أناشيد الاصرار ضد بكائيات اليأس

حجم الخط
1

على شبكات التواصل العنكبوتية العربية تنتشر كتابات النًّادمين واليائسين ومثبطي العزائم. منهم من يبكي تحطٌّم أحلام جيله القومية في قيام الوحدة العربية وفي تطبيق مبادئ الاشتراكية وفي حريًّة الأوطان وفي النضال الشعبي العربي الواحد.
ومنهم من وصل إلى حافة اليأس من امكانية تحقيق أيًّ إصلاح في مجتمعات العرب المتخلًّفة الموبوءة بأمراض الطائفية والقبلية والتزمُّت الديني.
ومنهم من يريد أن ينقل قنوطه وتعب ذاته وضياعه إلى أجيال المستقبل، وبالذات شباب ثورات وحراكات الربيع العربي.
والمحصٍّلة أن جميع هؤلاء يريدون إدخال الأمة في دوًّامة النًّقد العاطفي السًّلبي العبثي للماضي والحاضر، بدلاً من ممارضة النًّقد الإبداعي الموضوعي المحفًّز والمجيٍّش لقوى الأمة والمشجًّع على السًّير في الدًّرب النضالي الطويل، دون إضاعة للوقت بلطم الخدود وذروف الدُّموع، والبكاء الطفولي المعيب على فرص مبشًّرة كبرى ضاعت لأننا لم نحافظ عليها كالأناس الناضجين العاقلين.
بصراحة تامة ليس الآن أوان مثل تلك الكتابات، وإذا كان اصحابها قد تعبوا من المشي في دروب النضال الصعبة، وانطفأت في داخلهم أنوار الإصرار على مقارعة مظالم الحياة العربية فليخرجوا من تلك الدروب، وليجلسوا تحت ظلال شجر القنوط والإستكانة بانتظار تعفًّن أرواحهم البطيئ.
ذلك أن الأمة لا تحتاج في ساحات معاركها الحالية للنائحين المولولين، وإنما هي بأشد الحاجة لمنشدي أناشيد النصًّر الآتي، طار الزمن أو قصر، ولعازفي سمفونيات القدر المجلجل الذي يدقُّ على الأبواب بيد شباب القوة والشجاعة والاستهانة بالسجون والتعذيب والموت على يد الطغًّاة الظالمين.
بعد هذه المقدًّمة، وهي نقد وإشفاق ورجاء، دعنا نطرح الأسئلة التالية :
ما الذي يجعل من هؤلاء نائحين يائسين ومتعبين؟ أهي العثرات والإنتكاسات، بل وحتى الهزائم، التي حلُت في هذه السًاحة أو تلك من ساحات ثورات وحراكات الربيع العربي؟ فماذا كانوا ينتظرون؟ أن تكون مسيرة الثورات وحراكات التغييرات الكبرى نزهة ولبناً وعسلاً، لذة لغير المضحًّين الفاعلين؟
الجواب على تلك الأسئئلة واضح مدويًّ في تاريخ انتفاضات البشرية الكبرى عبر القرون. لم توجد قط ثورة أو حركة تغيير كبرى دون آلام وأثمان مدفوعة وصعود وهبوط وانتصارات وهزائم وفترات قنوط وساعات أمل. واذن فلماذا الخاصيًّة المحبطة المضعفة التي يراد إلصاقها بالعرب دون سائر البشر؟
ثم، هل الربيع العربي شجرة لا جذور لها ولا تربة؟ أليست ممتدة في نضالات التاريخ البعيد ضد مظالم الملك العضوض وزبانيته ومرتزقته، ضدُ زحف المغول والتتار، ضد الإستعمار والصهيونية، ضد مؤسسات الحكم اللاديمقراطية، ضد استئثار الأقلية بخيرات الأوطان، ضدُ التخلف الحضاري وغياب التجديد والإبداع، ضد وضد إلى ما لانهاية؟ فهل هذه شعوب تستأهل الذمً والهجاء واليأس من مستقبلها ومن شبابها؟
وهل يراد للملايين العرب الشهداء الذين ضحّوا في سبيل رسالات السًماء ونداءات الأنبياء وألق الحريُة وكرامة الإنسان وعدالة الحياة وأخوة البشر والمساواة في الفرص، هل يراد لهم أن يبكوا في وحشة وسكون قبورهم حسرة على ما بذلوا وما ضحُّوا؟
ثم، ألا تكفي أصوات الخزي والعار من خدم السلطات والمال والجاه الشًّامتين الرَّاقضين على أوجاع ومآسي الآخرين حتى نضيف إليها أصوات اللُّطم واليأس والإنسحاب الذليل؟
من هنا الأهمية القصوى أن لا يقف المؤمنون بقدرات شباب العرب الهائلة، بسخائهم في بذل التضحيات، بأحلامهم بأن يعيشوا في عوالم الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، بحقًّهم في تكافؤ فرصهم وتساوي مواطنيًّتهم، في كل ذلك وأكثر، أن لا يقفوا متفرًّجين وهم يرون جحافل الشًّماتة واليأس ينعقون، سواء بقصد أو بغير قصد، وذلك بدلاً من أن ينشد هؤلاء المؤمنون بشباب الأمة أناشيد الحياة والأمل والصُّعود والفرح والصًّبر.
ما يحتاج هؤلاء الشباب أن يسمعوه ليل نهار هو ما فجًّروا به ثوراتهم وحراكاتهم: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدً أن ستجيب القدر. هم بحاجة، وهم يستعيدون أنفاسهم، أن يسمعوا ماقاله شاعر إيرلندا سيموس هيني: لكن مرة في حياة الإنسان تصعد موجة العدالة التي كانت شوقاً عند ذاك يتناغم الأمل والتاريخ. نعم ويتحرك التاريخ إلى الامام ويصعد الى الأعالي.
منذ خمسين سنة وقف الزعيم العمالي البريطاني الشهير هيو جيسكل يخطب في مؤتمر حزبه: هناك منَّا من سيحاربون، ويحاربون، ثمً يحاربون مرة أخرى لانقاذ الحزب الذي نحل. في ساحات محن بلاد العرب الحالية لينشد شباب العرب بأنهم سيحاربون، ويحاربون، ثم سيحاربون مرة أخرى لإنقاذ انتفاضة أمتهم التاريخية عبر وطنها العربي الكبير، ورغم كل المعترضين المولولين اللاطمين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي، غربستان:

    الاستاذ فخرو، تستحق التحية على هذا المقال

إشترك في قائمتنا البريدية