وجهة نظر في رواية فيدور دستويفسكي «الجريمة والعقاب». وهو موقف معرفي ونقدي مبكر، على الرغم من عدم مطابقتنا لرأيه، لكنه من وجهة بناء الشخصية معرفياً كان جريئاً. أعقبه بسلسلة من دراسات ومؤلفات شكّلت شخصيته النقدية من جهة، وبلورت رؤى قارّة للتراث السردي والمروي. متمثلاً في موسوعة السرد المهمة، وصلتها بالاجتهاد، وليس البحث عبر الجمع والدراسة فقط.
ما نريد أن نؤكده في هذا الباب، أن إبراهيم عبر مسيرته، حقق نوعاً كبيراً من تشكيل الشخصية المعرفية المتحولة، والناظرة إلى كل ما يحيط بجدية الاجتهاد. كذلك اجترح له موقعاً مركزياً في النقد والبحث والتقصي الصعب والشائك.
امتدت السيرة من مرحلة الطفولة، مروراً بالتاريخ الطويل نسبياً لبلد مثل العراق، ووجود كاتب السيرة في الصدارة من المشهد الثقافي والاجتماعي، وتعّرفه على أسماء مهمة في المشهد.
مسارات طويلة
كما ذكرنا في ما نرى ونتلقى سيرة عراقية كهذه، التي وصلت بنا إلى مشارف التاريخ بأمانة، والذي هو تأريخنا، أي أننا نشاركه الرأي في ما دوّن وطرح من وجهات نظر في سيرة تاريخ العراق، لأننا عشنا التفاصيل، وبعضها لم يعشها لكنه أعطى رأيه فيها، من خلال الإجماع في الرأي. والسيرة كما نرى واسعة المساحة والمداخلات، لكن رصدها يتطلب الوقوف على ما يشكل سداها ولحمتها، فسعتها نابعة من مساحة تاريخ بلد عانى من التقلبات والصراعات بسبب توالي الاحتلال المتعاقب، الذي أورثه تركة ثقيلة تجسدت في النسيج الاجتماعي والسياسي، لدرجة أفقده الهوية الوطنية. وقد أكد على أن «الزهو الأيديولوجي الذي شاع في العراق طوال النصف الثاني من القرن العشرين، ونتج عنه عنف مبهم، كان هو البطانة الداخلية للحروب».
وهذا يؤكد على التأثير الذي تركه هذا التحول في شخصية تنوي بناء ذاتها باستقلالية تامّة. كذلك ما ذكره عن والده الذي توفي وهو في الثامنة من عمره.. مما ترك على ذاته أثراً كبيراً دفعه إلى إنماء وتطوير الذات فعبارة «مات ولم يُقبلني فيا له من أبٍ استثنائي»، ما يدلل عل حجم التأثير لهذا الوداع المر الذي خلّف «فصلتني عنه هوّة عميقة، ولم أندرج في عالمه المملوء بأشياء كثيرة أهمّ منِّي». وهو يمزج بين أُسطرة وجوده في الذاكرة بقوله «يمثل أبي أُسطورة العائلة، فصورته المخبأة في طرف الذاكرة ترجَّح أنه كان شيخاً، عصاميا، نحيلاً، طويلاً، صامتاً، وبلا عاطفة»، ومن هذه العيّنات الكثيرة وهو يتطرق إلى علاقته بالأب الراحل. لكنه لا يبتعد عن رؤيته لمثل هذا الوجود، بل فصّله بصورة خلق منها قضية (خاصة ـ عامة). وهذا شأنه في ما طرح من تفاصيل السيرة العراقية. لكنه في المقابل طرح رؤيته للعلاقة مع الأُم، التي ابتليت بالمرض، في عبارة «رضيع ما بلغت مدى الفطام»، ما شكّل وجوداً مضطرباً بين وفاة الأب ووجود الأُم العليلة. إذ نلاحظ مثل هذا المؤثر في حياته واضحاً حتى وفاة الأُم، ما شكّل طبيعة اعتماده على ذاته في اجتياز الصعوبات المفروضة على حياته. بمعنى أنه عانى من الكثير مما يحيطه، خاصة موقفه من بناء شخصيته، فكانت له علاقة مبكرة مع جماعة كركوك الأولى والثانية، خاصة مع جليل القيسي/ جان دمو/محمود جنداري. هذه الجماعة كان لها تأثيرها الواضح، ليس في المشهد الثقافي في كركوك، بل اتسع إلى بغداد وبقية المدن. وكان لكل من مؤيد الراوي، فاضل العزاوي، يوسف الحيدر، جان دمو، سركَون بولص أكثر تأثيراً، بسبب حيويتهم أولاً، وإدارتهم للصحافة الثقافية آنذاك. فكانوا علامة مؤثرة فينا جميعاً.
لقد امتدت السيرة من مرحلة الطفولة، مروراً بالتاريخ الطويل نسبياً لبلد مثل العراق، ووجود كاتب السيرة في الصدارة من المشهد الثقافي والاجتماعي، وتعّرفه على أسماء مهمة في المشهد. اتسمت هذه العلاقة باستقلالية وجهة النظر، والجرأة في طرح الرأي. فهو لا يكتفي بطرح وجهة النظر في ما يدور ويحدث في الواقع بشكله العام، والواقع الثقافي بشكله الخاص، بل يطرح وجهة نظره في الأحداث والموجات في الكتابة، كذلك في المفاهيم والرؤى التي يواجهها يومياً. هذا الحال أثّر في بناء شخصيته المستقلة كما ذكرت، وركز جديته في تلبية حاجته لمشاريع كبيرة. وأكمل دراسته في كل مراحلها وبصعوبة، حتى حصوله على الدكتوراه، بعدها دخوله معترك الموت أثناء الحرب الإيرانية العراقية، بصفته ضابطا مجندا. شارك في الحرب وشهد ما يدور في الحجابات، وبذلك لم يترك أي حدث إلا وطرح وجهة نظره فيه، أو موقفه المبدئي، ما وفّر للسيرة العراقية مناخات محاطة بالغنى والجمع بين سيرة الذات وسيرة الواقع. أرى أنها سيرة جامعة ومهمة، لأنها دوّنت تاريخ العراق، من خلال سيرة شخصية محايدة، مدعومة بوجهات النظر الحيوية، ولأنها سيرتنا كُتبت بالنيابة.
كاتب عراقي