أمين نخلة (1901/1976) الشاعر اللبناني الذي نفذ إلى جوهر الشعر واللغة معا، فزاوج بين التأمل ومحاولة القبض على معاني الوجود في هدوء وسلاسة، مع إدراك فطري لموسيقى الألفاظ، حتى لتغدو الكلمات في شعره شلالا باهرا من الإيقاع العذب الذي تأنس له النفس.
زاوج بين الرومانسية والبرناسية، دون أن يذهب في رومانسيته إلى حد تمجيد الألم وتغليب الوحدة والتبرم من الناس والشكوى، ولكنه أحب الطبيعة، فقد عاش راضيا بنصيبه من الحياة محبا للأنس سعيدا بعائلته، تستهويه الطبيعة فتأتي الكلمات طوع قريضه وفيض إلهامه، وحتى الكلمات التي يراها الواحد غير شاعرية تنقلب في أبياته شاعرية، ترن في أذن السامع وتهمس وتنفذ إلى وعيه، فلا ينفك يستزيد من جمال الإيقاع وعذوبة اللغة وجمالها، وكذلك كان أمين نخلة ناسكا في محراب اللغة والطبيعة معا، وتأتت له هذه التراتيل من الجمال والعذوبة والمعاني البكر التي لفها بغلالة من دقيق التشبيهات، ولطيف الاستعارات بصورة مذهلة.
لم يكن أمين نخلة يذهب في الحياة مذهب المتشككين، ولا يأخذ برأي الجاحدين والساخطين والثائرين على الأرض والسماء معا، ففي الكتاب المقدس وجد الدعامة الميتافيزيقية والروحية، التي وهبته السكينة وأراحته من نكد التوتر وقلق الوجود، فلا يجد القارئ لأشعاره هذه الشكوى من الناس والحياة التي يجدها في شعر الرومانطيقيين في زمنه أمثال، الشابي والهمشري وعلي محمود طه وصالح جودت وغيرهم، بل يجد مشاركة لهم في حب الطبيعة والخلود إليها، فهو مثلهم يجد الشعر في طائر على فنن، وفي شلال، وفي غروب الشمس، وفي هزيم الرعد، لكنه يتفوق عليهم في نزعته البرناسية التي تخلص للفن وتعتدل في المشاعر، وتستخلص من تلك الموجودات الطبيعة جمالها ووقائعيتها، دون أن يجعل منه منبرا للتنديد بمظاهر النقص الإنساني أو الوعظ الأخلاقي، أو الثورة على الظلم، كما نجد ذلك عند الرومانسيين، الذين ما كان هروبهم إلى الطبيعة إلا هروبا من المجتمع، وثورة على قيمه ومظاهر النقص فيه، كما لا نجد في شعر نخلة هذا السخط الوجودي والقلق الميتافيزيقي الذي نجده عند جبران مثلا.
شاعر أحب اللغة وأدرك جمالها وجمال الإيقاع، ووجد في الطبيعة مظهرا للتعبير عن ذلك الجمال بجمال موسيقي آخر، فجاء شعره بإجماع النقاد علامة فارقة على الجودة والشاعرية معا. عرف أمين نخلة بروحه المحبة للمتعة في اقتصاد، وفي تآلفه مع المحيط الذي عاش فيه، فجاء شعره صورة لذلك الرضا وذلك الحبور، ولكن يزيد فيه أيضا جمال اللغة وروعة الموسيقى المنبعثة من ألفاظه، لكأنه شلال ترن لغته بطيف سمعي تماما، مثل الطيف البصري، النبر، الجزالة، السلاسة، التآلف، البعد عن الإغراب والتكلف، إصابة المعنى، الانسيابية هذه هي الخصائص اللغوية والصوتية المشكلة للغته، وقد انتبه إلى ذلك كل الذين عنوا بشعره كنقاد أو كقراء معجبين بشعره، حتى عُدّ فريدا في فنه.
كيف تأتى له ذلك؟ لقد عاش في فترة تميزت ببلوغ الكلاسيكية الرصينة منتهاها في أشعار البارودي وشوقي وإسماعيل صبري، وفي بدء ظهور التيار الرومانسي في الثلث الأول من القرن المنصرم، وقد كانت الرومانسية تأخذ بالعقول والقلوب معا – حيث اصطلح على قلب الشاعر هزال الواقع ورهافة الحس – بنزعتها التجديدية ونبذها للتقليد وتمجيدها للذات وكراهيتها للتقليد وللرتابة وللاندماج في الوسط الجمعي، لأنه لا يورث إلا البله، من فرط التعود وفي الطبيعة منأى لكل من يروم الإبداع والتجديد والنأي بالنفس عن مسالك مألوفة، هذه الكلاسيكية التي عبّ منها أمين نخلة كقارئ ومتذوق، وهو شديد الحساسية اللغوية والباع اللغوي والشعري، فقد كان عارفا بالأدب قديمه وحديثه معرفة الحاذق البصير ولكنه نأى بالممارسة الشعرية على منوال الكلاسيكية الرصينة، وفي الوقت ذاته، لم يذهب مذهب الرومانسيين في الحياة، وإن شاركهم في خصيصة الوله بالطبيعة ككل، سواء أكانت في مظاهر طبيعية، أم إنسانية أم حيوانية أم انفعالات بشرية؟ نافذا إلى جوهر الشعر من حيث هو تلبس بالحالة الشعرية، وقبض على المعنى، أو تأمل ومحاولة لفك حجب الغيب وما استعصى على الإدراك، وكان عصيا على الإحاطة لعموم الناس، ولكنه حتى في هذا المنحى لم يذهب بعيدا، فهو يجنح دائما إلى الرضا والاستمساك بموروثاته العقيدية والاجتماعية، وما جبل عليه، بعكس الذين جاؤوا من بعده، أو كانوا من مجايليه، حيث نجد عندهم قلق السؤال وتوتر الوجود، وربما حتى الرغبة في الهدم، وهذا ما يقصد حين يصنف كبرناسي المنزع.
ها هو في الحب وقد كان مفتونا بالمرأة وبالجمال، على عادة الشعراء، ولكنه لم يذهب مذهب المتشككين ولا القانطين ولا المحاولين تعرية مشاعر المرأة المترنحة بين الغيرة وحب الإيذاء والتلذذ به، والتلاعب أو الخيانة كما رماها آخرون، لقد أحب المرأة وأخذ بنصيبه منها وشرب من كأس الحب والمتعة في اعتدال، وكان راضيا بذلك النصيب شاكرا للمرأة صنيعها معه:
أحبـك في القنوط وفي التمني
كأني منك صرت، وصرت مني
أحبـــك فوق ما وسعت ضلوعي
وفــــــوق مدى يدي وبلوغ ظني
هــوى مترنح الأعطاف طلق
على ســهل الشباب المطمئن
ففي النغم العميق إليك أمشي
وأسلك جانب الـوتر المرن
ولعل في هذا المقطع تظهر بعض خصائصه الشعرية، فالألفاظ من المألوف المتداول، بل إن بعضها يبدو منفردا ـ قبل الصياغة – غير شعري:
القنوط،، وسعت، أسلك، ولكنها لما أخذت مكانها في القصيدة صارت شاعرية بامتياز، وهذه عبقرية أمين نخلة وحسه اللغوي والموسيقي والجمالي، وهكذا يجمع الشاعر بين الأنغام دفعة واحدة في قصيدته فمشيه إلى حبيبته نغم، ومسلكه وتر مرن، وألفاظه كلها شلال دافق من الموسيقى التي كانت نوتاتها الألفاظ ذاتها، ولكنه أحكم تأليفها مما لا يتهيأ إلا للقلة القليلة من أمثاله، ويأتي الرضا بالحبيبة والسعادة بالحب والوفاء فيه مسلكا خاصا بأمين نخلة، الذي عاش راضيا سعيدا بحبه ومحبوبه، قانعا بنصيبه من الدنيا لا يسخط ولا يغضب ولا يثور. وتظهر النزعة البرناسية جليا في قصيدته المعنونة بـ«الكحل» حيث يصف بالكلمات ويرسم رسما برناسيا خالصا للعين المكتحلة:
امتنت بالتدقيق والضبط
يا واضع الخط على الخط
كحلك هذا أم سواد الدجـى
تحت التماع الغيث والنقط
لما سألنا الكحل هل تبتغي
منصرفا؟ قال لنا.. قــط
ولا يخفى على كل ناقد للشعر متذوق له عارف بأسراره وباللغة أن قافية الطاء يتحاشاها الشعراء، فعهدنا بالشعراء يؤثرون الهمزة والباء والميم والراء حسب الغرض الشعري، والطاء يتحاشاها الشعراء لكأنها قافية غير شعرية وصعبة معا، ولكن عند أمين نخلة فالألفاظ التي تبدو غير شعرية يلبسها أكسير الشعر وينفخ فيها من روح عبقر فتصير كعروس المروج ترفل في حلل الشاعرية.
ولأمين نخلة قصائد برناسية رائعة في موضوعات غزلية وطبيعية تكشف عن شاعرية وبراعة لغوية ومهارة برناسية كقصيدة «العقد الطويل» وقصيدة «الوردة الحمراء» و«القصيدة السوداء» و«القميص الأزرق» و«الحبيب الأسمر» و«المعطف» و«البلبل» و«الشلال» وقصيدة في وصف أداء موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، حيث برع الشاعر في بيان معرفته العميقة بالموسيقى وبطبقات الصوت فقال، في أداء موسيقار الأجيال:
«محمد» الفن ته علينــــا
قصر عن شأوك القصيد
أشـــــاعر أنت أم مغــن
يقول باللحن مـا يــريد؟
حنجرة كالـــحرير لانت
ربك في لطفها يزيــــــد
الله! الله ! في غنــــــــــاء
ينزل فيه ظــــل مـــديد!
فكيف تهيأ للشاعر أن يجمع بين جمال وإيحاء ملمس الحرير في أناقته ونعومته، ووصف صوت الفنان تارة وبالظل المديد تارة أخرى؟
لا نخال أمين نخلة في وصفه الشاعري هذا لصوت عبد الوهاب قد قصر عن عبقرية ابن الرومي، بل طاوله وهو يصف وحيد المغنية في قصيدة المشهورة:
مد في شأو صوتها نَفَسٌ كا
فٍ كأنفاس عاشقيها مَديـــدُ
وأرقَّ الدلالُ والغُنْجُ منــــه
وبَراهُ الشَّجـــــا فكاد يبيــــدُ
فتراه يموت طَوْراً ويحيــــا
مُسْتَلَذّاً بَسِيطُهُ والنَّشِيـــــــــدُ
إن ديوان أمين نخلة يحفل بمختلف الأغراض، وإن كان يقتصد وينأى عن شعر المناسبات، ويقتصد في المدح وإن تناوله باعتدال وأريحية وشهامة لا تلغي الذات الشاعرة، ولا تسف بها ولا تجنح إلى الغلو في الممدوح والتبذل والتفاهة والسفاهة، بل هو المدح الإنساني الذي يحفظ كرامة المادح ولا يبذل ماء وجهه في حضرة الممدوح، وله في الرثاء قصائد جميلة مشجية معبرة عن الأسى ولوعة الفقد وخصلة الوفاء فيه وقصيدته في الروائي والكاتب الشيخ سعيد تقي الدين الذي مات وحيدا غريبا في «كولومبيا» مازالت مشهورة ومطلوبة:
جمعت عليك مآتم الأضـــــــداد
بعد اختلاف عقائد ومبـــــــادي
لما انقضى زمن الربيع بكى لـه
في الأرض أهل ربى وأهل وهاد
زعموك حرب الضاد زعم جهالة
أتعق بيتك يا بن بيت الضـــــــاد؟
«كولومبيا» أرض السواد ثوى بها
ما شئت من وضح وبيض أيادي
ومن يقرأ هذه القصيدة ولا يتداعى على خاطره تفجع البارودي على زوجته في رصانة الكلاسيكية وعنفوانها؟
لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي
تقوى على رد الحبيب الغادي
يــــا دهر فيم فجعتني بحليلة
كانت خلاصة عدتي وعتادي!
أو دالية أبي العلاء في قصيدة رثائه لصديقة أبي حمزة الفقيه، ومن يقرأ قول أمين نخلة في الشيخ سعيد الدين:
حفظ التذكر من سعيد صورة
باتت لأيام الفراق عتــــــادي
ولا يتداعى على خاطره قول المعري في صديقه أبي حمزة:
قصد الدهر من أبي حمزة الفقيه
مولى حجى وخدن اجتهاد
كل هذا وذاك يعود بنا إلى المخزون اللغوي والشعري لأمين نخلة، واتكائه على شعراء كبار في شاعريته ثم عبقرية وحس شاعري وحاسة جمالية تستشعر الموسيقى والجمال والانسيابية في اللغة، وتنتقي من اللغة كلمات بل نوتات موسيقية لا تختلف عليها أذنان. وشعر أمين نخلة هو شعر الأذن والعين معا أي سحره في سماعه وقراءته معا.
من نافلة القول إن أمين نخلة كان متقنا للفرنسية ومطلعا على شعراء الرومانطيقية الكبار كموسيه وهوغو ولامارتين، ولكن عبقريته عربية بحتة لم تتأثر كثيرا بنسائم الثقافة الغربية والشعرية الغربية. كما شكل أمين نخلة حالة جديرة بالتقدير في موقفه الإنساني من الثقافة الإسلامية التي كان يعتبرها ثقافته ـ وهو المسيحي القح – وتقديره لنبي الإسلام حتى إنه كتب مقدمة لكتاب «نفسية الرسول العربي» لإسكندر الرياشي ( 1888/1961) حيث باح بحبه وتوقيره لنبي الإسلام، وهذا شأن العروبيين جميعا الذين يعتبرون الثقافة الإسلامية لا تنفصل عن العربية، وأنها ثقافتهم وهذه خصيصة تزيد ولا شك في تقديره.
والواقع أن كل شعراء لبنان في الداخل والمهجر اتسموا بهذه الخاصية كجبران ونعيمة وجورج صيدح وإلياس فرحات ـ على الرغم من أن نخلة ليس مهجريا ـ وهذا يدل على مبلغ التقبل والتآلف بين العرب في القرن المنصرم، بين المسيحيين والمسلمين على خلاف هذه الأيام، حيث تقاتل أبناء الملة الواحدة ناهيك من أبناء مختلف الملل.
كاتب من الجزائر
بارك الله فيك