لمع مؤخراً اسم أمين بودشار، المؤلف والموزع الموسيقي والمايسترو، الذي حقق شهرة واسعة في بلده المغرب، وذاع صيته خارج المغرب أيضاً، وتعرف الكثيرون في البلدان العربية الأخرى، على ما يقدمه من فنون، وحفلات لها طابعها الخاص. أتى الفنان المغربي الشاب، بمعادلة موسيقية جديدة تماماً، وشكل مختلف للعملية الفنية، إذ قام بإدخال تغييرات على حدودها المعروفة، ووظيفة الجمهور الذي يعد ركناً من أركان العملية الفنية، حيث لا يقتصر دور الجمهور، على الحضور والتلقي وحسب، بل يشارك بتفاعل كبير، ويقوم بالغناء الجماعي، على وقع ما تعزفه الفرقة الموسيقية.
ومن المعروف أن أي عملية فنية، تقوم بوجود الفنان والمتلقي، والمكان الذي يجمعهما، سواء كان هذا المكان واقعياً، يجمعهما من خلال الوجود الجسدي، كالمسارح والساحات المفتوحة والقاعات المغلقة، أو كان مكاناً متخيلاً يجمعهما، من خلال التسجيلات المسموعة والمرئية، والأجهزة الحديثة التي لا تكف عن التطور. فقديماً على سبيل المثال، وقبل أن يتمكن الإنسان من تسجيل الصوت، وحفظ الأنغام الموسيقية على أسطوانات، كان الشيء الوحيد الذي يجب أن يفعله، من يريد الاستماع إلى الموسيقى، هو الذهاب والجلوس أمام العازفين مباشرة، والاجتماع معهم في مكان واحد، ولم يكن يستطيع أن يعيد الاستماع إلى تلك الموسيقى، إلا من خلال حضور حفلة حية مرة أخرى. ثم تعددت ألوان السماع والفرجة والتلقي، ولا تزال آخذة في التجدد بأشكال مدهشة.
طبيعة العملية الفنية عند أمين بودشار، هي أول ما يلفت النظر عند متابعة أعماله، لأنها الشيء الجديد غير المعتاد، بعد ذلك يأتي التعمق في مؤلفاته الموسيقية، وما يقوم بإعادة توزيعه من ألحان الأغاني المعروفة، وقيادته للفرقة الموسيقية أثناء الحفلات، ومشاركتهم بالعزف أحياناً، على آلة الأورغ، ليكون المايسترو وأحد العازفين في الوقت نفسه.
ولد أمين بودشار في المملكة المغربية سنة 1990، ونشأ في مدينة المحمدية، وبعد أن أتم دراسته الثانوية في المغرب، سافر إلى فرنسا من أجل دراسة الهندسة، ثم عمل مهندساً في الإحصائيات، لكنه طوال مسيرته العلمية، لم ينفصل عن الفن الذي يهواه منذ الطفولة، ولم يهمل موهبته الموسيقية، فبدأ من خلال بضع تجارب ومشاركات في فرنسا، إلى أن كانت الانطلاقة الحقيقية، من المغرب في العام الماضي، وما أن تحقق النجاح الباهر في المغرب، وهو نجاح للفنان المغربي، وللجمهور المغربي على السواء، بات النجاح مضموناً في أي بلد من البلدان، حيث انتشر إشعاعه وترددت أصداؤه، في كثير من البقاع الأخرى، وصار الجمهور خارج المغرب، متشوقاً إلى هذه التجربة الفريدة، وإلى أن يكون جزءاً من عملية أمين بودشار الفنية، في مصر وبقية الدول العربية. ولا يخفى أن أغنية «جانا الهوى» التي قدمها أمين بودشار، في إحدى حفلاته في المغرب هذا العام، وغناها الجمهور المغربي بإتقان مذهل، كانت حديث الساعة في مصر، لعدة أيام متواصلة، على وسائل التواصل الاجتماعي، وجميع وسائل الإعلام الأخرى، من صحف ومواقع، وإذاعات وتلفزيونات، إذ انبهر المصريون بسماع أغنية مصرية، بصوت الجمهور المغربي القادم من بعيد، وأدائه الرائع المنضبط إلى أقصى درجة، والتنفيذ الموسيقي البديع.
الجمهور الفنان والفنان المتلقي
يقف أمين بودشار على خشبة المسرح، ومن حفلة إلى حفلة، يلتقي بجمهور جديد، وعندئذِ يتحول الجمهور إلى فنان، ويتحول الفنان إلى متلقٍ، أو يتحول أمين بودشار وفرقته الموسيقية، إلى مجموعة من المتلقين، فالموسيقي العازف، وهو يقدم فنه ويعزف موسيقاه، يكون في الوقت نفسه، يتلقى فناً آخر من الجمهور، وتكون الفرجة متبادلة، والسماع متبادلاً. يقدم كل منهما المتعة للآخر، ويفاجئه ويبهره ويؤثر فيه. أقام أمين بودشار مشروعه الفني، الذي لا يزال في بدايته، على فكرةٍ تمثل جانباً كبيراً من هذا المشروع، ولا تمثل المشروع كله، هذه الفكرة هي «الكورال هو أنتم». حيث أراد أن تكون الموسيقى، تشاركية وتبادلية بين الجمهور والفنان، وأن يكون هناك، ذلك التفاعل الجمعي القوي، الذي يفوق التفاعل المعتاد، بل إنه في بعض الأحيان، يقوم بالتشاور مع جمهور الحفل، الذي قطع التذاكر، حول الأغاني والألحان، التي سيتم عزفها، ويتيح لهم اختيار بعض هذه الأعمال. أما من يتابع حفلات أمين بودشار، من خلال الفيديوهات المسجلة، فإن المتلقي في هذه الحالة، يتابع الفنان وجمهوره معاً، ويصغي إلى صوت الجموع، كجزء أساسي من العملية الفنية. علاقة الجمهور بالفنان، في حفلات أمين بودشار، عبارة عن حوار حي، وتفاعل يحقق الكثير من التواصل والمتعة، وهو شيء جديد، لم نر ولم نسمع مثله من قبل، ذلك أن الجمهور ينوب تماماً عن المطرب، أو عن مجموعة المغنين، ويقوم هو بالغناء الفعلي الكامل، لا مجرد ترديد كلمات قليلة، كما يحدث أحياناً مع بعض المطربين.
في البحث عن أسرار تميز ونجاح أمين بودشار، يُرجع البعض الأمر إلى موهبته ودراسته العلمية، وعلوم الهندسة الإحصائية والرياضيات، على وجه الخصوص، والرياضيات كامنة في جوهر الموسيقى، كما هو معروف، وربما يعود ذلك التفسير، أو الشعور لدى البعض، إلى دقة التوزيع الموسيقي، الذي يقوم به بودشار للألحان المعروفة، وكذلك طريقته في تأليف الموسيقى، حيث البناء المنظم، والقدرة على خلق التكوينات المتشابكة، والموازنة بين الألوان الموسيقية المختلفة، وتقديمها من خلال وحدة متكاملة. لا يقتصر الأمر في حفلات بودشار، على عزف الألحان المعروفة، وقيام الجمهور بغناء الكلمات، فهو يقدم بعض مؤلفاته الموسيقية البحتة، التي يصغي لها الجمهور صامتاً، ومن هذه المؤلفات الموسيقية، قطعة بعنوان «موزاييكا»، يستغرق عزفها سبع دقائق تقريباً، قسمها بودشار إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول أتى مشرقياً، مع بروز لآلات العود والقانون والناي، ويجمع هذا القسم الأول، بين الإيقاع التعبيري المتقاطع مع انسياب الوتريات، مع شجن الروح العربية. ويغلب على القسم المشرقي طابع الغنائية، فيبدو كلحن مصاحب للغناء، دون أن يكون هناك غناء، وينتقل القسم الثاني من المقطوعة، إلى الروح الغربية إلى حد ما، حيث إيقاعات الجاز وأنغامه وارتجالاته. ثم ينتقل القسم الثالث إلى النغم المغربي، بموازينه وإيقاعاته ومقاماته. تعد مقطوعة «موزاييكا»، من أجمل مؤلفاته الموسيقية، وهي لا تزال قليلة بطبيعة الحال، فأمين بودشار لا يزال في بداية مشواره الفني، ويمكن القول إن مقطوعة مثل «موزاييكا» هي من بواكير إبداعاته الخاصة، لكنها على الرغم من ذلك تعد كاشفة عن بعض الأمور، ويمكن من خلالها، التعرف على العقل الذي يقف وراء هذه الموسيقى، وهوية الفنان وإحساسه، وما يريد أن يقوله ويقدمه، وما يحاول التعبير عنه. فالقطعة تشير إلى أهم المكونات، التي تشكل وجدانه الموسيقي، فالموسيقى المغربية هي الروح والأساس بلا شك، ولا يخفى تأثير الموسيقى المشرقية عليه، وكذلك لا يخفى ميله الواضح نحو موسيقى الجاز. ومن مؤلفاته الخاصة أيضاً، مقطوعة بعنوان «تعريضة»، يستغرق عزفها ست دقائق تقريباً، وهي من تأليفه، لكنه استوحى بعض أجزائها، من التراث المغربي، تبدأ القطعة سريعة، ثم تذهب نحو الارتجال قليلاً، مع انفراد بعض الآلات، وتبدل الإيقاع من حين إلى آخر. ومن التراث المغربي أيضاً، استلهم أمين بودشار، مقطوعة بعنوان «جبلي جام»، التي تصهر اللون الجبلي، الموجود في شمال المغرب، مع بعض الألوان الموسيقية الأخرى كالجاز، ونستمع أيضاً إلى قطعة جميلة، من مؤلفاته الخاصة بعنوان Bartiya Groove وهي موسيقى حزينة إلى حد ما، ولا تخلو هي الأخرى من الارتجال وتأثيرات الجاز.
يقدم أمين بودشار في حفلاته، الكثير من ألحان الأغاني المشرقية، ويغني الجمهور المغربي، كلمات هذه الأغاني بتفاعل كبير، ويكون معظم هذه الألحان من الأعمال الطربية القديمة، للأسماء الكبرى في عالم الغناء، مثل أم كلثوم، التي قدم من أعمالها، لحن «ودارت الأيام»، ولحن «ألف ليلة وليلة»، وعبد الحليم حافظ الذي قدم له لحن «جانا الهوى»، وحقق النجاح الكبير في مصر. وأغنية المطربة المغربية عزيزة جلال «مستنياك»، وهي أغنية باللهجة المصرية لحنها بليغ حمدي. وقدم من أعمال فيروز، أغنية «سألوني الناس»، وأغنية «نسم علينا الهوى». وقدم العديد من الأعمال الأخرى لكل من وردة، ونجاة الصغيرة، ومحمد عبده وكاظم الساهر، وكذلك بعض الأغنيات الحديثة مثل أغنية «ثلاث دقات». أما الأغاني والألحان المغربية، فهي كثيرة ومتنوعة لدى أمين بودشار، ومن الطبيعي أن نجد في الريبرتوار الخاص به، أهرامات المغرب الثلاثة، محمد الحياني، عبد الهادي بلخياط، عبد الوهاب الدكالي. ومن أجمل ما يقدمه ويغنيه الجمهور المغربي، أغنية «بارد وسخون يا هوى» لمحمد الحياني، وأغنية «ما تاقش بيا» لعبد الهادي بلخياط، وأغنية «مرسول الحب» لعبد الوهاب الدكالي. وبعض هذه الألحان، من تأليف الموسيقار المغربي حسن القدميري. كما يقدم لحن أغنية «وعدي» للفنانة المغربية سميرة سعيد. وهناك بعض الأعمال الأخرى أيضاً، كأغنية «آش داني» لإسماعيل أحمد، وأغنية «كاس البلار» لفتح الله لمغاري. ومن أهم الأغنيات، التي يقدمها أمين بودشار في حفلاته، التي تمس أعمق المشاعر الوطنية لدى المغاربة، هي أغنية «نداء الحسن»، حيث يرفع بودشار العلم المغربي، ويمسك به أثناء وقوفه على المسرح، وكذلك يرفع الجمهور علم بلاده، ويغني الجميع: «صوت الحسن ينادي، بلسانك يا صحرا، فرحي يا أرض بلادي، أرضك صبحت حرة». وتعيدنا أغنية «المغاربة سبوعة ورجالة»، إلى أجواء كأس العالم في قطر، وما حققه المنتخب المغربي من إنجاز هائل لا يُنسى، والأغنية للفنان المغربي العالمي ريد ون، يغنيها الجمهور المغربي مع موسيقى بودشار، بحماس لا مثيل مرددا: «هلا هلا هلا، المغاربة سبوعة ورجالة، ديروا ديروا النية، ينصرنا العالي تعالى».
كاتبة مصرية