لا شك أنكم تعرفون – يا سادة ويا مادة – مثلا عربيا عاميا يقول: من قِلة الرجال سموا الديك « أبا علي». لهذا المثل قصة أقصها عليكم لا لغرض الإمتاع، فلكم ألف قصة وقصة في ألف ليلة وليلة تتمتعون بها، ومعها عطر شهرزاد وما ملكت أيمانكم.. أقصها لغرض ستعرفونه بعد قليل.. قصة المثل بطلتها امرأة ترمّلت، فطمع فيها رجالُ الليل، يقصدون بيتها ويطرقونه ممنين النفس بخلوة بعد العشاء بقليل، لعل الله يغفرها لهم..
كانوا يطرقون ولا مجيب. خشيت تلك المرأة من كثير من الأشياء، ومن أخوتها الرجال الستة (ولا أدري لمَ هم ستة وسابعتهم امرأة ؟) المهم أنها فكرت في حيلة تبعد عن نفسها أذى طارق الليل. كان كلما طرق طارق صاحت ألم تسمع الباب يا أبا علي! قم إليه فافتحه وأكرم طارق الليل يا كريما أنت يا أبا علي.. فيفر الطارق بجلده.. سمع شرفاء الصباح – وكان منهم طرّاق المساء- بأن هناك من يشارك الأرملة دارها واسمه أبو علي. شرّف الصباح المنسي في المساء يدفع الفارين إلى القصاص منها.. دخل الإخوة الستة دار أختهم لإقامة محاكمة الشرف، محاكمة لا يخرج فيها المتهم بريئا إلا بمعجزة تشبه نطق المسيح في المهد. طرحوا سؤالهم المورط: من أبو علي؟ قالت: ما هذا بشرا.. إنه الديك.. من قلة الرجال الذين يحرسونني، سميت الديك أبا علي.. هل تعرفون من هي تلك المرأة إنها أنا.
لم يكن من عاداتنا أن نسمي الحيوان باسم، لكنني قابلت بالصدفة السعيدة امرأة منعمة، كانت متعلمة هي بنت الحاكم دار حدثتني عن أقرب الكائنات إليها، وكانت تسميه بلا خجل فيحمر وجهي، وأخاف أن يسمعني زوجي أو أخوتي الستة، فيقتلونني لمشاركتي في المنكر؛ وما فرّج الله كربي إلا حين عرفت أن ذلك الاسم هو اسم جوادها، حصانها الذي أهداه لها والدها، كان يمشي بها أحسن مما تمشي بها قدمها إلى أفضل مما تمشي بها قدمها.. كان اسمه رئلان. قال لي زوجي قبل أن يموت طبعا، وكان يعلّم أبناء الحاكم دار اللغة والأدب ـ إن الرئلان هو جمع يطلق على أبناء النعامة. خجلت أن أسأل زوجي عن النعامة فيهزأ بي.. لكنني تخيلتها حيوانا جميلا، بل إنني تمنيت أن أنجب ولدا فكرت في أن أسميه رأل.. نهرني زوجي، رحمة الله عليه، وقضى قبل أن ننجب.. كان المسكين متعبا كثيرا يدّرس الصبية، ثم يراجع رسائل الحكمدار، بل إنه يبقيه أحيانا إلى وقت متأخر ليساعده في كثير من المسائل التي لا أفهمها، كان يعود منهكا فينام وأسهر مع ابني الذي لن يأتي.
مرض زوجي فلزم البيت وانقطع عن تعليم الصبية، فأمسك الحاكم دار عنه الجراية وطردنا من الدار، لم يعد لنا من خيار إلا حق العودة إلى ريفنا، حيث أهلي وأهله، فأقمنا في بيت أبي القديم.. كان حوشا واسعا كثير الغرف.. مات زوجي بعد وقت قليل وظللت أسكن في ذلك الحوش وحيدة.. ربيت الدجاج والديوك وتمكنت من أن أشتري شيئا من الأغنام قلت أعيش بها إلى أن يأتي زوج جديد.. في أسبوع العزاء الأول كان إخوتي حاضرين، وكذلك زوجاتهم العشرة، لكن حين انتهت مدة العزاء تركوني لوحدتي.. كنت أعرف الناس وكنت أطمع في أن يتزوجني أحدهم من جديد، لكنهم اكتفوا بطرق بابي في الليل.. فتحت لأول الطارقين تَبَالُهًا.. كان يطلب السهر سرا أو شرا لا أدري.. كان قبيحا جدا تنبعث منه روائح متداخلة النرجيلة مع الخمرة مع رائحة الخرفان.. أغلقت الباب.
سألوني عن سر أبي علي هذا أشرت إلى الديك، كان مزهوا وقتها اغتم قضاة الشرف لكن أعجبتهم الحكاية.. أبو علي الديك يخيف أبا علي البشري ويجعله يختفي فارا متعثرا في جلبابه النتن.
ترك لي زوجي، رحمة الله عليه، قليلا من المال وكثيرا من الكتب كنت أتهجى الحروف لكن طول الليل وحراسة الشرف ومالي زينة دنياي الوحيد يجبرني على السهر فأفتح ما اتفق من الكتب وأقرأ بلا هدف. ليلتها فتحت كتابا في الأسماء كان يتحدث عن أسمائنا نحن البشر، ثم انزلق إلى الحديث عن أسماء الحيوانات. وجدت في ذلك الكتاب أن العرب يمكن أن تسمي الحيوانات بأسماء البشر.. اخترت لشياهي الأسماء واخترت أن أكنيها بأبي الذكور وبأم للإناث. سميت في الأول الخرفان والماعز جميعا.. وجدت عنزا مخشوشنة ذات مرة فحرمتها من اسمها المؤنث وذكرتها وكنت أناديها باسمها الجديد، والعجيب أنها كانت تبدي أصنافا من العصيان والاعتراض على ذلك الاسم فتمأمئ باخشيشان، فأضحك شماتة وسخرية بها لكنني أرجعت لها اسمها القديم حين قل أكلها وخف ضرعها. وجدت في بعض كتب زوجي أن تسمية الحيوان الذكر باسم مؤنث من أسماء البشر ممكن قلت في نفسي سبقتك أيها المفتي اللغوي إلى فعل ذلك، قبل أن تشرّع لي، سبقتك لأنني وجدت في تجربتي اليسيرة أن الأسماء يمكن أن تلقى بلا قيود، وأن الأمر لو كان لي لحرمت من يطرق بابي بليل من اسمه بل من نفسه.. هم جبناء يخافون من الأسماء، يعتقدون أن الاسم هو المسمى وربما اعتقدوا أنه بطل رعديد هذا اعتقاد الجبناء، وربما كان اسم الطارق شدادا أو صالحا أو عليا، وهو يحمل في ذاته نقيض اسمه.. بتّ أعرف من سهر الليل مع الكتب أن الاسم لا يفيد معناه، لكن من أين أن يعرف طرّاق الليل هذا الكلام. ما أعظم الأسماء لأنها تطلق دلالاتها الفاسدة أو الكاذبة. فكّرت أن أسمي الفراخ والديوك والدجاجات فسميتها أحدها أبا علي هكذا بلا نية مسبقة. كان ديكا مزهوا بنفسه مختالا بين دجاته فخورا. كان حين يعثر على دودة – وهي طعام دسم للدجاج- ينادي دجاجاته وكان عددهن يزيد وينقص حسب كيمياء نفوس الدجاج.. وكنت أحيانا أتوعده بأن أذبحه ليلة من الليالي.. كان أبو علي الديك أول من يصفق بجناحيه ويؤذن في الفجر.. كان يظنني نائمة ليوقظني، أما أنا فكنت أنتظر أن يؤذن لأنام.. حدثته بأنني سأرسله إلى الجحيم في أول طرقة باب.. طُرق الباب ناديته ليخاف كانت النية أن أنتقم من الديك فإذا بي أكتشف أن من يخاف كان ديكا بشريا، يظن أن به قوة وخيلاء.. كنت أتخيل في الأول الديك وهو يخفي رأسه بين جناحيه أو يهرع إلى دجاجاته يسألهن باسم الدود والقمح أن يحمينه من سكين الليل، فأضحك حتى تدمع عيناي وأعيد الكرة لأضحك من جديد.. لكن حين أخبرني أهلي بالحكاية وسألوني عن سر أبي علي هذا أشرت إلى الديك، كان مزهوا وقتها اغتم قضاة الشرف لكن أعجبتهم الحكاية.. أبو علي الديك يخيف أبا علي البشري ويجعله يختفي فارا متعثرا في جلبابه النتن.
أنا لا أدري لمَ يسمي الناس الحيوان بأسماء البشر، لكنني متأكدة يا سادتي أن الحيوانات لو كانت لها أسماء لما سمت بها البشر: البشر مخيفون من قبل أن يلفظ باسمائهم. ثم لمَ قد تحتاج دجاجة مات ديكها أن تفعل ما أفعله؟ هي لا تختفي وراء الأسماء فتتصيد من طرق بابها خوفا وطمعا.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
تسمع جعجعة و لا تـــــــرى طحــــــــــنا
سوف احتفظ بتحفك سيد توفيق بأرشيفي الخاص دمت متألقا
–
تحياتي