شارع الحمرا يحتفل بالمزيد من الجداريات التي غيرت وجهه وجعلته مقصداً للزوار
بيروت-“القدس العربي”: يوماً بعد يوم يتحول شارع الحمرا إلى ناطق بحال المرأة اللبنانية من خلال الفن التشكيلي. وجوه وأسماء تقول بحراً من الكلمات والأفكار والمواقف. بعد أن كانت صباح الأيقونة تستقبل الوافدين إلى هذا الشارع بضحكتها وتفاؤلها المنثور في كل اتجاه، باتت الأبينة تحمل صوراً لنساء أخريات لهنّ شأنهن في الحياة الفنية والأدبية اللبنانية. قبل أيام أنجزت الفنانة رولا عبدو مهمتها برسم جدارية تجمع بين الأديبة أميلي نصرالله والفنانة التشكيلية هوغيت كالان على جدار آخر من مبنى الهورس شو، حيث تتواجد جدارية الصبوحة منذ رحيلها سنة 2015. الجدارية الجديدة التي لم ترفع الستارة عنها بعد نظراً لزمن كورونا تحمل عنوان “أنا حكاية”. وفي شارع المقدسي المتفرع من الحمرا أنجزت لينا بو حبيب وإيلي زعرور حديثاً أيضاً جدارية لفتاة بالثوب الأحمر تحمل مكبراً للصوت ولها حضور الثائرة بعنوان “القوة النسائية”. تلك الجدارية عبّرت عن الدور النسائي اللافت خلال الانتفاضة اللبنانية.
في جدارية نصرالله وكالان تشابكت الأيدي وتسابقت نحو الأعالي وتساندت. أيادٍ امتشقت أقلاماً وكتباً ومن حولها حلّقت الطيور، وفي الأعلى شمس وطفلة. أما في موقف السيارات الملاصق لمبنى السارولا فكان حضور لجدارية بوجهين نسائيين مختلفين. هما تمثلان المرأة بحالات مختلفة. ملابسهما زاهية الألوان وتنبض بالحياة. جسدان ممشوقان في وضعية رقص على رؤوس الأصابع. واحدة لها ملامح آسيوية وعلى رأسها وعاء من الورود، وكأن شجرة أطفال نبتت فوق رأس المرأة الثانية وعلى منكبيها.
هذه الجدرايات اُنجزت بالتعاون مع مؤسسة “فن من أجل التغيير” التي تقوم بدور الوسيط مع الراعين، وبإعداد كافة التسهيلات اللوجستية. عنها تحدثت لـ”القدس العربي” إيمان عساف ودجيسن كامب:
*نسأل عساف: متى بدأت مسيرة إبراز الوجه الفني والحضاري لشارع الحمرا؟
**نعمل منذ سنوات طويلة لكننا كمؤسسة فن من أجل التغيير بتنا في وضع قانوني في نهايات 2019. نختار جدرانا مميزة في إطلالتها لتنفيذ الرسوم. سعينا لنصبح مؤسسة بعد لمسنا لردّات الفعل الإيجابية على اللوحات الفنية على الطرقات. كما ولمسنا مدى قدرة تلك اللوحات في دعم مسيرة الفنانين وتطورهم. يزن حلواني نفّذ أول جدارية إثر رحيل صباح في سنة 2015 ومن بعدها بدأت مسيرته بالتطور وبات الآن فناناً عالمياً. كذلك صار المبنى المعروف بالهورس شو، علامة فارقة في الحمرا وبات “بناية صباح”. وفي 2016 أنجز جاد خوري جداريته المعروفة بالـ”بوتيتو نوز” وإثرها طُلب منه إنجاز مبنى في باريس. وفي 2019 طلبت منه شركة “سووتش” تصميماً لساعة. يمكن القول إننا كمؤسسة نفتح الأبواب للفنانين اللبنانيين عبر دعمهم لأن يصبحوا عالميين، مع التأكيد المسبق أن طموحهم وفنهم يأخذ بهم نحو الأمام.
*ما هو التغيير الذي يحدثه الفن وخاصة التشكيلي منه؟
**التغيير المباشر والملموس أن الداخل إلى شارع الحمرا بات مرفوع الرأس مراقباً ابتسامة صباح بخلاف النظرة سابقاً نحو الأرض. الطاقة الإيجابية باتت ترافق المارة في شارع تبدلت ملامحه وبات تراثياً. من جهة أخرى حلّ الفن في الشارع وبات مقدراً، ولم يعد محصوراً في الكاليريهات. الجديد أن مؤسسة “ويمين ديليفر” من الولايات المتحدة قررت دعمنا لتنفيذ مزيد من الجداريات المعبّرة عن المرأة، وكان خيارنا الفنانة رولا عبدو لترسم أميلي نصرالله وهوغيت كالان. وكان الخيار ناتجاً عن توافق بين جميع الأفرقاء، كون المرأتين مؤثرتين ثقافياً. نصرالله كاتبة معروفة جداً وأدبها تُرجم للعديد من اللغات، وكذلك حال رسوم كالان المشهورة جداً. هما مناضلتان في سبيل المرأة واحدة بريشتها والثانية بقلمها.
*كيف كان الجمع بين نصرالله التي عاشت ورحلت بخفر وتأكيد على انتمائها الفلاحي وبين كالان الجريئة في رسم جسد المرأة العاري؟
**وهذه المفاضلة كنا بصدد البحث عنها والتي من شأنها أن تُحدث الفرق. ومن المفارقة وحسن الحظ معاً حين تواصلنا مع عائلتي الراحلتين تبين أنهما كانتا متعارفتان وصديقتان.
*من هم أعضاء مؤسسة فن من أجل التغيير؟
**دجيسن كامب وأنا أسسنا فن من أجل التغيير إلى جانب أعضاء آخرين. دجيسن مختص في تنظيم فنون الشارع، وصلاته في هذا الجانب دولية. من جهتي أهتم بالتواصل مع الناس والفنانين في لبنان، فيما يهتم دجيسن بتقنيات العمل للجداريات المزمع انجازها.
*لماذا اختيار عنوان “أنا حكاية”؟
**”أنا حكاية” قصة كتبتها أميلي نصرالله، وهذا ما ظهر في أعلى الجدارية التي رسمتها رولا عبدو، وكذلك ظهرت ريشة وألوان تمثلان هوغيت كالان. إذاً هي حكاية المرأتين معاً، وفي المستقبل ستكون لنا جداريات لها حكايات وطنية، وعن الثورة. فمع إنطلاقة ثورة 17 تشرين الأول/اكتوبر بدأنا تنفيذ العديد من المشاريع في وسط بيروت ـ البلد ـ ، وكذلك في طرابلس، والشويفات، وشركة الكهرباء وجميعها تحكي عن الثورة. لقد عبّرنا على مدى أشهر عن ثورة الناس من خلال الفن التشكيلي.
*وهل ما رُسم حتى الآن كاف للتعبير من واقع المرأة اللبنانية؟
**ما من موضوع واحد يمكنه التعبير عن المرأة. في الثورة تواجدت المرأة ولا تزال بقوة وفي الصفوف الأمامية. وهي موجودة في البيت، وهي أم، وفي المجال الطبي والأمني. وكانت المرأة في طليعة المقاومين خلال الاحتلال الإسرائيلي.
*ما هي ردة فعل الناس على جداريات شارع الحمرا وكذلك منطقة ساسين في الأشرفية؟
**إيجابية للغاية. جداريات الحمرا أعادت إحياء الشارع وأزداد عدد قاصديه بهدف تصوير الجدران. منهم من يأتي فقط بهدف البحث عن الأعمال الفنية.
ورداً على هذا السؤال يقول شريك إيمان عساف في مؤسسة فن من أجل التغيير دجيسن كامب: سكان شارع الحمرا باتوا يفتخرون بوجودهم بين تلك الجداريات، كما أنهم باتوا يعيشون مزيداً من مشاعر الانتماء للمكان. كنت أعرف مشاعر الناس قبل الآن حيال فن الغرافيتي وهي بتعبير دقيق تشبه الأوساخ حسب البعض. حتى أن فناني الغرافيتي كانوا يخشون التصريح عن ذاتهم. الآن اختلف الواقع بقوة، بات هناك تقدير للفن بشكل عام ولفن الغرافيتي تحديداً.
*ونسأل دجيسن كامب إن كان تنفيذ جدارية في لبنان يشبه في مراحله ما يحصل في أي بلد غربي؟
**التقدير في الغرب لفن الغرافيتي والجداريات أكبر وكذلك التعبير محرر من كل القيود. في لبنان التعبير عن المشاعر محدود ومحاط بالعديد من المخاوف نتيجة المحرمات. الجديد أن الثورة حررت هذا الفن من بعض القيود والتعبير بات أكثر يسراً. الجداريات اليوم تحظى بتقدير كبير بعكس البدايات. لكن ثمة فنانين لبنانيين يخشون من زيارة الجنوب على سبيل المثال.
*وكم أنتم مؤمنون بدور الفن في التغيير؟
**تقول عساف: إنها طريقة التعبير الوحيدة المفهومة من جميع الناس أينما كانوا ولا تحتاج إلى ترجمة. والرسومات التي ولدت من رحم الثورة كانت موضوعاً إعلامياً عالمياً خصباً. إذاً الرسم والفن هو اللغة التي يتكلمها جميع الناس ويفهمونها، ومن دون شك هي لغة التغيير. فن الشارع بات مطلوباً.
ويقول دجيسن: الفن عمّق ورسخ مشاعر الفخر والإنتماء. الرسم المنتشر في الحمرا وفي وسط البلد وهو تعبير عن لبنان الحضاري، وبدون شك سيكون له دوره القوي في التغيير.
*كيف يتم اختيار الفنان أو الفنانة لهذه الجدارية أو تلك؟
**تقول عسّاف: نحاول الدمج بين رؤية أصحاب المبنى بعد الحصول على موافقتهم القانونية ورؤية من يقوم بتمويل هذه الجدارية مع رؤية الفنان. لسكان المبنى رأيهم الأساسي فهم من يعيشون فيه وهذا حقهم. وفي الواقع نحن من يساهم في خلق فنانين للجداريات. فرولا عبدو لم يسبق أن مارست هذا الفن. وليا بو حبيب التي رسمت امرأة الثورة فنانة كلاسيكية خرجت من الكانفاس إلى الشارع. فنانو الشارع في لبنان أقوياء، ونحاول أن نجد لهم الفرص للتعبير من خلال الرسوم الكبيرة. نحن كمؤسسة فن من أجل التغيير “اوربن آرت” إلى جانب كوننا “ستريت آرت” وهو ليس غرافيتيا فقط بل لوحات فنية. فقد نظمنا معرضاً للفنانين الذين عملوا مجاناً خلال الثورة في أستوديو فن من أجل التغيير. عرضت خلاله لوحات رُسمت في الشارع وهذا كان جيدا لنا ولهم. كذلك عرضنا أعمالهم في مصر في معرض دولي، ونعمل ما بوسعنا لمساعدتهم.
رولا عبدو التي أنجزت الجدارية بمساعدة من زميلتها وصديقتها ماري شمّاس قالت لـ”القدس العربي” رداً على سؤال:
*ما هي الأبحاث التي قمت بها كفنانة كانت بمواجهة مهمة رسم حكاية كل من أميلي نصرالله وهوغيت كالان؟
**جدارية “أنا الحكاية” مشروع مولته جمعية “ويمين ديليفر” في نيويورك بالتعاون مع عدد من الجمعيات اللبنانية بهدف دعم المساواة بين المرأة والرجل في لبنان والعالم العربي. التعاون بين الجمعيات في لبنان والعالم كان بهدف جميع مزيد من المال في سبيل مزيد من المشاريع. وجدوا أن من أهداف الجدارية أن تترك انطباعاً لدى كل من يشاهدها أن عدداً لا بأس به من النساء تركن أثراً وكنّ رائدات. والأهم تشجيع الجيل الصاعد من الفتيات والنساء على متابعة حياتهن بكل طموح. عندما توليت المشروع كانت الرغبة برسم أكثر من رمز نسائي. فعدد النساء اللواتي سجلن انجازات في لبنان كبير، وهنّ كسرن الكثير من الحواجز لتحقيق الوصول إلى حيث هنّ الآن. القرار النهائي كان برسم أميلي نصرالله وهوغيت كالان، فهن بالنسبة لي امرأتان اختارتا طريق الفكر والثقافة والفن للتعبير. أميلي نصرالله من خلال كتبها ورواياتها والأثر الذي تركته ولا تزال لدى الأجيال المتعاقبة. وهوغيت كالان من خلال شغفها بالفن والرسم. شغل كالان وسواس الحرية فتبعت شغفها بالرسم وتركت كل ما عداه. هي المرأة التي وعت أن بداخلها بركان فن وحرية ليس لها قدرة ضبطه. اخترت كالان ونصرالله لأنهما غادرتا من زمن ليس ببعيد ولأنهما حقيقة تستحقان التكريم. وهكذا رسمت وجهيهما على هذه الجدارية بالأسود والأبيض، وأحيطهما معاً بالأيدي المتشابكة والمتساعدة والمتعاونة، لأقول إننا بذلك قادرون على الوصول. ترمز تلك الأيدي إلى النساء الداعمات لنصرالله وكالان في تحقيق أهدافهن بالوصول إلى حيث وصلن. وفي أعلى تلك الجدارية فتاة صغيرة تتابع رسم أشعة الشمس، وثمة أيدي تمسك بيدها لتقوم بمهمتها. قد يشكل هذا النوع من الأعمال وحياً ودعماً للفتيات والنساء في لبنان والمنطقة. وأنهن من خلال التعليم والفن والفكر والمعرفة قادرات على تقرير مصيرهن ومتابعة رسم حياتهن. لتحقيق هذا الهدف استعنت برواية “طيور أيلول” لنصرالله، وبعض القطع من لوحات كالان التي رسمت كثيراً من السفن والأشرعة كرمز للحرية. الوجهان يمثلان المرأتين في عمرهما المتقدم ويحملان خبراتهما من خلال التعابير. الخطوط تقول الكثير مما أنجزته المرأتان المبدعتان، مع احتفاظهما بالصفاء وحب الحياة.
*في مشروع حكاية نصرالله وكالان هل تُركت لك حرية الحركة والتعبير أم للممول رأيه؟ هل تناقشين الأفكار القابلة للتنفيذ؟
**عندما تواصلت معي إيمان عسّاف من مؤسسة فن من أجل التغيير ومن قبل “ويمين دليفر” وبقية الجمعيات المشاركة، كان التشاور ضرورة وصولاً لإقتناع الجميع بما ستحمله الجدارية من تعبير. وبأنها ستقول الرسالة التي تمثل كافة الأطراف. كان نقاش حول الوجه الذي سنكون بصدده، ومن ثم كان قراري بأن نصرالله وكالان هما الأنسب. كانت الموافقة من المشاركين بالمشروع، ومن ثم عائلتي كالان ونصرالله. هذا في الأساس، أما ألوان وشكل اللوحة فكان لي.