مصر – أحمد ندا : «أيتها السماء: أين العدل؟ عندما تُمنح الموهبة المقدسة، والعبقرية الخالدة، لا كمكافأة على الحب المتوقد ونكران الذات والكدّ الشاق، والمثابرة، والصلاة. بل لتُنير رأس مجنون عابث؟ موتسارت، منذ الآن أنا عدوك».
كان أنطونيو سالييري في أعتى لحظات ضعفه. الهشاشة التي تحولت إلى غضب من الرب حين لم يمنحه ما يقابل هوسه بالموسيقى، كان يبحث عن شيء من عدالة مقابل محبته اللامحدودة. ليجد كل ما تخيله قد تجسد في شخص فولفغانغ أماديوس موتسارت، لم يكن، في نظر سالييري، على مستوى «عطية الرب»، لم يكن موتسارت «راقياً» ولا مقدراً للوحي الإلهي الممنوح له.
من مسرحية بوشكين مرورا بأوبرا كورساكوف إلى فيلم ميلوش فورمان، فُتن العالم بثنائية موتسارت سالييري، الموهوب والمجتهد، أو الموهوب والأقل موهبة، أو اللامع والأقل لمعاناً، فإذا كانت شائعة قتل موتسارت على يد سالييري قد خُلّدت بكل الأشكال الفنية مسرحا وأوبرا وسينما ورواية، فالتاريخ أو محاولات كتابته نفت هذه القصة تماما، لكن من يأبه للبحث عن الحقيقة؟ ابن موتسارت نفسه قال إن سالييري لم يدس السم لأبيه بالتأكيد، لكن غيرته سممت حياته. الثابت أن التاريخ والخيال اتفقا أن سالييري «انطفأ» أمام الظل العالي للفتى الأسطوري أماديوس.
ما كل هذه القسوة تجاه سالييري؟
في الصف الثاني الثانوي ذهبت لأعتمر وحدي هذه المرة. أهلي تركوني للذهاب إلى مكة من دونهم في واحدة من فلتات القدر. كنت سعيداً بالرحلة وأنني أخيراً سأطوف وأسعى وأطلب من الله ما لن يتدخل فيه أبي وأمي. وطوال ممارستي للشعائر كنت أدعو دعاء واحداً «يا رب أبقى شاعر عظيم يا رب أبقى شاعر عظيم».
اقتربت من الحجر الأسود لأول مرة في حياتي. أنا هنا على مقربة كبيرة من الله، يجب أن يسمعني جيداً فيما أطلبه، «يارب أنا أريد أن أكون شاعرا استثنائيا، أنا أحب الشعر يا رب وأريد أن تتحول محبتي هذه إلى استجابة منك». وقتها لم أكن قد شاهدت فيلم أماديوس ولا أعرف عن موتسارت غير ذلك العبقري الذي ألف سيمفونية في طفولته الباكرة.
انتهت المناسك وجاء وقت حلاقة الرأس لخلع ملابس الإحرام. أمام الحرم مئات من الباكستانيين والهنود ينتظرون متممي المناسك ليتلقفوا رؤوسهم، الرأس بعشرة ريالات. لساني لم يتوقف عن الدعاء «يا رب أبقى شاعر عظيم»، كأنني مجذوب في حلقة ذكر. أرمي نفسي في سيل الحلاقين ليتلقفني أحدهم: شاب باكستاني أجلسني على كرسي صغير وأخرج الموسى خاصته، وبدأ في إزالة شعري تماما، وأنا شارد عنه إلى خيالات استجابة دعوتي الوحيدة وقتها، ليقول لي بعربيته ذات الغلاف الباكستاني « ليه عمو تدعي ربي كأنه انت مش موجود؟»
فسألته: «شو يعني صديق؟»، فقال لي: «عمو انت جرب التقرب من الله وحيفهمك».
وقتها لم أفهم من كلماته إلا رسالة من الله. علامة على أنه سمعني. كأنه يقول لي سمعتك يا أحمد لكني لن أعطيك ما تتخيله فهو ليس لك. جرب كثيرا حتى تستطيع أن تكون «مجتهداً»، كأن يقول لي: «الموهبة كالنبوة، ليس لأي طالب». أفهم الآن أنني كنت أمشي على طريق سالييري دون أشعر.
اليوم زادت هواجسي من إصابتي بمتلازمة سالييري. عقلي يفكك فكرة الموهبة ذاتها ويفهمها في سياقها الإنساني، موقعها وسط حمولات معرفية وتاريخية، من كان «عادياً» في وقته، تحول إلى استثنائي في وقت آخر، ثم يعود عادياً في وقت تال، «العبقرية» في الفن سلطة تحددها عوامل خارجها.
في ذهني أقول الكثير من الكلام «العاقل» محاولاً دفع الهاجس المميت، لكن الحلم الطفولي الذي لازمني منذ الثامنة يخاف. لا يفهم هذه الترتيبات العقلية. ما زال يرى ذاته في ذلك المكان الخيالي المشابه لشكل السماء في قصة الإسراء والمعراج، حيث محمد يؤم الأنبياء، وذلك الطفل ذو الثمانية أعوام يؤم الشعراء.
سالييري، أنا أعرف ما تمر به، وأفهم غضبك، سالييري يا صديقي المسكين، ربما أنا أجلس إلى جوارك الآن، غير أن كل من سواي موتسارت، أنا أخشى الجميع.
كاتب مصري